الظاهرة الأدبية (6) في ضوء نظرية المعرفة القرآنية
ومن الأشياء التي تغني علمنا عن القلب، أن ننظر إلى تعدد الأسماء التي وردت للقلب في اللغة العربية، وفي دلالاتها وتعددها ما يشير إلى عظمته، فكانت هذه الأسماء من قبيل أمور كثيرة منها:
1.الترادف الافتراقي: ويكون ذلك عندما تحل صفة الاسم أو بعض منه، محل الاسم في الاستعمال فتدل عليه، وتصبح كأنها اسم ثان له، فهي ترادفه في جزء من معناه أو دلالته، ويفارقها الاسم فيما يحمل من المعاني الأخرى الجامعة للمعاني جميعها، ونحن نرى وجود الترادف بهذا المعنى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]. فقد سماها أسماء تدل على لفظ الجلالة، لأنها تترادف معه في الدلالة، وفي المعنى الذي يحمله كل اسم منها، ولكن لفظ الجلالة يفارقها في الدلالة على الأعم والأشمل، فالترادف يعني مجرد المشاركة في المعنى، وليس من الضروري أن يدل على التطابق التام، الذي نتفق مع العلماء على نفيه، وكذلك تعدد أسماء القلب، ففيها من الترادف ما يدل على المشاركة في بعض المعاني وفيها من الافتراق ما يدل على معانٍ أخرى.
2.أو إطلاق الجزء وإرادة الكل.
3.أو إطلاق الكل وإرادة الجزء.
4.أو إطلاقٍ يدل على عموم ما يتعلق به من موجودات أو وظائف أو أسرار، وذلك لكثرة وظائفه، وغموض جوهره، وجلال قدره، وعلو شأنه في عملية المعرفة وغيرها. ومن هذه الأسماء: (القلب، والفؤاد، واللب، والذات، والنفس، والعاطفة، والإرادة، والوجدان، والضمير، والنوايا، والمقاصد، والهوى، والشعور، والبال، والعقل، والسر، والروح، والبصيرة، والسريرة، والأنا، والنُّهى، والخلد، والجِنان، والخاطر، والحِجر). هذا هو القلب مرآة حال الشخصية بكل نوازعها، ومع ذلك فنحن ما أوتينا عنه من العلم إلا قليلاً.
معالم النظرية (تشكل مفهوم العقل):
يختلط مفهوم كلمة العقل على عامة الناس، ولا يملك عنه أهل العلم إلا القليل، فنحن إذا دققنا النظر في بعض العبارات المتداولة على ألسنتهم نحو: فلان ذكي الفؤاد، وفلان صاحب دماغ عبقري، وفلان لا يسمع لأحد ولا يرى نفسه إلا على صواب؛ فإننا نجد أن بعضهم قد ظن من هذه العبارات وما يشابهها أن العقل هو الدماغ، وبعضهم فهم أنه القلب، والآخر ظن أنه الحواس. وقد نسي هؤلاء أن من أساليب اللغة العربية في التعبير إطلاق الجزء مع أنه يقصد الكل، أو يطلق الكل ويريد به الجزء.
والحقيقة أن كلمة العقل أكبر من الدماغ وحده أو الحواس وحدها أو القلب وحده، بل هي الكلمة الجامعة (للحواس والدماغ والقلب)، وأن جميع ما ذكر هو من قوة التمييز والعقل.
ونجد مصداق ذلك من القرآن الكريم، حيث أطلق فعل العقل على القلب {لهم قلوب يعقلون بها} [الحج:46]؛ وذلك من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل، ليدل على أجهزة العقل كاملة، لكنه ذكر القلب لأنه آخر المراحل وأرقاها في تدرج عملية المعرفة من الواقع إلى الحواس، ومن الدماغ إلى القلب.
وفي قوله تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر} [آل عمران:52]، ذكر الجزء وهو الحس لكنه قصد عملية الإدراك بكاملها؛ لأنه رأى كفرهم متجسداً أمام حواسه بسلوكهم وأفعالهم، وتحققه بدماغه وقلبه. ومع أننا نقر أن جوهر العقل شيء غيبي لارتباطه بالروح التي هي من أمر الله، إلا أن ظاهرة العقل فيما نلمسه من حالة الوعي الظاهرة عند الإنسان من خلال ما قدمناه، تدل على أن مصطلح العقل يعني مجموع (علم الدماغ علم القلب). ولذلك فهو يدل على الأجهزة الظاهرة للعقل، وهو يدل أيضاً على ثمار هذا العقل؛ حيث العلم الذي يجعل الإنسان قادراً على التمييز ويعقله عن الوقوع في الخطأ، من خلال هذا الميزان الذي يتكون من قطبين هما: (الدماغ بحواسه) و(القلب بمملكته) وهما يتجاذبان عملية العلم والمعرفة تجاذباً يضمن لهما التطور والاستمرار. ويمكننا إلقاء الضوء على عملية التجاذب تلك وإيضاح معالمها من خلال النقاط التالية:
1.علم الدماغ: نسمي (المعرفة) التي يتحصل عليها الدماغ أثناء عملية التفكير في المعلومات القادمة عن طريق الحواس، والوصول بها إلى مرحلة استنتاج (الحقائق والمفاهيم والأحكام) بـ(الحقائق الدماغية الفكرية)؛ لأنه يحاكم ويميز من خلال منهج يضبط عملية التفكير حتى يصل بها إلى مرحلة الاستقرار والثبات أو إلى حالة التساؤل والبحث الذي يدفع بها إلى عمليات تفكير جديدة.
2.علم القلب: نسمي (الموقف) الذي يصدره القلب على ضوء الحقائق الدماغية القادمة إليه من جهود الدماغ في التفكير بـ(قيمة الحقيقة)؛ لأنه يحكم على حقائق التفكير الدماغي أو مفاهيمه من خلال مركب من مشاعر التصديق والرضى والقبول، أو من خلال مركب من مشاعر الرفض والخوف والقلق أو منهما معاً، وهي عبارة عن ردة الفعل الطبيعية لدى فطرته أو موقفه الشعوري، حيث يرى قيمة هذه الحقائق وفائدتها في إشباع فطرته وعواطفه ومشاعره وإرادته وحاجاته، كأن يصدر مشاعر الفرح قيمة لحقيقة النصر، أو أن مشاعر الحزن قيمة لحقيقة الهزيمة، أو أن يصدر مشاعر الحزن والهلع قيمة لحقيقة الموت، أو أن يصدر مشاعر الكره والحقد قيمة لحقيقة الظلم والاضطهاد، أو أن يصدر مشاعر مركبة من رصيده الفطري الشعوري تجاه أحداث ومفاهيم وحقائق يكابدها في الحياة.
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 854