قراءة في أوراق الأديب الأسير إبراهيم عاصي
إبراهيم عاصي أديب سوري ، ولد عام 1935 م في مدينه جسر الشغور / شمالي سورية / صدر له في مجال القصة القصيرة والنقد الاجتماعي أكثر من كتاب كما في (سلة الرمان/ ولهان والمتفرسون / حادثة في شارع الحرية / للأزواج فقط / همسة في أذن حواء )
وقد كتب عن أدبه الناقد محمد الحسناوي والدكتور عماد الدين خليل والأستاذ محمد حسن بريغش والدكتور مأمون فريز جرار وكاتب هذه السطور،و قد طبع أكثر إنتاجه في دمشق والدوحة وبيروت والقاهرة. وقد مضى على اختطافه (اعتقاله ) أكثر من خمسة وثلاثين عاماً ، و انقطعت أخباره كالآلاف من المعتقلين وهو إلى جانب الكتابة الأدبية و الفكرية والاجتماعية ، كان خطيباً متميزا ومحاضرا ناجحا ، و ناشطاً في مؤسسات العمل الخيري الأهلي.
عرفته أستاذا لي في المرحلة المتوسطة والثانوية ،وعاصرته زميلا في التدريس ،وأخاً رائداً في العمل الإسلامي والإصلاح الاجتماعي .
ضيق عليه في مجال التعليم ما بين نقل داخل المحافظة ، أو إبعاد إلى محافظات أخرى ثم تغيير في العمل بنقله من التعليم إلى دوائر خدمية !؟
وجدت من المناسب أن أطلع القراء على بعض ما لم ينشره قياما بحقه وتوضيحا لفكره وأدبه ومواقفه تمهيدا لإصداره في كتاب كان قد كتب مقدمته بعنوان (من حصاد الأيام )
وهاأنا ذا أنتقي للقارئ بعضا مما جاء فيه :
يقول أستاذنا الحاضر الغائب في فقره تحت عنوان ( الشرف العظيم ) : شرف للإنسان عظيم ، بل خير له ألف مرة ،أن يقال عنه : فلان قضى _وهو في شرخ الشباب _ في سبيل الله ، من أن يقال عنه : "فلان عاش حياته الطويلة كلها وهو يتغنى بُحب الله ؟*
وتحت عنوان " وجوه الظُّلاّم " يقول :
لقد قرأت الظلم في عيون كثيرة ، ورأيته في وجوه شتى ، ولكنني ما قرأت وما رأيت ظلماً هو أوضح صورة ، وأدق تعبيرا منه في وحل جلَّده الصقيع ، إنه وحل خشن ، صلب ، كز ، متحجَّر ، لئيم . على أنه ما أسرع ما يميع لمجرد أن يمسه أول خيط من دفء شمس ونور ؟!!
وكذا الظلم والظلام .. فبرغم لؤم النظرة ، وكزازة الوجوه فإن نور الحق سرعان ما يفضحهم ، شمس الإرادة سرعان ما تصهرهم وتجريهم وحلا ذائبا أذل من الطين !!
وتحت عنوان " الأخلاق والنقد " يقول :
أخلاق بلا دين كنقد بلا تغطية ! فهذا زائف موقوت ، وإن تداوله بعض الناس وتلك وقتية زائلة ، و إن تحلى بها بعض الأشخاص .
أخلاق صادرة عن دين ، كنقد يدعمه الذهب فهذا يزداد قوة ، ويعظم نفوذاً بتعاظم رصيده من السبائك ، وتلك تزداد رسوخا وأصالة بتزايد الدين الذي يغذيها ، والإيمان الذي يحوطها ويحميها .
وعن معادن الأشياء وجوهرها يقول تحت عنوان ( الحديد …والجوهر ) : قد تتسلل قطعة من حديد في غفلة من الدهر لتستقر بين اللآلئ المتوهجة في تاج الملك !
وقد تسقط في التراب جوهرة ، كانت يوما على تاج ملك إلا أنه مهما امتد الزمن ، فإن (الحديدة) لا تصير لؤلؤة بينما تظل (الجوهرة ) جوهرة .
وفي تلك الفقرات القصيرة نقرأ عن (العنيد والشديد )
العنيد إنسان إذا اصطدم بصخرة ، لم يجد وسيلة لتحطيمها إلا رأسه .والشديد هو الذي يحتال عليها مستخدما في تحطيمها رأيه وفأسه .
وأما التافه والأتفه ، فالذي يعيش بلا مبدأ إنسان تافه ، أما الذي يعيش راقصا على حبال المبادئ فهو أتفه !
وعن الأزواج والقهر يقول :
حيثما وجدت زوجة مقهورة في بيتها ، فاعلم أن وراءها زوجا لئيما ، وحيثما وجدت زوجاً مقهورا في بيته ، فاعلم أن وراءه امرأة عقورا ً
وعن المغرورين كما في " أذن المغرور " يقول : قلما تجد إنسانا يصم أذنيه عن سماع كلمات الإطراء والثناء عليه . ولكن المغرور هو الذي لا يفتح أذنيه إلا لها!!
وعن أصناف الناس في " ناس وناس " يقول : مِن الناس مَن يرى كل الناس خيرا منه فذاك هو المتواضع فليُحتَرم ،ومِن الناس مَن نفسه ندا مكافئا لكل الناس ، فذاك هو المعجب بنفسه فليُهمَل .
ومِن الناس مَن يرى نفسه فوق كل الناس ، فذاك هو الحقير فليُحتَقَر !!
وعن الإحسان ومراتبه كما في فقرة "إذا أحسنت " يقول :
إذا أحسنتَ لمحسن إليك فأنت البرُّ الوفي
و إذا أحسنتَ لمن لم يُحسن إليك فأنت الكريم الخفي
و إذا أحسنتَ لمن أساء إليك فأنت المؤمن الصفي
وعن الإساءة كما في " إذا أسأت " :
إذا أسأتَ لمن أساء إليك فأنت المعاقِب القادر
وإذا أسأتَ لمن لم يُسئ إليك فأنت الظالم الفاجر
وإذا أسأتَ لمحسن إليك فأنت اللئيم الناكر
وعن المغامر الجريء والمتزن العاقل كتب يقول في (أحب ..وأحب )
أحب المغامر :رجلا يثير الغبار ، لا يقتحمه … يتقدم الصف ، لا يمشي فيه ، يسترخص الغالي ، ويجود بالنفس ، ويستسهل الصعب ..لا يتهيب المجاهل متذرعاً بالحكمة وهو يخفي الفزع !!ولذا فأنا أحب من النار أول لسان لهب ينشب منها وإن كان هو أول ما يخبو !
وأحب من البراعم أول متفتح منها ، و إن كان الصقيع له بالمرصاد ! وأحب من الذُّرا أكثرها شموخا ، لا تعبأ و إن كان السيل عليها حربا !
أحب كل مَن يشق دربا ، ويكتشف بجهده مجهولا ، ويرسي بيديه أساسا ، وينحني ليجعل مِن جسمه جسرا للمستحقين من بني الإنسان .
وأحب المتزن : رجلا يعرف قبل الخطو أين يضع قدمه ، وقبل التلفظ أين يضع كلمته . أحبه عنوانَ حكمةٍ وكابحَ تهور .
ولذا فأنا أحب مَن يغلب صمتُه على كلامه ، ومن يسبق تفكيرُه فعلَه ، وفعلُه قولَه ..
أحب كل مَن لا يُبطره نصر ، أو يقتله إخفاق .. وكل مَن لا يخدعه سراب أو تستهويه بهارج ،أو يعميه ضباب !!
ولا نجد ونحن نختتم هذا العرض السريع كلمة أجمل مما قاله صديق عمره المرحوم محمد الحسناوي : لو أتيح لهذا الرجل المعطاء أن يأخذ من العيش وهو متواضع ، لأثرى الأدب العربي و الإسلامي بمكتبة أدبية لا تقل عن مكتبة باكثير و الكيلاني .. !!
قبل اعتقاله بساعات تداولت معه بشأن النـزوح عن البلد ، وموجات الاعتقال تحصد الأبرياء ، فقال : ماذا جنيتُ حتى أغترب عن أهلي وبلدي ، بلد آبائي وأجدادي و عن وطني ؟!
ولكنْ كأنه غاب عنه _رحمه الله حيا ميتا_ ما قاله قوم أحد الأنبياء بشأنه وشأن أتباعه : أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون !؟
وسوم: العدد 858