الاتجاه الإسلامي في شعر د.زكي المحاسني

الاتجاه الإسلامي في شعر

د.زكي المحاسني

عمر محمد العبسو

شاعر سوري معاصر .

ولد الشاعر الدكتور زكي المحاسني في دمشق عام 1909 م .

وتخرج من مدرسة مكتب عنبر عام 1927 م .

نال شهادة الحقوق وشهادة الآداب من الجامعة السورية معاً عام 1936 م .

حصل على الماجستير من الجامعة المصرية وكانت أطروحته عن أبي العلاء المعري كما حصل على الدكتوراه من جامعة فؤاد الأول عام 1947 م فكان أول سوري يحصل على الدكتوراه من مصر .

بدأ حياته العملية بتدريس الأدب العربي في المدرسة الحكومية التجهيزية في إنطاكية ، وتجهيز دمشق قبل نيله الدكتوراه .

في عام 1947 م عين أستاذاً للأدب العربي في الجامعة السورية .

في عام 1952 م عين ملحقاً ثقافياً في السفارة السورية في القاهرة ومندوباً في الجامعة العربية للشؤون الثقافية .

في عهد الوحدة بين مصر وسورية عمل في لجنة التربية والتعليم بوزارة التربية والتعليم في القاهرة  .

شغل منصب مدير دائرة التراث والمخطوطات في وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1961 – 1965 م .

أوفد معاراً إلى الجامعة السعودية ، وعمل أستاذاً في الجامعة اللبنانية حتى عام 1969 م .

توفي عام 1972 م .

انتخب عضواً في الجمعية الملكية للدراسات التاريخية في القاهرة عام 1952 م .

كما تم انتخابه عضواً في المجمع الملكي الإسباني عام 1970 م ، ثم عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية في مصر .

بعد وفاته قررت محافظة دمشق تسمية إحدى الساحات في حي المزرعة باسمه .

له خمسة عشر مؤلفاً مطبوعاً في الدراسات الأدبية والنقدية وعشرات المقالات في الصحف العربية .

كان متزوجاً من الأديبة العربية وداد سكاكيني ، وله منها ثلاثة أولاد : ذكاء ، وذكوان ، وسماء ، .

طبع ديوانه بعد وفاته .

إن عناية المحاسني بالتحقيق والبحث قد شغلت وقته وإن لم تصرفه عن نظم الشعر ، فقصائده كثيرة وطوالها أجود من قصارها مما يدل على أن نفسه في الشعر كان مديداً .

وليس بين قصائد الشاعر ومقطوعاته إلا القليل من المديح فلم يكن من أهل الزلفى لصاحب سلطان ، ولا سخر شعره لحاكم ، وكان حر الفكر سمح السجايا وفياً حافظاً للعهد مما جعله يرثي أساتذته وأصدقاءه ، وكان مرهف الشعور ومنطلق الخيال ومن روائع شعره قصيدته في ذكرى أبي تمام ، وقصيدة ابن سينا ، وقصيدته في النفس والبعث والخلود ، وله في التاريخ قصائد بديعة كقصيدة تدمر والزباء ، وفي الأقصر وطيبة ورمسيس ومصر العتيقة ، وعرض في قصيدته ( النيل ) تاريخ مصر القديم والحديث ، ومن بديع شعره قصيدته في ذكرى مولد النور : المولد النبوي ، وتتجلى رقته في بكائه على أمه ، وعلى أبيه ، وشقيقته ، وذكر زوجته في شعره ليدل على وفائه .

وصف الطبيعة ، فتغنى بالبحار والأنهار ، والصحراء ، وناجى الكواكب والنجوم ، وله شعر وطني ، وقومي جميل ، تنوعت موضوعاته ، وتعمقت ثقافته ، ففي شعره تجد المتعة والنشاط ويهز عواطف ويدخل البهجة إلى قلبك .

أغراضه الشعرية :

العروبة والوطن :

تحدث عن النكبة والهزيمة ، وغنى للبنان والشام ، ووصف بغداد وأمجاد الرشيد فيها ، وكتب قصيدة عن دمشق والقاهرة ، ومزج بين العروبة والإسلام ، وأنشد في مهرجان الجلاء ، وشارك في مهرجان الشابي في تونس عام 1965 م ، وكتب لمراكش ، وخاطب فتاة الجزائر ، وصور جراح الأمة .

الوجدانيات والتأملات :

وشعره الوجداني يصدر عن نفس مرهفة وحس رقيق ، وجاءت تأملاته : لهفة المستغيث ، ميكيل آنج والمتنبي ، صورتان ، أربعة ، إعجاب واعتزاز ، حواء وفيها يقول ك

في جنة الخلد بين الزهر والماء          أفعى تلوح لحواء باغراء

لم يدر رضوان كيف الباب أدخلها     وكان يحذرها كالحذر للداء

ثم يبدو الشاعر قاسياً في أحكامه على المرأة فيقول :

خبث النساء من الأفعى التي غبرت       فهن أمثالها في كل نكراء

لمس يلين ولكن فيه معطبة             ومهلك الجسم في بسم واغضاء

لو يخبر السيل عن كيد النساء لما       هفت خواطرنا دهراً لغيداء

ويعتذر لزوجته الحبيبة رفيقة العمر في النعماء والضراء :

ماذا أقول ولي منهن واحدة          خدني على العمر في نعمى وبأساء

ومن شعره الوجداني : الصديقة ، الأقلام السامة ، دقات قلبي ، صوت من قبل الوجود ، الأذن تعشق ، الله نبع المحبة يقول فيها :

الحب يفنى ويبقى          ودّ تعبّد ربه

فاشرب من الصفو كأسا    فالله نبع المحبة

وللشاعر أقوال مأثورة في الصداقة ، قصيدة للزهراء ، الشاردة ، مناجاة من الأودية ، خطرات على صيفي ، تجرد الروح ، صوفية الفن ، دربي ، عرس الشعر ، العام الجديد ، خيال وحقيقة ، صدى ، اللحن الشرود ، لوحي ، واحة ، الصوت الحزين ، الشاعر ، الحرب ، أنا أسطورة ، إخوتي ، سحر العيون ، أنت الوجود ، ريحانة الذكرى ، الجحيم ، سيرين ، حنين ، غاوية ، خانم ، صديقي ، روح الحبيب ، يابنت ، منادمة صورة ، البيد ، أحلام الإنسانية ، الألم العظيم ، مزاح ، عتاب وحنين ، شياطين الشعراء ، ....

ومن الأغراض الشعرية في ديوانه :

الوصف والتصوير ، أندلسيات ، قصائد عائلية ، ذكرى ورثاء ، في المديح ، اجتماعيات .

الاتجاه الإسلامي في شعر زكي المحاسني

الصلاة ، إلى الله ، ميلاد المسيح ، حنين إلى المدينة المنورة ، الطائف ، في الأزهر ، كوكب أحمد ، خطرات مكية ، مشعل الصحراء ، جبال مكة ، طيف الهجرة ، شوق .

إلى الله :

يتضرع الشاعر إلى الله الذي هو  ملجأ الحزين ، ومفزع كل ملهوف ، فيقول :

يارب من غيرك عون الحزين         في شدة الشكوى وطول الأنين

العين قد بيضها دمـــعها          والغم تدنو منه كأس المنون

والقلب أضناه احتمال الأسى      فخفقه يحتشه للسكون – ص 163 .

فلا ملجأ من الله إلا إليه ، فهو عون الحزين ، الذي ابيضت عيناه من الحزن .

ميلاد المسيح :

ويتذكر نبي الرحمة والسلام عيسى عليه السلام ، ويتذكر قصة أمه البتول ، ويؤلمه أولئك المستعمرون الذين يتمسحون بذلك النبي الكريم ، بينما أيديهم ملطخة بالدماء .

قل للإله لقد منحت مسيحا        فالأرض تحمد أنعماً وسموحا

كانت على الرومان تدمى فتنة      في جاحم ٍ ترك الأنام طليحا

هل تعلم العذراء أن شجونها       خلدت فصارت في الضلوع قروحا

أفدي الذي جاروا عليه فقيدوا       كتفيه واشتطوا به تطويحا

كفروا به ، برسالة ، كمحمد        والصبر غالبهم فكان رجيحا

يا واحد الغرباء صرت وسيلة       للنازحين وما أردت نزوحا

حطموا الشعوب وأردوها حتفها     وعدوا مصالحها فكنت صفوحا

إن تاجروا بك فالخسار عليهم ُ         والسوق لا تدع الفساد ربيحا – ص 164 .

حنين إلى المدينة المنورة :

ويشتاق الشاعر زكي المحاسني  إلى مدينة الرسول ، فيقول :

خل الحبيب ليومك الماتع        وأنشد هواك مع الصفا الراتع

مالعيش لولا الحب محتمل         فالحب بلسم سحره الشافع

جفت ينابيع الحياة إذا       ما أقفرت من بسمة الوادع

ويجري حواراً مع أمه الحنون ، فهي كانت معه في زيارته لتلك البقاع الطاهرة ، فيقول :

قالت : تعال نزر ديار هدى          فيها الرسول بنوره الساطع

أمحمدا هذي يدي بسطت        تبغي لقاءك في المدى الشاسع

كنت الصغير وجئته معها       وفؤادها للقائه خاشع

ثم انطوى عمري وعاودني        من بعدها حب إلى الجامع

بأبي الرسول وطيب معهده        وعلى المدينة أنسه الشائع

بلغ سلامي أهل دارته          في خزرج والأوس لي طالع – ص 166 ، 167 .

في الأزهر :

الأزهر الشريف أكبر مؤسسة تعليمية إسلامية ، يمتد في التاريخ عبر العصور ليغطي مئات السنين ، ويمتد في البلدان لينشر الهداية وأنوار العلم الشرعي في الأصقاع :

يابنت شعري جنّبي المزهر         ودعي الفؤاد لليلة الأزهرْ

تحت المآذن والقباب أرى       روحاً تموج بسندس أخضر

وأكاد أسمع ملحمات وغى       من روايات فنها أشعرْ

مع حمحمات الخيل صرختها       بفوارس من أشعث أغبر

يغلي النداء على معاركها      في ناصرٍ ربك الأكبر – ص 169 .

كوكب أحمد :

أفاق ذلك الراهب ، ونظر في السماء ، فأبصر ذلك النجم المتألق في السماء ، فصاح بأعلى صوته : هذا نجم أحمد :

نادى بشيرك يا أوان المولد       فاهتزت الأكوان ترنو للغد

قالوا وإن الليل مرخ جنحه       لبى الحجاز به أرق الأبرد

وجبال يثرب رددت آطامها      صوتاً من راهب متعبد

هبّ النيام إلى السفوح فشاهدوا     وجه الدجى يبدو بوجه أسعد

سألوا أخا الكهان عن سر السما      فأجاب هتافاً مشيراً باليد

طلعت بهذا الليل أعظم آية         وبدا على الكون كوكب أحمد

وتلفتنا عند الشاعر زكي المحاسني قصيدة ( نجم أحمد ) ألقاها في حفلة لنادي فيصل الثقافي بدمشق احتفاء بذكرى المولد ، يحسن فيها عرض الواقعة الدرامية بين يدي الولادة ، فيجلوها لنا بتصويره البارع حية شاخصة ...لقد طعن عبد الله وآمنة حامل بمحمد ، وإنه ليغذ السير آيباً بالهدية للمولود ، كلفاً بالفرحة المرتقبة ، ولكن تعالجه الوفاة في الطريق .....هاهي آمنة تعاني آلام المخاض ، ترقب أوبة الزوج الحبيب ، وكانت النسوة في تلك الليلة المباركة ، حول آمنة بنت وهب ، يدرن أطرافاً كسيرة ، ويكفكفن الدموع ، حزناً على الحامل الثكلى ، وعلى هذا اليتيم الذي لم يبصر أباه عبد الله :

ياليل آمنة الحنون وعندها        نسوان مكة حاضرات المشهد

يلثمن أدمعهن عنها رحمة       ويدرن بالأحزان طرف مسهد

أذكرن عبد الله مات وقد سرى       يبغي الهدية للوليد الأمجد

فرحاً بمعسول الإياب فغاله         غول الممات لم يعد في الموعد

وتأودت ذات المخاض وجيعة      قالت : أعبد الله ذاك المفتدي ؟

إني أرى الأملاك تبكي حوله         وأكاد أنظر في المكان الأبعد 

كما يتناول الشاعر جانب اليتم في ولادة النبي بلمسة خاصة ، لقد ولد محمد يتيماً ، بيد أن ألم اليتم كم كان مشحذاً للعلا ، ومنضجاً لكامن الملكات عند كثيرين ، حتى أضحى قرين الفرادة والتميز .

ولد اليتيم فلففته بصدرها        واليتم للإنسان أشقى مورد

ولقد يُرى في الناس مشحذة العلا    حال الحديد غدا سبيك العسجد

كم من يتيم كان درة عصره        كانت له الآلام أفضل مرشد

ياليلة الميلاد عهدك في الدنى       للمؤمنين غدا أعز الأعهد

المجد نام وأنت يقظى خاطرٍ         نبكي له في هجمة اليوم الردي

أمحمد يا سر أسرار النهى       يا منقذ الدنيا وأعظم فرقد

ذكراك آسية الجراح وإنها     قبس لمصباح لنا لم يخمد

بدلت تاريخ الأنام بحادث       حتى الزمان بنور هديك يهتدي – ص 170 ، 171 .

خطرات مكية :

يتحدث عن الصحابة وما لا قوه في مكة من عذاب ، فيقول :

سبقوا إلى الإسلام واستبقوا      حمل الصعاب وما أتوا شكوى

ضاقت عليهم مكة وغدت       لهباً به جنباتهم تشوى

فأذن لهم الرسول – عليه السلام – بالهجرة إلى المدينة :

يا هجرة كانت محمّلة        أحزانها ببعادها تكوى

قل للمدينة ، آل خزرجها     والأوس : ليس فخاركم يطوى

رقد الرسول على ظلالكمُ    في روضة للحشر لا تذوى – ص 172 .

مشعل الصحراء :

والصحراء هي مهد الرسالة ، ومهبط الوحي ، فيها ولد الهدى ، وشعت الأنوار ، ومنها صدرت الأمجاد :

ذكرى الرسول محمد وبه         فتح الفتوح بنور ميلاد

تروي القصور على ترادفها      مجداً له من خلف أمجاد – ص 174 .

جبال مكة :

وجبال مكة كانت تحيط بالكعبة المشرفة كالسوار في المعصم ، فيها ولد نبي الهدى ، وعليه نزل الوحي في حراء ، وفي مدارجها شبّ الصحابة ، فكانوا أسود الحمى :

حرت في مكة بهذي الجبال       برزت في الهضاب أو في الأعالي

أحدقت كالسوار في المعصم القدس     وأوفت على ديار الجلال

عرفاتُ عرفتُ فيها حنان الروح      فاهتاج في رباها ابتهالي

ويتذكر الرسول وهو يتنقل بين تلك الجبال ينشر الهداية ، ويحارب الضلال :

قلت للواد كنت من غير زرع      كيف أطلعت زرعة الأجيال

من رمال الصحراء أنت        إسلاماً ترامى على الدنا بالغلال

يتجلى فيه النبي بقرآن        ودين فدّيته بالغوالي

أنت قد جلت في الجبال رسول      الله يحدوك مطلع الآمال

وتغيب في حراء فيا للغار         ذكراه في صميم المثال

ويتمنى لو كان في ركب الرسول وصحبه يوم فتح مكة :

ليتني كنت في ركابك أطوي       الدهر حتى أراك يوم النزال

فاتحاً مكة العظيمة لله بـلا        فـــتنة ودون قتــال

مكرماً دارة بها عبد شمس      كان يرعى الضيفان في الآصال – ص 175 ، 176 .

طيف الهجرة :

والهجرة كانت سبباً في قيام الخلافة الراشدة ، وتأسيس الدولة الإسلامية ، فهي رحلة الهداية والرشاد :

بأبي المهاجر وهو ذو فرح         يسري وكل مهاجر ترحُ

من فارق الطغيـان حقّ له       أن يستخفّ فؤاده المرحُ

ورعاه نجمٌ منذ مــولده        هو نجمه ذاك الذي لمحوا

يا صاحب الصديق وارفة       ذكراك منها القلب منشرحُ – ص 179 .

والشاعر زكي المحاسني يقدم في هذه المناسبة قصيدة يروي فيها هيامه بتصوير بقاع الرسالة الإسلامية ومواطن أمجادها الأولى ، ثم يفضي إلى حدث الهجرة العظيم ، فيصطفي منه موقفين بارزين هما : فداء علي للرسول – صلى الله عليه وسلم – حين نام في فراشه ، وموقف الغار الذي يجلو إخلاص الصديق للرسول وافتداءه بنفسه ، وذلك في إطار وجداني ولمسات فنية تصلنا بالحدث حياً شاخصاً وكأنه يتحرك الساعة :

أيا هجرة كانت وصالاً على المدى        إلى البر والتقوى ونيل المكارم ِ

حناناً إلى ناديك يوم تألبت      عليه عداوات الليالي القواتم ِ

وبات علي في الفراش على هنا      له بكتاب الله حرز التمائم

طوى الليل في غمض الجفون على الردى       وما كان عن خوض المنايا بواجم ِ

ترى حين جاء الصبح هل كان وجده       إلى يثرب فازداد في طيف حالم ِ

ولو سأل الغار الحنون على السرى        لأخبره عنه هديل الحمائم

لئن حزن الصديق هولاً من النوى      وما فارق الأهلين فرقة نادم ِ

وقال رسول الله ، والغار مظلم      ومن فوقه ركب يحوم بظالم

لنا الله لا تحزن بكيت صبابة       وقلت لعينيّ : ابكيا بالسواجم ِ

ويعبر الشاعر عما خلّفه حدث الهجرة في نفسه ، ويأسى لإخراج قريش ابنها البار من مكة ، لأنه كان يدعوها إلى الله ، ولكن هذا الأسى لا يلبث أن تبدده اليقة بعزة دين الحق الذي هبّ لإنجاده الأنصار البواسل الذين ازدادوا بالإسلام منعة واعتزازاً ، وآب الكفرة بالخذلان والشرود :

أحق من القوم القريشي بغيه     على أن أتاه للضلالة هادم ِ

ولكن دين الله يأبى تخاذلاً      وقد حازه الأنصار حوزة غانم ِ

فهبوا على هام الظبات ورددوا      صداهم برمضاء البوادي الجواحم ِ

وهزوا الرماح اليعربيات للعدا      وقد رفعوا أيديهم بالصوارم ِ

عليهم من الإسلام عزّ ونعمة       وعندهم بالله إيمان جازم ِ

فيا فزع الكفار إذ فلّ جمعهم      وباتوا لديه بالوجوه السواهم – أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية : ص 73 ، 74 ، 75 .

الآفاق العبادية :

ونجد عند الشاعر ومن أناشيده تجربة في الأذان وأخرى في الصلاة .

أما تجربته في الأذان فتتجلى في نفسه رجع مواجد علوية ، ففي هدأة الأسحار تعالى أذان الفجر يشق سكون الليل ، فأخذت تردد صداه البطاح والأجواء ، فانثال حداؤه الرطيب في نفس الشاعر ألحاناً رفافة ذات أجنحة من ضياء ، تمسح عن القلوب الكئيبة عناءها ، وتسكب الرضا في القلوب النقية ...إن قلبه من صدى الأذان ، دجى ، ليسيل خشوعاً ، وتعرج نفسه إلى العلا في لمحات وضيئة رفيعة ...

في هدوء الأسحار ملء الفضاء         صاح صوت بين الثرى والسماء

أكبر الله أكبر الله أكبر          ثم دار الأذان في الأرجاء ِ

وتعالى من كل صوب أذان       باسم رب الأنام مهوى الرجاء

قمت من ضجعتي وللصوت مسرى     في شعوري وجئت نحو النداء

نغم الله ما حوته المزاميــــــر ولا العود صاغه في الغناء

طاف في الأفق مثل رفرفة الرو       ح جناحاه من سناً وبهاء

فأتى الأنفس الكئيبة يحييــــــها وكانت ملتفة بالعناء

ثم أفضى إلى القلوب التي للدين      تهفو فحفّها بالرضاء

ربما في الدجى سمعتُ أذاناً         فتهيبتُ واستحرّ بكائي

حلمتني نحو العلا لمحاتٌ       هنّ فيض الإحساس هنّ هنائي – مجلة التمدن الإسلامي : م 6 ، ع 1 ( 1359 هـ / 1939 ) – ص 30 .

أما تجربته بالصلاة فنجوى إيمان تفصح عن التقاء فطرة الشاعر بالنبع الذي لا يغيض ، إن استقباله للكعبة انطلاق بروحه إلى تلك الديار المقدسة ، يرى في اتجاه المسلمين في كافة أقطارهم إلى دار الوحي ما يرمز إلى وحدتهم ووحدة مثلهم ومشاعرهم ، وياولي الشاعر نسك الصلاة فتعنو روحه لله وتسبّح بحمده وتشهد بوحدانيته ، ويختم صلاته بالسلام ويضرع إلى الله يدعوه .

والصلاة :

 صلة بين العبد وربه ، يتوحد في صفوفها الجميع ، ويستوي الأمراء والفقراء :

لك اللهم قلبي في الصلاة      إذا شغلته عنك مني الحياة

وقفتُ وقبلتي مهوى لروحي      فطفت هناك في أرض البداة

ديار الوحي تجمعنا نفوساً       وإن تكن الجسوم على شتات

قرأت الحمد والإخلاص حتى    ركعت رضى لرب الكائنات

وواليت السجود فصار أنفي      وقد الرغام من العناة

فسبحان الذي نعنو إليه        ولو كنا طواغيت الطغاة

شهدت بوحدة الرحمن لما      بعثت تحيتي في الطيبات

وسلمت السلام فتمّ نسكي      وباشرت الدعاء مع الدعاة

ويروق له أفق الطاعة والنظام في الصف المتراص في الصلاة ، وكان المصلين في صف حرب ولكنهم يمنحون الأمان والسلام ، ويخلص إلى القول بأن الصلاة هناءة ورغد تغسل القلوب بالنقاء غداة وعشياً :

تعال انظر وقد وقفوا بصفٍّ        كصفّ الحرب من قوم حماة

وقائدهم إمامهمُ ولكن             همُ لا يزحفون على عداة ِ

أمان السلم عهدهمُ المرجى         إذا نادى به صوت الهداة ِ

ويختم قصيدته بقوله إن الصلاة سعادة المؤمن ، ومعراج الروح  :

ألا إن الصلاة لكل قلب     هناء في العشي وفي الغداة ِ – ص 162 .

ونلفي عند زكي المحاسني أفقاً آخر وتجربة طريفة يصور فيها ما درج عليه بعض الناس من احتساب الصيام مجرد جوع وعطش والفطر فرصة لملء الجوف بعد الجوع ، وما بينهما يوم طويل مفعم بضيق الصدر والشجار ووهن العزم ، فينفي الشاعر أن يكون هذا من الصيام فلا أجر لصاحبه ولا ثواب :

ضلّ صومي فلستُ أبلغ فيه      ذرة من ثواب رب الأنام ِ

ثم يقفو ذلك بإيضاح قيم الصيام الجليلة ، تحليقاً في عالم الروح ، ومشاركة للفقير في حس الجوع ، وترويضاً للنفس وصوناً للسان ، وتسبيحاً يسمو بالروح والجنان ، وبرءاً للأجسام من الأسقام ..

إنما الصوم سنحة للتجلي       ترفع المرء عن هوى الأجسام

هو حسّ الطوى وكم بات فيه       من فقير يبكي ومن أيتام

إنه لهفة العطاش إلى النبـــــع تراءى في الأملس المترامي

إن فيه شكيمة للسان       حلّ من أهله محل الحسام ِ

هو تسبيحه لتسبح فيه الرو      ح هفهافة وراء الغمام

فيه برء الحشا ورب مريض      قد شفاه من بعد طول السقام ِ- مجلة التمدن الإسلامي : م 7 ، ع 6 ، 7 ( 1360 هـ / 1941 ) – ص 83 .

شوق :

ويشتاق الشاعر إلى الربوع المقدسة ، ويحن إلى قبر الرسول – صلى الله عليه وسلم –

وكان برفقة أمه يوم زارها ، فيقول :

طاف بي وجدي لدى قبر الرسول     ولروحي شهقة عند الوصول

كنت طفلاً حين ألممت به           ولأمي زورة ملء الغليل

تتمنى في ثراه رقدة         وبقاسيون غفت بعد القفول

دارة الوحي متى موعدنا         فلقد طال على الشوق هديلي – ص 180 .

بعد الهزيمة :

وتبقى قضية المسلمين ( فلسطين ) ماثلة في وجدان زكي المحاسني ، فيفول في قصيدة بعنوان ( بعد الهزيمة ) التي نظمها عام 1963 م :

ما هزمنا لكي نموت ونفنى       ونبكّي الحياة إن نحن عشنا

تصرخ الأرض بالضحايا وما يجدي عزاءً إن رحتَ تلطمُ أذنا

من فلسطين كان منطلق الثار      فاعدد للخطب ما استطعتَ منا

كفكف الشعر عن مراثي فلسطين       فشعر الدماء أبقى وأعنا

وإذا الحادثات علمن شعباً      نال يوم النضال ما يتمنى

بغداد :

ويتذكر أمجاد المسلمين وأعلام الخلافة ، عمر بن الخطاب ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ،  وهارون الرشيد ، والمأمون ، وصلاح الدين ، ونور الدين ، ولا ينسى بغداد المجد والحضارة ، فيقول :

يأسى الفؤاد وقد يزيد عنادا         حتى أيمم بالهوى بغدادا

أأجيء دارات الخلافة مثلما       كانت تفيض على الدنى أمجادا

هارون في عليائها وبنوده      وجنوده تسع المدى إعدادا

أم أغتدي وعلى مشارف عزها      المأمون يملؤها حجا ورشادا

وبساحها تحت القباب مجالس       شعت جمالاً وازدهت إنشادا – ص 20 .

دمشق :

ويتذكر الأمجاد التي كانت تدرج في ربوع دمشق ، فأين معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وصلاح الدين ، ونور الدين ، ....

هذي ( دمشق ) وعهد فتحها رمى       قلب الزمان فخط فيه مثالها

نصب السيوف لكي يشيد حضارة        يختال في شرع الردى مغتالها

ومشت على الآفاق فرسان إذا       حان الفدى صبّت عليه نصالها

من ساكب في قاسيون خواطري      أترى ( معاوية ) يثير خيالها

أو لابن مروان النشيد بغادة ٍ       تغريه بالتخليد ، نال وصالها

نهدتُ لعدوان الفرنجة فانثنوا      ذلاً وقد ذاقوا المنون حيالها

أهوى ( صلاح الدين ) يوم لقائهم      بيدٍ تجيل المكرمات نوالها

وهفا ( بنور الدين ) يوم شهادة       شهدت شفار الدارعين صيالها

أفديك ( قاهرة ) الخطوب وقد روت     أخبار مجدك للزمان مقالها – ص 24 ، 25 .

فاتح مصر :

ويمجد بطولات ( عمرو بن العاص ) رضي الله عنه فاتح مصر ، فيقول :

أرى عمرو عند البقيع مجولاً       يسير إلى قبر الرسول يشاوره

تلمس أكتاف الضريح كهائم      وأسمع صوتاً في الغيوب يحاوره

يقول له افتح واملك بها الدنى       فمن حاز مصراً لم يجد من يكاثره

فصاح أيا ابن العاص ويحك لبني       أرى النصر يدنو جاثمات مناظره

فهرول عمرو بالسلاح مدمدماً        كميّاً عليه لأمة لا تعاشره

وقال أبا العدل المطاوع أمره          أتيتك ، لبيك ، الممات أبادره

وما أنجاب وجه الفجر حتى تحمحمت    خيول الوغى والجيش ماجت قساوره

فلا فتح للإسلام إلا بنوره         ولا سيف إلا منه يستل باتره

إلى أن يقول :

لقد جاءها ابن العاص بالدين والهدى       فزادت على الفخر التليد حواضره

وفي باب الرثاء له قصيدة في العلامة محب الدين الخطيب صاحب مجلة الفتح ، والزهراء ، الإمام المجدد المصلح ، يقول فيها :

يا خطيباً قد عاش فينا حبيبا         سكن الروح واستهام القلوبا

في ضفاف النيل استقامت له الدا      ر ورفت في الحس نخلا رطيبا

شارع الفتح كان موطنه الدا       ئم سمي به المقام الرغيبا

أدهشتني فيه سجايا إمام        جعل الكتب همه المطلوبا  

بات بين الأوراق صفرا وبيضاً      في رحاب للكتب ضمت عجيبا

ويعدد صفات ذلك الإمام ويتحدث عن سجاياه ، وأخلاقه ، وسماته ، فيقول :

سلفياً قد كان في منبت الشا             م له نصحة تند طيوبا

فأتى مصر بانيا التواليـــــف وأحيا فيها الكتاب قشيبا

نشر الكتب طابعاً وأديباً             كاتباً وانتمى البعاد القريبا

ويح شهرية جلاها من ( الزهــراء ) أقلامها قرعن الخطوبا

إن تسل مصر في تواريخ جد        واه تقل كان عالماً موهوبا

في أحاديثه حلاوة سحر          ملك السمع واصطفاه حبيبا

عشق الروح واجتواه كراه          جاهداً دائباً جسوراً منيبا

كان للشعر راوياً يتحدى            كل حفظ روائعاً ونسيبا

ولنص الحديث يرفع لقيا              ه إلى مصدر النبي أريبا

قد تحيرت في صفات له في الو   صف هل كان عبقرياً طبيبا

أو تولى روحية الفكر والفن         وأحيا التراث ندياً أديبا

ناضر الوجه مشرق النفس تلـقاه بجوف الدجى يناجي الغيوبا

كان ملء القريب هدياً وعوناً            وبتحنانه يضم الغريبا

ذكريات له تعج على الدهــر حوت ما عجبت بحراً صبيباً

عالماً مؤمناً يفيض حــياة        في سبيل القنوت عفاً مهيبا

زاهداً في اللبوس والمظهر الخالب       ما أن ترى عليه معيبا

كان ركناً في نهضة الشرق والغر    ب ونوراً أضاء جيلاً نجيبا

يا محب الدين الخطيب تناديـــك ديار الخلود فيها خطيبا – ص 237 ، 238 .

فهو سلفي العقيدة ، له معارك ناصر فيها السلف ، مؤمن ، زاهد ، أحيا الكتب ، ونشر العلم ، وأصدر جريدة الفتح والزهراء ، مشرق الوجه ، قوي الإيمان ، شجاع جسور ، منيب ....

وبعد :

هذه وقفة سريعة مع الإتجاه الإسلامي في شعر زكي المحاسني الذي تعرض للإهمال فترة طويلة من الزمان ولولا جهود بنات الأستاذ لما عرف ديوانه السبيل إلى المطبعة.

مصادر البحث:

-ديوان زكي المحاسني –طبع وزارة الثقافة في سوريا.

– أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية : ص 73 ، 74 ، 75 .

- مجلة التمدن الإسلامي : م 7 ، ع 6 ، 7 ( 1360 هـ / 1941 ) – ص 83 .