ليالي غرناطة للشاعر عارف خضيري

ليالي غرناطة للشاعر عارف خضيري

رؤية نقدية

د. قرني عبد الحليم عبد الله صفا

كلية اللغة العربية والحضارة الإسلامية

جامعة السلطان الشريف علي الإسلامية

بروناي دار السلام

غرناطة جوهرة المدائن

ورائدة النفائس

وزهرة الرمان بالأندلس:

ظلّت ذكرى الفردوس المفقود بالأندلس تلهب خيال الشّاعر، وتذكي إحساسه، وتمور مشاعره، وتسيطر على وجدانه، حتى صهرت تجربته الإنسانية في بوتقة الشعر، واستوت على سوقها، ودنا قطافها؛ فكانت حصيلتها الرائعة ديوان «ليالي غرناطة» الذي بين أيدينا، والذي كان يعدّ بمثابة لؤلؤة ثمينة، كانت مستترة في صدفتها الفنية، حتى حان أوان خروجها إلى حيز الوجود، على يد غوّاصها الماهر الشّاعر عارف خضيري الذي اقتنصها، ومنحها من ذوب نفسه، ورهافة حسّه، وثاقب فكره، ما زادها جمالا على جمالها وجعلها تبدو في جوهرها القشيب، الذي يؤكد المقولة الشريفة «إنّ من البيان لسحرا».

إن فكرة ديوان «ليالي غرناطة» فكرة تجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ فهذه الفكرة كانت تلحّ على الشاعر منذ أعوام مضت؛ فقد وضعت بذورها الأولى في إحدى قصائد ديوان «فلامنكو» الصادر عام 2005م، حيث يقول الشاعر في إحدى قصائده:

ارقصي في أضلعي

وفي الدم

ارقصي في خافقي المتيّم

وارجعي لي زمنا

ضاع في الأندلس

ومن ثم كان هذا الديوان «ليالي غرناطة» أولى الثمار الشهية الناضجة من هذه البذور المباركة.

يتألف هذا الديوان من خمس عشرة قصيدة، متفاوتة المقاطع، ما بين مقطع واحد إلى خمسة مقاطع، متخذة من الشعر الحرّ شكلا فنيا لها، رغبة في مواكبة الجديد، وتجنبا لرتابة القديم، وسعيا لتكثيف الأسلوب والصور.

ويمكن وسْم هذه القصائد بأنها قصائد شائقة وثاقبة وذكية ومجسّدة للواقع الذي رصده الشاعر.

وعلى الرغم من أن عدد قصائد الديوان خمس عشرة قصيدة إلا أنها بمثابة قصيدة واحدة متطاولة، حيث يجمع بينها جميعا الرغبة في رصد الواقع في الفردوس المفقود بالأندلس.

ولكن ينبغي الإشارة إلى أن قصيدة «لا غالب إلا الله» هي بلا ريب درّة هذه القصائد، بل إنها حجر الزاوية في بناء الديوان أَوْ هِي الجوهرة اللامعة في مفرق هذا الديوان.

وتتمثل مصادر الإلهام التي أسهمت في تشكيل البناء الفني لهذا الديوان في وعْي الشّاعر بتاريخ أمته الإسلامية ومعرفته الدقيقة بعثراتها وأمـجادها، وعشقه المتنامي الذي لا يـخبو له أوار لبلاد الأندلس عامة ولمدينة غرناطة جوهرة المدائن ورائدة النفائس في الفردوس المفقود ببلاد الأندلس خاصة.

وهذا بالإضافة إلى أن من أهم هذه المصادر رحلته المباركة إلى بلاد الأندلس (الفردوس المفقود) في شهر يونيو عام 2012م، حيث أسفرت هذه الرحلة عن تشكيل قصائد هذا الديوان.

ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الإلمام الواعي للشّاعر بالتراث الفكْري والفني لبلاد الأندلس قد أسهم إلى حد كبير في البناء الفني لديوان «ليالي غرناطة».

ويؤكد ذلك إشارة الشّاعر إلى قصائد ابن زمرك شاعر الحمراء في قصيدة «لا غالب إلا الله»، وتأثره بالموشحات الأندلسية للشّاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب، ولا سيما موشحته السينية.

كما يبدو تأثره خلال الديوان بفن الغناء الشّعبي الأندلسي المعروف بــ (CANTE JUNDO) وهو غناء يركّز على أحاسيس المغنيّ الفردية الدفينة ويعبّر المغني من خلاله عن طقوس من المشاعر تنبجس من داخل النفس بشكل طوعي فطْري، ويؤديه المغنيّ دون هدف للربْح في المقاهي وصالات الرقص الشعبية، وقد أرجع كثير من دارسي الفنون هذا النوع من الغناء إلى تأثير الأغاني والألحان العربية أيام الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا، وامتزاجها بالأغاني المحلّية في الأندلس؛ فأخرجت هذا النوع المتميز من الغناء. (انظر ص56 من كتاب لوركا شاعر الأندلس لماهر البطوطي).

ويبدو أثر هذا النوع من الغناء في قصيدة «في دروب إشبيلية» وقصيدة «المغنيّ» على سبيل المثال.

وقد ارتكز هذا الديوان إلى سبعة محاور وهي المحور الديني (لا غالب إلا الله- الحمراء- الناس- الشيخوخة)، والمحور التاريخي (غرناطة- لا غالب إلا الله- الحمراء- مسجد قرطبة)، والمحور الفنّي (غوطة الحمراء- الموسيقا- المغني- الفراشة- المروحة) والمحور الثقافي (لا غالب إلا الله- أغنية برازيلية- الحمراء- مسجد قرطبة) والمحور الاجتماعي (في دروب إشبيلية - فلامنكو) والمحور الفلسفي (الناس) والمحور الرمزي (النهر المهجور)، وقد حفل الديوان بسمات فنية عديدة، ولكن أهم هذه السمات الفنية سمتان: الأولى وحدة البداية والنهاية للديوان مما يدلّ على أن الوحدة الفنية في هذا الديوان ليست مقصورة على كل قصيدة على حِدة، بل إنها تتعدّي ذلك فتشمل الوحدة الفنية التي تربط برباط وثيق بين كل قصائد الديوان من بدايته إلى نهايته.

ويؤكّد ذلك أن قصيدة (النهر المهجور) وهي آخر قصيدة، تعكس وتجسّد ما تضمنته أولى القصائد (لا غالب إلا الله) بشكل غير مباشر.

أما السمة الفنية الثانية فتتمثل في محاولة الشاعر الناجحة في إعادة قراءة التاريخ من منظور أدبي؛ فالشّاعر خلال هذا الديوان لا يرصد الوقائع والأحداث التاريخية رصدًا حرفيا، وإنما يرصدها لتوظيفها واستغلالها في منْح قصائد ديوانه أبعادا دلالية وجمالية.

إن الشاعر هنا يعيد قراءة التاريخ من زاوية أدبية تبعث الروح في الأحداث وتجعلها أكثر حياة؛ بحيث تمكّن القارئ-دون تقرير مباشر- من استخلاص العِبر من التاريخ، وتمكين المتلقين من قراءة الماضي ولكن بطريقة فنية.

فالشاعر على سبيل المثال حينما يذكر «عائشة» أمّ أبي عبد الله الصغير حاكم غرناطة في قصيدة «لا غالب إلا الله» إنما يريد بذلك إبراز أهمية شخصيتها وليس مجرد رصْد لدورها التاريخي؛ فهي نموذج للمرأة المسلمة العابدة الموجّهة المرشدة التي فرضت على أعدائها احترامها بطيب سلوكها. وحينما يتحدث الشّاعر عن أبي عبد الله الصغير حاكم غرناطة لا يهدف إلى تعريفنا به وبدفاعه المستميت عن غرناطة، وإنما يتخذ منه رمزا للسخرية والإهمال والضياع والتفريط حين قاتل أباه وأخاه وعمه وتآمر عليهم مع أعدائه.

ومن ثم كان نموذجا لما قام به الأحفاد من إضاعة ما خلفه الآباء والأجداد ولم يكن مراد الشاعر من الحديث عنه رصد دوره التاريخي.

وحينما تحدث الشّاعر عن غرناطة لم يقصد أبداً مجرد تعريفنا بالمدينة وأهميتها وما بها من مظاهر الجمال، وإنما كان قصده إبراز أهمية الدور الذي قامت به في صدّ أعداء المسلمين حوالي قرنين ونصف من الزمان، ولذلك خصّها بالذكر دون غيرها من مدن الفردوس المفقود بالأندلس.

وعندما تحدث الشّاعر عما دبّجه شاعر الحمراء «ابن زمرك» لم يكن هدف الشاعر أن يحدثنا عن ابن زمرك وما دبّجه من أشعار في حكّام زمانه، وإنما قصد أن يكون ابن زمرك وأمثاله رمزا للنفاق والإسهام في خداع الحكّام.

إن محاولة شاعرنا إعادة قراءة التاريخ من منظور أدبي تتيح له التعرّف على الجانب المضيء من التاريخ، ومن ثم يمكن أن يعتبر الانتصار هزيمة والهزيمة انتصاراً بعكس المؤرخ الذي يكون كلّ همّه رصد الهزائم والانتصارات لا غير.

وقد تميّزت التجارب الشّعرية لشاعرنا في هذا الديوان بل في كل دواوينه بأنها تجارب متميزة مبتكرة تجمع بين عمق الأصالة وطرافة المعاصرة.

لقد حاول الشّاعر من خلال هذه التجارب أن يبني لنفسه مدنا شعرية جديدة بعيدة عن اجترار تجارب الآخرين أو الاتكاء على خطاهم، بل كان خلال تجاربه الشّعرية نسيج وحده، بعيدا عن المشاكلة والمماثلة.

وقد حاول عبر تجاربه أن يؤسس لشعر عربي مهجري حديث، يستثمر منجزات القصيدة الحديثة في تقديم شعر الحنين والغربة في خطاب مغاير للنماذج الكلاسيكية مبنى ومعنى (انظر نقد عبد الغني محمد المقرمي لديوان التجوال في الموانئ البعيدة، جريدة الجمهورية، صنعاء، 29 يولية 2005 ).

وقد جمع الشّاعر في تجاربه الشعرية هنا بين الصدق الواقعي والفني حيث كانت أوصافه مستمدة من الواقع الذي شاهده بعد مزجه بالخيال، إلى جانب نجاحه في نقل ما أحسّ به إلى القارئ نقلا أمينا مؤثرا.

أما عن الأسلوب الذي عبّر به الشّاعر عن هذه التجارب فقد اتسم بالاقتصاد اللغوي والتكثيف والتركيز، مع الاستغلال الأمثل للطاقات الصوتية للحروف العربية. وقد اتسم الأسلوب إلى جانب ذلك بنبرة شعرية متميزة، مرتكزة إلى حسّ مرهف وفكر ثاقب ومعجم لغوي ثرّ.

لقد بدت عناية الشّاعر بأسلوبه جليّة واضحة ماثلة للعيان، فلا يلمس القارئ فيه لفظة نافرة أو جملة مضطربة أو تركيبا مبتذلاً أو عبارة مهلهلة؛ لأنه كان يمتح من معين لا ينضب، وحرص لا يضعف، وعناية لا تهاون فيها.

ولست مغاليا حين قلت عنه في دراسة تحليلية نقدية لديوانه السّابع (فلامنكو) «لقد لمست فيه إيمانا بأهمية الدور الذي تلعبه الكلمة، ومن ثم جاء تقديسه لها وإحساسه العميق بمسئولية التعبير بها؛ ولذلك لا يضعها في مكانها إلا بعد اقتناعه التام بأدائها لدورها المرسوم لها، وأنها متآلفة مع ما قبلها، معانقة لما بعدها، ولمست فيه كذلك حرصه على ألا يقدم شيئا لقارئه إلا إذا كان متأكدا من أن هذا العمل سيضيف لرصيد الإنسانية الفنيّ شيئاً عظيماً، وكأني به يؤمن إيمانا عميقا بما قاله المفكر الكبير عباس محمود العقاد «إذا عملت شيئا له قيمته، فثق أنها قيمة محفوظة لا ينقص منها قول منكر ولا يزيد فيها قول معترف».

إنه شاعر وفيّ أروع الوفاء لفنه الشعري الذي يبذل جهده في سبيل استوائه فناً شامخاً يليق بمكانته ومنزلته الشعرية.

إن الشعر بناء والكلمات ليست إلا لبنات هذا البناء؛ ولذلك بدا الشاعر هنا مهندساً ماهراً في البناء الفني لأسلوبه، وبدا بمثابة المهندس البارع الذي يستغل كل طاقاته وإمكاناته في تشييد بنائه، وتسخير كل ما يراه مناسباً لتأسيسه وتمكين أساسه.

وقد حفل هذا الديوان بصور شعرية جديدة مبتكرة متميّزة، وهذه الصور تجسد الطبيعة لحمتها وسداها في الأعم الأغلب من قصائد هذا الديوان.

وحين ينتزع الشّاعر صوره من الطبيعة ويقدمها لنا تبدو –كما يقول الدكتور كمال عبد العزيز إبراهيم- أجمل من الطبيعة المباشرة لأنها ارتدت أولاً إلى قلب الشّاعر وعاطفته ثم خرجت لنا بعد ذلك وقد سرت فيها أنفاس الشّاعر وتلوّنت بلون عاطفته» ( بانوراما نقدية حول ديوان أوراق الشجر للشاعر عارف خضيري، مجلة الدراسات العربية، العدد الأول ، 2000، ص260).

وقد جمعت هذه الصور بين الصور الخيالية الجزئية متمثلة في التشبيهات الطريفة المبتكرة المتنوعة، والاستعارات البديعة، والكنايات الرامزة، وهذا إلى جانب الصور الخيالية الكلية التي حفل بها هذا الديوان.

إن الشّاعر خلال هذا الديوان يستعيد ذكريات الفردوس المفقود بالأندلس من خلال فيض من الصور الشّعرية المتدفقة، يربط بينها برباط وثيق من العاطفة بما يكفل تجمع الصور الشّعرية في بؤرة واحدة مشعّة دون تشتت أو تبددّ.

ويستطيع المتصفّح قصائد هذا الديوان أن يلمس بوضوح-أن الشّاعر يشرك جميع الحواس المادية (السمع-البصر-الشّمّ-اللمس-الذوق) في رسم صوره الكلّية، كما يلمح-بـجلاء- عناية الشّاعر بالفضاء الداخلي والخارجي للصورة، فعلى سبيل المثال في قصيدة «لا غالب إلا الله» تجد الشّاعر مصوّراً الفضاء الداخلي للصورة حين يقول:

وفي وسط محرابها تعتكف عائشة وتقرأ وردها

وفي غرفة فسيحة بالقرب من جناحها

تجلس ثُلّة قليلة من الصبيان

يقرأون بضع سور قصيرة من القرآن

ثم يقول مصورا الفضاء الخارجي للصورة:

ويهرع العباد من فورهم للمسجد

وفي هدأة الليل قبيل السّحرَ

تحمل النسائم أصوات منْ بالمسجد يتهجد

بينما الطيور في الحدائق تردد:

لا غالب سواك

يا ملك الأملاك

لا غالب، لا غالب سواك.

إن كل الصور الواردة في هذا الديوان جزئية أو كلية تنطق ببراعة الشّاعر في رسمه للصور بالكلمات تماماً كبراعته في رسم الصور بالفرشاة والألوان؛ لأنه – كما نعرف - فنان يجيد فنّ الرسم.

إن الصور الشعرية في قصائد هذا الديوان تأتي لتثير الحواس الخارجية –كما أشرت إلى ذلك آنفاً- وفي الوقت نفسه تفجر العديد من مشاعر النفس ومكنوناتها . فالصور لديه مراقبة من الخارج وهي كذلك مشدودة إلى أعماق الناس في الداخل. وشاعرنا-في رسمه لهذه الصور- يمهّد لرسم الصورة، ثم يعمد إلى إضفاء المناخ الملائم لها من زمان ومكان وجوّ نفسي عام، ثم يربط بينها جميعها برباط وثيق من العاطفة. وهو ينظم صوره الشّعرية في لوحات متماسكة تكوّن مع بعضها نوعا من القصّ الشّعري المحكم المترابط.

ولكي تأتي الصورة في النهاية محققة للمتعة الفنية المبتغاة، نجده لا يكتفي بمجرد الصورة العارضة للصورة، ولكنه يظل وراءها يستقصيها ويحددها ويختار عناصرها ويضيف إليها ويقيد فيها ويرتقي بها، ويظل كذلك حتى تستوي وتنضج، ومن ثم جاءت صوره الشعرية مجنّحة محلّقة متكاملة.

أما عن الإيقاع الموسيقي في نصوص قصائد هذا الديوان، فقد اعتنى به الشّاعر عناية بالغة.

وقد بدا ذلك واضحا في حرص الشّاعر على تحقيق الانسجام التام بين الكلمات، وملاءمة الكلمات للموقف الشّعري الذي وردت فيه، واتفاق نهايات السطور الشعرية مع بعضها، واستخدام المحسنات البديعية ذات الجرس الموسيقي المتميّز من جناس وحُسْن تقسيم أو تصريع.

وقد تضمنت قصائد هذا الديوان عدة شفرات فنية، تكشف عن مكانة هذا الديوان فنيا، وتوضّح منزلته، وهذا إذا قام منْ يتصدّى لدراسة هذا الديوان بفكّ هذه الشفرات وتحليلها، تمهيداً للكشف عن القيمة الفنية لهذا الديوان الذي يمثل أرقى مرحلة من مراحل التطوّر الفني للشّاعر عارف خضيري.

ويتثمل أهم هذه الشفرات الفنية فيما يأتي:

أولا: الشفرات التأويلية:

وتأتي هذه الشفرة ممثلة في الكشف عن الكنايات الرامزة التي حفلت بها نصوص هذا الديوان، ومنها على سبيل المثال «الملك المبجّل يغطّ في نومه لا يدرك» كناية عن السخرية من هذا الملك والإشارة إلى تفريطه وإهماله وعدم حرصه على صيانة مُلكه، حيث أضاع غرناطة ولم يصنها كالرجال.

ومنها كذلك «ويهرع العباد من فورهم للمسجد» كناية عن قوة الوازع الديني والحرص على أداء العبادات في أوقاتها.

ومنها «يذرف الدمع كربّات الحجال» كناية عن النساء.

ومنها «ينهض السفراء في عبوس» كناية عن الأسى والأسف والحزن.

ومنها «ويخرجون من مجلسهم مطأطئي الرؤوس» كناية عن الشعور بالخزي.

ومنها «بقايا ما دبّج شاعر الحمراء» كناية عن ابن زمرك الشّاعر.

ثانيا: الشفرة الدلالية:

وتتمثل هذه الشفرة فيما حفل به الديوان –خلال قصائده- من معاني ضمنية مثل حديث الشّاعر عن عائشة، عبد الله الصغير، الصبيان، حيث رصد الشّاعر في حديثه أجيالاً ثلاثة، تمثل عائشة الجيل الأول وهي والدة حاكم غرناطة أبي عبد الله الصغير، ويمثل أبو عبد الله الصغير الجيل الثاني، بينما يمثل الصبيان الجيل الثالث.

ومن تلك المعاني الضمنية الحديث عن قصر الحمراء، وما يدل عليه من عظمة الملك وأبهة السلطان.

ومن تلك المعاني الضمنية قول الشّاعر:

في الصباح

في جنة الأزهار والملاح

فإن ذلك يوحي بجمال الطبيعة في غوطة الحمراء بغرناطة.

ثالثا: الشفرة الرمزية:

وتتمثل هذه الشفرة فيما حفل به الديوان من رموز مثل قول الشّاعر في قصيدة (النهر المهجور):

بيْد أنّي

سوف أمضي

مثل من مروّا

بشطّك

ذات يوم

في صباح

أوعشية

فالشّاعر هنا رمز لكل العرب الذين كانوا سادة هذه الديار ثم رحلوا عنها بعد ضياع أجمل ممالكهم في الفردوس المفقود في بلاد الأندلس.

ويرمز كذلك إلى الرحيل عن هذا العالم الفاني بالإضافة إلى أنه يرمز إلى خلود شعره ويرمز كذلك إلى حنينه واغترابه عن وطنه الذي فارقه منذ أعوام طويلة؛ فالنهر باقٍ والشاعر رغم أنه سيرحل رحيلاً مادياً أو معنوياً إلا أنه سيظل كذلك باقياً ببقاء شعره.

رابعا: الشفرة الإحداثية:

وتتمثل هذه الشّفرة في عناية الشاعر بالزمان والمكان خلال نصوص الديوان، فمثلا في قصيدة «لا غالب إلا الله» نرى عناية الشّاعر بالزمان فيها في ذكره للصباح، منتصف النهار، عند الغروب، حلول الليل، ظهور القمر، السَّحَر، وأفول النجوم.

كما نلمس فيها عناية الشّاعر بالمكان في ذكر «المخدع-المرقد-الجناح-المملكة-المسجد-الحدائق-الغوطة-الحمراء» وغيرها كثير.

خامسا: الشفرة الثقافية:

وتتمثل هذه الشفرة فيما حفل به هذا الديوان من إشارات إلى زخم مخزون من المعارف –الابتهال-الحمراء-المحراب-القرآن-حوائط الريحان-شاعر الحمراء- الحرص على العبادات-الملك الأوحد-الإشارات التاريخية إلى عائشة-موروث الشّعر والأوصاف العربية-البناء الفنّي للقصيدة-طريقة حكْي الأحداث وغيرها كثير.

إن هذا الديوان «ليالي غرناطة» دوحة شعرية، وارفة الظلال، بديعة الرؤى، حافلة بالصور الرائعة، سامية المعاني، أفرغ فيها شاعرنا ما يتمتع به من عمق المشاعر وطلاقة الأسلوب، وبراعة الأداء، وجمال العرض.

ومن ثم فإن هذا الديوان ديوان آسر ممتع، يفجّر في متلقّيه فيْضا من الأحاسيس والعواطف النبيلة، النابعة من إحساس صادق، المقدّمة في إطار محكم من الصنعة الشعرية البارعة، المرتكزة إلى ألفاظ منتقاة بعناية، وأفكار متطوّرة مبتكرة، وإيقاع صادر عن قيثارة عذبة النغم، قادرة على الركض في مختلف درجات السلم الموسيقي، كما نبّه إلى هذه الظاهرة الفنية الناقد الكبير الأستاذ الدكتور ماهر شفيق فريد في دراسته الفنية المتعمقة لديوان فلامنكو.

إنه ديوان يجمع بين وضوح وعمق رؤية الشّاعر، ودقة مضمونه وروعة عرضه وشموله، وبراعة ترتيبه وتنسيقه، وشفافية أسلوبه.

وهو ديوان يتسم بنبل الغاية والمقصد ورقة لغته الشعرية السامية، وجلال المغزى والهدف، وأصالة عطائه الفكري.

إننا أمام ديوان يمتع الأسماع، ويروق العقول؛ لأنه ديوان ذو موضوع قبل أن يكون ذا أسلوب.

إنه ديوان يكشف عن أن الشاعر ذو نفس طويل مسترسل، لا يتعثر ولا يتلجلج ولا يعوقه عائق من لفظ أو تعبير.

وختاما أقول: شكرا من أعماقنا لمن أمتعنا بقراءة هذا الديوان، وطوف بنا على أجنحة الخيال لنشاركه مشاعره النبيلة ورؤاه الفريدة، وعشْقه المتميز للفردوس المفقود ببلاد الأندلس في غرناطة جنة الأزهار والملاح.

إن هذا الديوان جدير بأن يُقرأ؛ لما حفل به من معارف متنوّعة، ورؤية جديدة، وتجسيد حيّ لواقع الفردوس المفقود بالأندلس، وشعر راقٍ، ناطق بقدرة صاحبه وإمكاناته الفنية، وتمكنه من ناصية فنه الشّعري.