عبد الله رضوان الشّاعر المسكون بوطنه
ها أنذا أبدأ بالكتابة عن شاعر، مسكون بهاجس العودة والأمل، جمع بين البيئتين: الأردنيّة والفلسطينيّة، لذا يهمّنا أن نشير منذ الآن إلى أنّ عبد الله رضوان ولد سنة 1949 في مدينة أريحا(1)، وهي مدينة فلسطينيّة، وتعدّ أقدم مدن العالم، وتقع في الضّفة الغربيّة، بالقرب من الحدود الأردنيّة.
تلقّى جزءًا من تعليمه الابتدائيّ، غير أنّ مقامه فيها لم يطل كثيرًا، فارق وطنه مكرهًا، وهذا ما دعاه أن يعيش لاجئًا في مخيم الكرامة في الشّونة الجنوبيّة الأردنيّة(2).
وفي الأردن، أكمل تعليمه إلى أن حصل على شهادة الدّراسة الجامعيّة، وله أكثر من ثلاثين عملًا أدبيًّا ونقديًّا، نذكر منها على سبيل الذّكر لا الحصر: "خطوط على لافتة الوطن"، "وأمّا أنا فلا أخلع الوطن"، وهما ديوانا شعر، و"أسئلة الرّواية الأردنيّة" وهو كتاب نقدي، و"القدس" وهي مسرحيّة شعريّة، وغير ذلك.
ولعلّ من المناسب أن أشير إلى أنّ حنين عبد الله رضوان إلى الوطن لم يكن يفارقه، وشوقه إلى مسقط رأسه ظلّ يشدّه، ولم يكن الوطن بكلّ ما يتضمنّه من معانٍ عاطفيّة ووجدانيّة بالمناسبة التي يمكن أن يغفل عنها عبد الله رضوان في شعره. والجدير بالذّكر أيضًا أنّه توفي في 13 آذار، سنة 2015م، في الزّرقاء. والآن، الذي نحن بصدد الوقوف عند الكلّيات وبيان ما فيها من نقاط جماليّة ضمن ذوقنا وحدود أفقنا وتفكيرنا، هي الثلاثيّة الشّعريّة الموسومة بـ "غراب أزرق".
غراب أزرق
يحمل هذا العنوان، المكوّن من كلمتين، كما هو ظاهر، مخالفة، حيث يضع الغراب واللون الأزرق في موقع غير موقعهما التّقليدي المعتاد، ومن المعروف طبعًا أنّ الغراب يتميّز باللون الأسود القاتم، وفي هذا العنوان عدّة دلالات، إذ إنّ اللون الأزرق يصنّف ضمن الألوان الباردة، وفي ظنّي أنه لون محبوب، كونه لون السّماء والبحر والطّبيعة، لذلك كثيرًا ما يبعث في النّفس الرّاحة والثّقة والطّمأنينة، السّيطرة، الصّفاء، السّلام، الهدوء، الحرّية، في مقابل ذلك، فإنّ الغراب يغلب عليه اللون الأسود، وإذا ما عدنا إلى الأدبيّات الثقافيّة، فإننا نجد أنّ الغراب يحمل دلالة سلبيّة، يترافق مع الشرّ، والموت، والاكتئاب، ورمز التّشاؤم والنّحس، إلى غير ذلك من الصّفات، وهذه صفات لازمة ومقترنة اقترانًا سلبيًا في الوعي الجمعي، لا يمكن إنكاره.
وفي ضوء ذلك، يتحوّل اللون عند عبد الله رضوان من دلالته السّلبيّة إلى دلالة إيجابيّة، وهي ثنائيّة تشير إلى تمثلات الذّات الشّاعرة المستمدّة فيما يبدو من المنفى والاغتراب، وما دام الأمر كذلك، فبدهي أنّ الغراب هنا يمثّل البُعد بكلّ ما يحمله من قسوة وألم وقهر، والأزرق يمثّل الوطن القريب من الوجدان والذّاكرة.
إنّ المتصفّح للثلاثيّة الشّعريّة الموسومة بـ"غراب أزرق"، ليلمس وعيًا وطنيًّا عاليًا لدى الشّاعر، وحسًّا اغترابيًا حزينًا طاغيًا في الوقت نفسه، يتضافر بعضه مع بعض، حيث يقول:
"من رقصةِ النّارِ
أمضي إلى الشّمسِ ممتلئًا حنطةً
لأصوغَ هوايْ
كما شاءت اللغةُ البكر
حيث خطايَ شذايْ
وحلمي بكايْ
وما خلته وطنًا
صار منفايْ"
ظهر الوطن "البديل" في صورة منفّرة تبعث على الخوف والحزن، مما يشي بقلق الشّاعر وحاجته إلى الطمأنينة التي تخلصه من وجع الاغتراب، ذلك هو منطق النّص، وقد أفاد الشّاعر هنا من مفردات الاغتراب، على نحو ما نراه في: "أمضي، خطاي، بكاي، منفاي"، وقام بتوظيفها في شعره؛ لإعطاء مزيد من دلالات الحزن حول الحال الّذي وصل إليه، حال اليأس والضّياع والخوف من كلّ شيء، خذ مثلًا قوله:
"أنا وطنٌ،
خنجرٌ، لعنةٌ، لُغةٌ، دمعةٌ، وردةٌ
أنحني أنحني
لأقيم طقوسَ انتحاري"
إنّ المقطع الشّعري مشحون إلى حدّ التّخمة بمفردات تئن بالوجع والحزن والغربة، وإنّ عبدالله رضوان مترع بالشقاء والألم، ومسكون بهاجس القلق والخوف من الحاضر والمستقبل، لذلك حاول عبثًا في نصوصه الشّعريّة الإفلات من ربقة الاغتراب عن الوطن، الذي يجثم على صدره، عبر طاقة الحلم اليوتوبي، وعبر التّصورات الذّهنية الحالمة، وتوظيف المرأة كبديل ومعادل موضوعي للوطن.
وعلى الرّغم من ذلك، إلاّ أنّ نصوصه الشعرية لا تخلو من بعد تشاؤمي يبعث على الأسى والحزن، من هنا راح الشّاعر يصوّر باهتمام شديد حالات الصّراع القاسية التي يعانيها في مقطع مشحون بحنين طاغٍ إلى الوطن "فلسطين"، إذ يقول:
"دعوني أُرَتِّلُ في عَبَقِ الحلمِ
ما قد يكون لنا وطنًا
وأسمّيه فلسطين"
ولعلنا لا نصادر على شيء إذا أشرنا إلى ما ينطوي عليه الوطن/ فلسطين في المقطع السّابق من امتزاج الأمل بالألم والفرح بالدّموع، وعلى الرّغم من كلّ المحاولات الاستعماريّة لإلغاء انتماء الفلسطيني إلى وطنه وأرضه، إلاّ أنّ عبد الله رضوان كواحد من الفلسطينيين ظلّ محافظًا على انتمائه، ومهما اغترب الإنسان، فإنّه يبقى منشدًّا ومأسورًا للمكان الأوّل، والمثال الآتي شاهد على انتماء عبد الله رضوان لوطنه، إذ يبث لواعج آلامه وأشواقه إلى وطنه في قصيدة "قلبي يورطني دائمًا"، مصوّرًا حبّه إلى وطنه، حيث يقول:
"لا حبَّ في الحب إن لم يكن
وطنا.."
وعلى ضوء ذلك يتماهى الوطن عند عبد الله رضوان مع المرأة تماهيًا حدّ الاندغام والانصهار، إذ يقول في قصيدة "شذى ونبيذ وصباح بعيد":
"لا أنت أنت
ولا وطن لك أوفيكْ
فاشرب نبيذ الغواية
تأتي القصيدة فيكْ"
هكذا يحقق الشّاعر ذاته التّامّة باتّحاده الماهي بذات الوطن. وعن معاناة التّشرد كثيرًا ما عبّر عبد الله رضوان عن ألمه وحزنه لبعده عن الوطن، يئن تحت سياط الغربة، ولعلّ قصيدة "وجع الناي" تمثّل بصدق معاناة الشّاعر، وشعوره العميق في الاغتراب والاستلاب، يقول:
كأني أدمنتُ جرحي
وأرّختُ بوحي
بلا وطن أو صديق
كأنّي الغريق"
من هذا المنطلق، يصطدم القارئ في المقطع الشّعري المنشغل بالشّرط الإنسانيّ والاغتراب، بهذا القدر الكبير من الحزن في تسويد النّص، دون وعي لأي تناغم شكلي. إنّ عبد الله رضوان لا يفتأ يكرر التّعبير عن شعوره بالاغتراب، وأنّه مهمّش، لا يقيم له الآخرون لعذاباته وزنًا، الأمر الذي جعله يشعر بالضّياع والاستلاب، وفي هذا الصّدد يقول:
"هم لا يُريدونَني
لا جُنوني
ولا فَرْحَتي
حتّى ولا خَبَري
فمن أين جِئْتِ
على سَطْوةَ الشّوقِ
قَمرًا عاشقًا؟"
لقد بلغ الحزن أقصى مداه عند عبد الله رضوان ليتحول إلى استسلام، وفي ظلّ ذلك ارتسمت الثّلاثيّة الشّعريّة على هذا النّفس الحزين، عبر ثنائيّة الحضور/الغياب، ليجسّد الوطن في بعده الاغترابي على شكل نداءات واستغاثات، ولا أدل على ذلك من قوله:
"أعيدي إليّ اضطرابي
لأكون بلا أي معنى
بلا اسم..
لا وطنًا يحتوي
لا رفاتي"
في هذا المقطع بالذّات، نلاحظ أنّ صوت الوطن يقارع صوت المعاناة القهريّة، وهذا الأمر يتكرر عند عبد الله رضوان في غير قصيدة شعريّة، ليمثل حضور الوطن في الثّلاثيّة الشّعريّة شكلًا لافتًا وواضحًا، ومن مؤشّرات ذلك تكرار لفظة "وطن والوطن" الّتي تكررت ثلاث عشرة مرّة، وقد يعود السّبب في ذلك إلى تأكيد حضور الوطن، ووفق ذلك التّكرار تضوّع عبد الله رضوان شوقًا وحنينًا إلى وطنه، فناجاه، باثًا شكواه وشوقه إليه:
أعنّي على ما هو لي
أعنّي على فتنتي
وبقايا نهاري
أعنّي على وطنٍ يتوعَّد
أو يتباعد
أو ينتهي جمرةً في مساري"
يحن عبدالله إلى وطنه فلسطين، ويهمّ بالعودة إليه، ليشكّل حضور الوطن مكوّنًا من مكوّنات الانتماء والهُويّة الفلسطينيّة، بما يحمله من دلالة نفسيّة تربط الشّاعر بالمكان، حيث يقول:
"فلسطين
يا أوّل العمر
يا آخر العمر
يا شهوة لن تكون"
إنّ المقطع الشّعري يفيض لوعة وتفجعًا على الوطن وحنينًا جارفًا إلى المكان، ويضج بالشّوق إلى الوطن/ فلسطين، ولذلك فإنّ عبد الله رضوان توّاق وحالم دائمًا إلى العودة.
وبناءً على تلك الشّواهد الشّعريّة، أستطيع القول بأنّ عبدالله رضوان مسكون بهاجس الوطن، إلى الحدّ الذي صار يشعر بالضّياع والاستلاب، وعدم امتلاك ذاته في أرض المنفى والغربة، كما نستنتج من ذلك أنّ الوطن يشتغل في الثلاثيّة الشعّريّة على الاغتراب والمرأة، ممتزجًا مع صور الحزن والحبّ والشّوق والعودة.
وسوم: العدد 878