تاريخ الآداب الإنسانية (2) "بدايات ومؤثرات"
(3) وبهذا تكون مصادر العلم عند آدم وذريته محصورة في علمين هامين هما :
1. (علم الوحي عن عالم الغيب ) .
2. (علم العقل عن عالم الشهادة ) .
1- العلم الأول (علم الوحي)
وهو العلم المنقول من الله سبحانه وتعالى، بوساطة الأنبياء والرسل الكرام إلى الناس، وكان آدم عليه السلام هو النبي والرسول الأول لذريته، وكانت وظيفتهُ وظيفةُ الأنبياء من ذريته من بعده إلى يوم الدين، هي تبصير الناس وتعليمهم في القضايا التي يعجز العقل البشري في البت بها، لأنه لا يملك عنها علماً، كالمعرفة بحكمة وجودنا في الحياة، ومقصد وجودنا منها، وهي عبادة الله سبحانه وتعالى على علم منه ومن رسله، وتحديد العَلاقة بين الخالق والمخلوق بعيدا عن أهواء البشر، وبما يريده الله من العبادة ويرضاه منهم، ثم علاقة الخلق ببعضهم، وتعليم كيفيات العبادات والطاعات التي يريدها الله من الخلق، من خلال حقائق الوحي وأمره، ولهذا جاء الأنبياء ليعلموا الناس حقوق الله على العباد، وحق العباد على الله، والتشريع للحياة بما أحل الله لهم أو حرم عليهم، وضبط الحياة بموازين العدل والقسط والشريعة بما يرضي الله، ويحفظ نظامها الخاضع لأمره، وحماية الناس من الفوضى، وتضارب العقول والأهواء، وتفسير الحياة، والإجابة على الأسئلة الكبرى التي تقلق الجنس البشري، ومنها السؤال الكبير الأكبر الذي يعيشه ويردده الجنس البشري من كل جيل من الأجيال، لماذا جئنا إلى هذه الحياة؟ ومن أوجدنا فيها؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
ونلاحظ أن وظيفة العقل البشري في هذا العلم هي في استيعاب وفهم وفقه الأمر الرباني ومقاصده، والاجتهاد لذلك بأقصى درجات الاستطاعة، ودون تحريف أو حذف أو زيادة في ذلك، كما وردت في مصادرها من (رسالة الوحي لأنبياء الله)، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بإرسال الرسل الهداة إلى جميع الأجيال البشرية في القضايا التي لا يملك العقل البشري عنها علماً، لأن العقل البشري لا يملك علما عن عالم الغيب، إلا ما يتلقاه من علم الوحي والأنبياء، ومن خلال المقدمات والنتائج التي يفهمها العقل من نصوص الوحي المنقولة، واستخراج الفقه بشروطها وضوابطها الفقهية، ومن المصطلحات التي تطلق على هذا العلم (علم الوحي)، ومنها ما اشتهر عند العلماء (علم المنقول أو علم النقل) أو (علم الكتاب المسطور)، ويمثله في الرسالة الخاتمة للبشرية (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة).
2- العلم الثاني (علم العقل لعالم الشهادة)
وهو العلم الذي وكل الله سبحانه وتعالى فيه العقل البشرى مهمة اكتشاف سننه وموازينه في الواقع الأرضي والحياة، والبحث عن سبيل العيش وتيسيرها، لأعمار الأرض وتسهيل خلافة الإنسان فيها، وذلك من خلال اكتشاف السنن والقوانين التي تحكمها، حيث يقوم (العقل البشري) الذي زوده الله بالطاقات الهائلة التي تمكنه من التعرف على (عالم الشهادة) من خلال (الحواس الخمس) التي تجمع له المعلومات، و(الدماغ )الذي يحللها و يحاكمها ويفهمها ويتأكد من قوانينها وحقائقها، و(القلب) الذي يدرك قيمتها وأثرها وخطرها، ووجه المصلحة للإنسان فيها، حتى يتمكن العقل من تنزيل علوم الوحي وأوامره في المقام السليم من تعمير الحياة مرتبطاً في ذلك بٍنِيّة العبادة والطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ويدرك هذا العقل أن (الدنيا مزرعة الآخرة)، وعليه أن يحسن العمل في هذه المزرعة حتى يحصل على الثمار الطيبة منها في الآخرة، التي هي مقصد وجودنا في هذه الدنيا.
وعلى العقل أيضا أن يدرك أن من وظائفه أن يتعرف أيضا على عظمة الله من خلال عظمة إبداعه في خلقه ومخلوقاته المبثوثة في آفاق السماوات والأرض، ليتعلم فضل الله عليه، ويتعلم شكر الله على نِعمِه بعد إدراكها والإقرار بها.
والملاحِظ يدرك أن العقل البشري يتعلم من سنن الله وقوانينه التي غرسها في خلقه، ويحولها إلى نِعم ومكتشفات ومخترعات، تُيَسر حياته وحضارته وخلافته على الأرض، وذلك حين تَعلم صناعة (الطيران من الطيور)، (والسفينة من الأسماك)، (والرادار من الخفاش)، (والإذاعة من طبقات الجو)، (والكمبيوتر من الدماغ البشري)، (ومكبر الأصوات من الأذن)، (وآلة التصوير من العين)، (والطائرة العمودية من البعوضة)، إلى آخر هذه المخترعات التي لا حصر لها، وبذلك يدرك الحقيقة ويعرف أن مصدر العلم هو من عند الله سبحانه وتعالى، فالله يعلمنا من علمه إما بكلامه وعلمه المباشر من طريق (علم الوحي)، أو من علمه الذي أودعه في مخلوقاته في السماوات والأرض، وفي أرجاء الكون من طريق (علم العقل)، وتوظيفه في خدمة الإنسان، ويسمى هذا العلم المدرك عن طريق العقل في ما اشتهر من مصطلحات العلماء (بعلم العقل أو علم المعقول أو علم الكتاب المنظور)، لأنهم شبهوا الكون والمخلوقات بالكتاب المفتوح للتعلم أَمام حواس الإنسان وعقله، قال تعالى: (أولم يرى الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سَقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون)(13).
وقد أشاد أحد الشعراء في تفاعله مع هذا المشهد الكوني العظيم الذي رسمته الآيات الكريمة بقوله:
فذا الكون جامعة الجامعات وذا الدهر أستاذها المعتبر(17)
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 881