تاريخ الآداب الإنسانية (3) "بدايات ومؤثرات"
(4) مصطلح الواقعية الإسلامية
الأرض هي الوطن (المنفى) والمؤقت للجنس البشري، وذلك بعد نزول آدم عليه السلام وزوجه إليها، وتكاثر ذريته فيها وانتشارها في الأرجاء، وهي مزرعة الآخرة، ومجال اختبار أفعاله، التي تؤهله للعودة إلى وطنه الأصلي (الجنة)، ومن هنا ندرك ونتفهم الواقعية التي تعلم الإنسان أن يعيش على الأرض التي يدركها بحواسه، وهو يعلم في ذات الوقت أن هذا الواقع الملموس له جذور ممتدة، ومغرقه في عالم الغيب، و أن إنكار (عالم الغيب) هو نوع من ممارسه الغباء المنهجي، والعمى الفكري، ووهم الذات الذي يغذيه العناد الأجوف، وأن الواقع المتحقق حقا وفعلا ووجودا هو (عالم الشهادة وعالم الغيب الذي يختبئ وراء)، لأن (الواقع الحسي) أشبه برأس جبل الجليد، والغيب المخفي أشبه ببقية جبل الجليد الضخم الذي يغمره ماء البحر، أو هو أشبه بالشجرة جذورها المخفية في باطن الأرض، تشبه (عالم الغيب)، وساقها وثمارها وأغصانها تشبه (عالم الشهادة)، ولهذا فالواقعية في المفهوم الإسلامي تقوم على وصف حاله التجاذب والترابط بين المرئي والمخفي في فهم مصطلح (الغيب والشهادة)، دون فصل أحدهما عن الآخر وتأصيل الاعتراف بالحقيقة الكاملة للوجود من (الشهادة والغيب).
وأن ندرك أن الشرط الموضوعي الأول: لهذه الواقعية يقوم على عدم القفز عن قطبي المعادلة، لأن (القطب الأول عالم الشهادة) هو الذي يشكل البوابة العظيمة التي ندخل منها إلى (القطب الثاني عالم الغيب)، وذلك بحكم الخضوع لحقائق الواقعية، ومنها إحساس الحواس، وارتباطها بعالم الشهادة أولا، واكتشافها وتعرفها على (عالم الغيب) يأتي بعد تعرفها على (عالم الشهادة) تاليا وثانيا، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومن ضيع مزرعته ضيع آخرته، وآيات القرآن الكريم تعلمنا أن الإنسان لا يعيش معلقاً بين السماء والأرض، بل هو ابن الأرض ومن طينتها خُلق، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد)(14).
فسطح هذه الأرض هو مستقر هذا الإنسان، وهي مَرْساه، وموطئ قدمه، ومكان خلافته، وإشباع حاجاته ورزقه، وهي التي تستثير عقله ورغباته للتطور، وتتحرش به للاستجابة، ومنها يتعلم التفكير والاكتشاف والاختراع والتجريب، وفيها يدرك نعم الله حين سخر له المخلوقات، وذللّها لخدمته، وهذه الأرض دليلهُ إلى معرفة الخالق، وإدراك عظمته من خلال التفكير في مخلوقاته، ومنها يطل على السماء، فيستشرف عظمة عالم الغيب، فيها خلق وعليها درج، وإلى باطنها يعود، ومنها يبعث قال تعالى: (فيها تحيَون وفيها تموتون ومنها تُبعثون)(15). وهو محكوم بقوانين الزمان والمكان، والسنن التي تحكمها. وهذا الإنسان بدون الواقع الأرضي هو أشبه بآلة خُلقت لعدم الاستعمال تكون نهايتها الاندثار.
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 882