نظرة في كتاب: خلف العبيدي ــــــ رجل في هذا الزّمان
رجل من هذا الزّمان ــــ تأليف علي عطا أبو سرحان، كتاب سيرة صدر من مطبعة أبو خليل، في طبعته الأولى، عام 2020، قدّم للكتاب الأستاذ جمال الدّرعاوي رجل الإصلاح المعروف في بيت لحم. وخُتم الكتاب بمقالة للأستاذ فايز سعود أبو سرحان رئيس قسم أصول الدّين بجامعة الخليل.
يعدّ هذا الكتاب من كتب السّيرة الذّاتيّة، إذ يتحدّث فيه الحاجّ خلف عن نفسه، نسبه ومولده، وعن أسرته، وبلدته، عن طفولته، وتعليمه، وشبابه، وكهولته، عن العمل، وعن ولوجه معترك الصّلح العشائريّ، ويأتي على التّعريف بالكثير من الأعراف والقوانين العشائريّة. وصلني الكتاب نسخة إلكترونيّة من أستاذي الأديب الرّوائيّ جميل السّلحوت، الذي عهدته من قبل وفي لقاءات كثيرة يقدّر شخصيّة هذا الرّجل صاحب السّيرة، ويعدّه من كبار رجال الإصلاح في المجتمع المقدسيّ، وعَلَما من أعلام العشائريّة في القدس بل في فلسطين. وبحقّ هو رجل مشهود له بهذا، ومعروف لدى النّاس في أوساط العامّة والخاصّة، ويلجأ إليه النّاس في حلّ خلافاتهم، ويرضونه ويلقى القبول، وقد شهدتُ له مواقف كثيرة، كان فيها الرّجل الفهيم البليغ الفطين الجريء في قول الحقّ، والحريص على إصلاح ذات البين، ولا ينكر للحاجّ خلف وأمثاله من وجوه العشائر وأهل الإصلاح دورهم في حفظ السّلم الأهلي والأمن المجتمعيّ، ورأب الصّدع في علاقات النّاس ودرء الفتن ووأدها إذا ما اشتعلت في ظروف استثنائيّة يعيشها أهلنا في القدس وباقي أنحاء فلسطين، فالظّروف التي خلقها أو يخلقها الاحتلال تدعو إلى الفتنة والشّقاق، وكذلك غياب القضاء الشّرعيّ المنوط بدولة الإسلام، فما لجأ الناس إلى العشائريّة تاريخيّا وتعارفوا على أحكامها منذ عهد متقدّم في بيئات بدويّة أو قريبة من البدويّة، إلا لضعف الدّولة الإسلاميّة، وقَصْر القضاء الشّرعي وفضّ الخصومات بين النّاس على أهل المدن التي تسيطر عليها. فنشأ القضاء العشائريّ مزيجا من موروث شرعيّ واجتهادات بشريّة عقليّة اقتضتها ظروف الحياة البعيدة عن المدنيّة، فكان للعشائرية أعراف وأحكام تعارف عليها النّاس ورضوها، فتشكّل ما يسمّى القضاء العشائريّ، وهنا أمران يجب أن يُشار إليهما: الأول هو تولد عقليّة لدى الناس في هذه البيئات تأبى وتأنف اللّجوء إلى الدّولة في حلّ النّزاعات وفضّ الخصومات واسترداد الحقوق، ورفع الظُّلامَات، وتعدّه كما أشار الحاجّ خلف ضعفا أو عيبا يعيّر به أصحاب الحقّ، وتعدّ اللّجوء إلى رجال الإصلاح والقضاء العشائريّ أمرا محمودا لا مشاحة فيه، وهذا له أيضا مسوّغات تتعلّق بطبيعة القضاء في الدّول المستحدثة، والتي منها ما يصفونه بـ ( حبال الدّولة طِوال) فمثلا العشائريّة لا تحتاج إلى قوة وجهاز شُرَطيّ لوقف شجار ما قد لا يستطيع جهاز شرطة وقفه، وكثيرا من القضايا لا تطول، فلا تجد عطوة تبلغ عاما سوى عطوة الدّم، وهناك قضايا إذا رضي الحكم فيها المتخاصمان تحلّ في جلسة واحدة، ويتعلّق أيضا بطبيعة العقليّة التي يربّى عليها النّاس في هذه البيئات والتي تنصّ على (أخذ حقّك بيدك)، وتقديرهم أو هيبتهم من الأعراف أكثر من هيبتهم من السّلطان في هذا الشّأن. أمّا الأمر الثّاني الذي يجب التّنويه له فهو التّفريق بين الصّلح العشائريّ، والقضاء العشائريّ، فالصّلح جائز بين النّاس إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا، وحثّ عمر رضي الله على الصّلح بين المتخاصمين قبل أن يصلوا القضاء، لأنّ القضاء يوغّر الصدور، وهذه مهمة جليلة وهي عبادة عظيمة، بل هي أعظم أجرا من النّافلة في الصّلاة والصّيام، ويعدّ وجود رجال الإصلاح في مثل هذا من الضّرورات، ومثل هؤلاء ومنهم الحاجّ خلف العبيدي يبذلون أوقاتهم وجهودهم وأحيانا أموالهم في سبيل إصلاح ذات البين. أمّا القضاء العشائريّ فيستند إلى أحكام وقوانين، لا تستند في معظم أصولها إلى أحكام الشّرع. ودليل ذلك ما يسمّى (القلطة)، مع أنّ رجال العشائر لا ينكرون أحكام القضاء الشّرعيّ ويتأثّرون بها، ولا يقفون في وجه من طلب القضاء الشّرعيّ من المتخاصمين.
على أيّة حال نحن أمام سيرة ذاتية لقامة من قامات الصّلح العشائريّ الحاج خلف العبيدي، ويطيب لي أن أضيف لاسمه هذا (المقدسيّ)، استطاع من قام على هذا العمل، وهو الأستاذ علي عطا أبو سرحان، أن يخرجه لنا في لغة بسيطة مفهومة، وبأسلوب شائق، وتراكيب جيدة، مع أنّه لا يخلو من هنات قد يكون مردّ بعضها إلى الطّباعة. واستطاع أيضا أن يرتّب مادّته ترتيبا جميلا لافتا، فجعله فصولا: التعريف ببلدة العبيديّة تاريخا وجغرافيا وسكّانا، والوقوف عند مَعْلَمين من معالمها الأثريّة هما دير مار سابا، الذي يُظنّ أنّ مولد المسيح عليه السّلام كان فيه، ودير ابن عبيد، الذي سمّيت القرية بالعبيديّة نسبة له. ثم يأتي على المولد والأسرة والنّشأة والطّفولة والتعليم والأب والأمّ والأخوة والسّكن وحرب حزيران، وتغيّر أحوال الأسرة الاقتصاديّة، والتي أسمّيها الخروج من بين الرّكام، والمحطّات المؤثّرة في حياته وغيرها. وقد صوّر في سيرتها هذه الحياة في تلك الحقبة من مولده إلى مطلع السبعينيّات تصويرا دقيقا، فجاء على الطّفولة البائسة، والفقر، والبطالة، وفقدان وسائل الحياة المدنيّة، وانعدام الرعاية الصحيّة، والتّعليم، والمرأة ودورها في حياة الأسرة أمّا وأختا وبنتا، وما كانت تلقاه من قلّة التّعليم وانعدام الفرصة في اختيار الزّوج، ولم أجد معاناتها نابعة من كونها امرأة، بل نابعة أو متعلّقة ببيئة فقر وحرمان وجهل تعمّ الجميع. جاء الحاجّ خلف في سيرته على بعض اللّحظات أو الأحداث التي تركت أثرا في نفسه من مثل حادثة الأفعى، أو عضّة الحمار التي أودعته المشفى أسابيع، وهذه لحظات مهمّة في السّيرة الذّاتية ولها قيمة فنّيّة. ومن فنّ السيرة أيضا أن يعرّج صاحبها على بعض من سيرة الأقربين منه ومَن تركوا أثرا في حياته، كسيرة أخيه عليّ صالح رحمه الله. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الحياة التي جاء على توصيفها كانت أنموذجا لحياة تعمّ أبناء هذا الشّعب المكلوم في تلك الحقبة، وهذا يعطيها قيمة توثيقيّة جليلة. وبخاصّة في القرى. كان لحرب حزيران 1967 وسقوط القدس في يد المحتلّ والإجراءات التي أعقبت احتلالها كهدم بعض أحيائها أو الإعلان عنها عاصمة لدولة يهود، وحالة النّاس النّفسيّة والأمنيّة في أثناء الحرب، كان لكلّ هذا نصيب من الذّكر والتّوثيق، فلم يفت صاحب السّيرة أن يذكر شهادته رغم صغر سنّه على هذا الحدث الخطير ولا على الإجراءات التي أعقبته.
جاء الباب الثّاني أو الفصل الثّاني من السّيرة ليتحدّث عن الأعراف العشائريّة، فتحدّث فيه عن أمور كثيرة كان أولها سيرته في هذا الجانب من الحياة المجتمعيّة، كيف اكتسب أو حصّل العلم بالأعراف العشّائريّة، وعدّد شيوخه في هذا الشّأن، وهم بحقّ قامات عشائريّة في القدس والضّفّة بخاصّة وفلسطين بعامّة. أكّد من خلال سيرته على كيفيّة اكتساب الفهم في حلّ مشاكل النّاس ومهارة إصلاح ذات البين، والعلم بالأعراف والقوانين العشائريّة، فأكّد على نظريّة أو مقولة: أولاد المجالس غلبوا أولاد المدارس. وهي نظرية صحيحة في تحصيل هذا الفنّ، فأنت لا تكتسب هذه المعرفة من كتب، بل تكتسبها من خلال مجالس تُعالج فيها قضايا واقعيّة متجدّدة تختلف كلّ واحدة منها عن الأخرى في أغلب الأحيان، تنزّل عليها الأعراف مراعيةً واقعها، فأنت لا تدرس هذه الأعراف من كتاب تحفظ مصطلحاته وقوانينه، قد يجوز هذا في دراسة القوانين المدنيّة، ولكنّه لا يكون في العشائريّة، فالعشائريّة تنزيل فهم لعرف وقانون على موقف يجتهد في فهمه العشائريّ على أرض الواقع، وهي أشبه ما تكون بـ (الطرق الحُكميّة) التي أشار إليها ابن القيّم، فقد حكم عثمان رضي الله عنه بجلد امرأة زنت فبان حملها، فلاحظ الإمام علي كرّم الله وجهه أنّ المرأة اعترفت بزناها دون وجل أو خشية، فكأنها لا تعرف أنّه حرام وعليه عقوبة، فلما راجعها عثمان وجدها قد أسلمت حديثا، ولا تعرف مفهوم الزّنا ولا عقوبته، فعفا عنها وأفهما الحكم. وقد رأيت بعضا ممّن قرأوا هذه السّيرة يقف عند هذه المقولة موقف المنتقد، وكأنّي به قد فهمها تفضيلا للمجالس على المدارس، والحقّ أنّه لا يُفهم منها هذا البتّة، بل يُفهم منها أنّ معالجة مشاكل النّاس بالصّلح أو الأعراف العشائريّة لا يكون إلا بالانخراط في حياة النّاس، ومعاشرة أولي الاختصاص لقضايا واقعيّة. ولم يفت صاحب السّيرة التّنظير للعشائريّة وأهمّيتها ونفي التّهم عنها، وقد نجد بعض النّقاط التي تحتمل المناقشة والأخذ والرّد. وقد جاء الحاجّ على تفصيل العطوة وأنواعها، والكفالة وأصنافها، والتّحكيم، والقضاء، وأصناف القضاة وغيرها الكثير، وأتى على كثير من المصطلحات العشائريّة كالجلوة، وبعير النّوم، والدّخيل وغيرها. وجاء حديثه عن قضايا العِرض موجزا فلم يذكر إلا (صائحة الضّحى)، ويغلب على ظنّي أنّ قضايا العِرض أوسع، وهذا لا يغيب عنه، ولكنّ الكتابَ كتابُ سيرة فلا يعدّ هذا مأخذا على الكتاب. ولهذه المصطلحات أهمّيّة في التّوثيق التراثيّ واللّغويّ، وقد وجدت فيه بعض ضالّتي في بحث المصطلح العشائريّ في جانبه اللّغويّ.
وكان لاختيار صاحب السّيرة الحديث عن قهوة البنّ وعلاقتها بالأعراف العشائريّة أمر مهمّ ولافت، بدأ حديثه بذكر أدواتها وتحضيرها، ثمّ الحديث عن شربها وعلاقته بالعرف القضائيّ أو علاقتها بالمجالس العشائريّة الموروثة. وأسماها (طقوس القهوة) وهذه تسمية لها أبعادها. وعلى أيّة حال كان لحديثه عنها جانب توثيقيّ مهمّ في حفظ الموروث.
وأخيرا أُتبع الكتاب بملحقات، هي مجموعة وثائق لقضايا فَصَل أو حكم فيها. وأظنّها غيضا من فيض.
وقد رأيت في الكتاب أبعادا متعدّدة تجاوزت كونه كتاب سيرة ذاتية، فهو إضافة جميلة ورائعة للمكتبة التراثيّة، ونمط من السيرة يأتي فيها صاحبها على ذكر اختصاصة والتفصيل فيه، وهذا نوع من الانتماء. والكتاب توثيق لجوانب مهمّة من الحياة المجتمعيّة، وبخاصة في جانب الإصلاح والقضاء. ولا يسعني إلا أن أدعو للحاجّ خلف العبيدي بدوام الصّحّة والعطاء وموافقة الحقّ، والأجر العظيم في حقن دماء النّاس ورأب الصّدع في علاقاتهم.
وأخيرا أوّد التّأكيد على أنّ الصّلح العشائريّ جائز، أمّا القضاء العشائريّ فما كان له أن يكون لو وجد سلطان للإسلام يقام فيه القضاء بما أنزل الله، وقد جاء هذا القول على لسان القاضي العشّائريّ أبو الفهد أبو داهوك في منتصف التّسعينيّات في قضية اعتداء على عِرض حكم فيها بأحكام لافتة أثارت ضجّة إعلامّية، فكان منه هذا التّصريح في سياق مقابلة أجرتها معه مجلّة العودة المقدسيّة. وأكدّ مثل هذا الأستاذ داود الزّير (أبو سامي) في مقابلة له أجرتها معه وكالة (معًا) في بيت لحم.
وسوم: العدد 884