تاريخ الآداب الإنسانية (6) "بدايات ومؤثرات"
5. المرحلة الخامسة (اكتشاف فوائد هذه المنهجية):
هذا المنهج هو خلاصة الواقعية الإسلامية المبصرة، التي تعلم الإنسان التواضع في العلم، والخضوع لحقائق الحياة، ولا يتعلم المكابرة فينكر(عالم الغيب)، لأن ما غاب عنا وعن حواسنا وعقولنا هو الكثير، وما انكشف لنا منه (عالم الحضور) الغائب عنا، هو أقل القليل، ولا نكون كالنملة الذي أنكرت ضخامة الجبل لأنها لا تراه، وبهذا يدرك الإنسان أنه يسبح في بحر من الحضور الغائب، والخلق والسنن التي لا ندركها، فلنتعلم التواضع ولا نقع في ما وقع فيه الملاحدة الذين أنكروا (الغيب وعالمه)، ونحن لا نعلم عن سبب هذا الاستعجال في إغلاق باب العلم وقصره على (عالم الشهادة)، وما يقع في متناول الحواس، أهو الزهد في العلم والبحث عن الحقيقة، أم الكسل والركون إلى الراحة، أم هو عمى البصر والبصيرة، والاكتفاء بالدنيا بوظيفة الطعام والشراب، وانتظار الموت التي يشاركنا فيها الحيوان والنبات هذه الوظائف؟!
بل والأغرب من ذلك أن تتبنى منظمه اليونسكو تسويق هذا التعريف، الذي يقصر العلم على (ما جاء عن طريق الحس والتجربة)، هذا التعريف الذي ينكر علم الغيب والوحي والأنبياء والأديان السماوية، لدفع البشرية إلى هذا الكفر القائم على تمجيد الجهل، وإنكار عالم الغيب والحضور، وفي أحسن الاعتبارات العلمانية التي تعتبر الدين موضوعا شخصيا غير ملزم للدولة ولا للمجتمع، بل هو متروك لحرية الأفراد في أحسن الأحوال إن الإنسان لظلوم جهول.
والمنهج الإسلامي يعلمنا الاعتراف لله بالفضل والمنة، حين أوجدنا من العدم وعلمنا (علّم الإنسان ما لم يعلم) علمه من علم الوحي، وعلمه من سننه وقوانينه في خلقه المبثوث في السماوات والأرض، ومن خلال جهود عقله في اكتشاف حقائق هذا الكون والمخلوقات.
هذا هو العقل المتصل، وهذا هو منهجه الذي ظل متصلاً بالله وبعلم الوحي، يتلقى الهداية من الأنبياء، من آدم عليه السلام وأجيال المؤمنين من أتباعهم، حتى انتهى ميراث علم النبوة، إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، لأنها تحمل الرسالة الخاتمة للناس كافة، وفي جميع أجيالها إلى يوم الدين، من خلال مرجعية ثابتة لم يستطيع الزمان أن يلعب بها أو يحرفها، إنها مرجعية محمية من مُنزِّل الكتاب سبحانه وتعالى، متمثلة في (القرآن الكريم والسنة الشريفة) (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(21).
ويؤمن هذا العقل المسلم المتصل بالوحي بمحاور الهداية ويلتزم بها ويخضع لها، وبذلك يتعلم (الحكمة)، التي هي منهجه لأن الله سبحانه وتعالى أعطاه منهجا بهذه المحاور، وضوابط تحميه من الهوى، ويعلمه الحكمة والاتزان، ولذلك فهو يرفض (منهج الفلسفة) الذي يتبعه (العقل المنفصل)، الذي اختار الانفصال عن الدين والتلقي من الوحي، واختار حريته وفضلها واعتبرها دينه، فأوكله الله تعالى إلى (فلسفته) وذاته، يفكر ويتخبط كما يشاء، ليس له هداية ولا محاور ولا ضوابط، وهذا هو الفارق بين (الحكمة) التي تفكر من خلال منهج الإسلام ومحاور الهداية التي وضعها، وبين (الفلسفة) التي تفكر من خلال الاتكال على عقل الإنسان وطاقاته، وحيث جعل من حريته واختياره ومصالحه معبوده وهواه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه)(22).
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 885