تاريخ الآداب الإنسانية (7) "بدايات ومؤثرات"
(7) الأدب الإسلامي قبل الرسالة الخاتمة
الأدب الإسلامي إذا أخذناه بمفهوم الآية الكريمة (إن الدين عند الله الإسلام)(23)، فإنه يعني أدب الأمم الإسلامية التي عبدت الله على دين التوحيد، من آدم عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الأنبياء، في الرسالة الإسلامية الأممية، لأن جميع الأنبياء كان مضمون رسالتهم واحد وهو أن: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره)(24)، فكيف عبر المؤمنون عبر حقب التاريخ عن مشاعرهم تجاه الحياة ومواقفهم ومعاناتهم؟ لا شك أنهم استعملوا اللغة التي هي أداة الأدب قال تعالى: (خَلَقَ الإنسان علمه البيان)(25)، ولكن الكتابة والتدوين هو الذي تأخر عند الإنسان، والإنسان تعلم اللغة مبكرا قال تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها)(26)، لأنه جاء بالخلق المباشر من الله سبحانه وتعالى، وليس له أب ولا أم ولا بيئة يتعلم منها اللغة، ولذلك عوضه الله سبحانه وتعالى بالتعليم المباشر، وكانت حياة الإنسان على الأرض في بدايتها تقوم على الكلمة المسموعة والمشافهة، ولأنه لم يتوصل إلى الكتابة والكلمة المكتوبة إلا في فترات متأخرة من التاريخ، ولذلك ضاع كثير من علم الإنسان وتجاربه وثقافته وآدابه وفنونه، وطواها النسيان لتأخر الكتابة والتدوين.
لكننا نعود ونقول أنه منذ أن نفخ الله سبحانه وتعالى الروح في آدم عليه السلام، وجعل له قلباً ينبض بالحياة بين جنبيه، والإنسان يحمل مشاعره، ويشعر بموقعه تجاه الحياة والأحداث ويعبر عن نفسه وهمومها، وهذا هو الأدب بعينه، أنه باروميتر يقيس جدوى الحياة وفائدتها، وما تم إشباعه من طموحاتنا، وما لم يتم أو يتحقق منها، وما نشتاق إلى تحقيقه، ولذلك نحن نتخيل أن الآداب والفنون التي أنتجها المؤمنون والمسلمون الأوائل من أتباع الأنبياء في جميع مراحل الإسلام، من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذي ورثت حمل رسالة من بعده، كلها تمتاز بالخيال الفني الواقعي، وبلاغتها وبيانها وأدبها مرتبط بعقيدة التوحيد، وهم يختلفون عن خيال وفنيات الأمم الوثنية، الذي قام على الأساطير والخرافات والسحر، وسبب هذا الافتراق واضح وجلي، يقوم على مقدمة منهجية ومنطقية، هو أنهم استمدوا أدواتهم الفنية من ماده الواقع كما فهمه هؤلاء المسلمون الذي عاشوا تحت ظلال عقيدة التوحيد، وهي العقيدة الواضحة المعالم في تفسير الحياة ووجود الإنسان، ومقصد خلق الله له، لأنهم تلقوها ناصعة جليه على يد الأنبياء في مختلف العصور.
ورغم أننا لا نملك نصوصا قديمة تثبت ما ذهبنا إليه علي منتجهم الأدبي، لأن العصور الموغلة في القدم كانت تقوم على الثقافة الشفوية قبل اكتشاف الحرف، وتوصل الإنسان إلى الكتابة والتدوين، وحيث ضاع الكثير من تجارب وعلم الإنسانية وخبراتها وطواه النسيان، إلا أننا لا نعدم بعض الأدلة والمؤشرات التي تؤيد ما ذهبنا إليه، وتقوي الميل العلمي إلى الأخذ بها، والاستفادة منها وهذه الدلائل هي:
(1) نستطيع أن نستدل على ذلك في بعض ما ورد من نصوص الإنجيل ومن التوراة، ورغم أنه لا يعتد بما فيهما من الحقائق المحرفة، وذلك للبعد الواضح بين تاريخ هذه النصوص و عصر التدوين الذي دونت فيه، إلا أننا يمكننا الاستفادة من ما ورد فيها من قطع تحسب على فنون الأدب: (كالقصص والأمثال والشعر والغزل)، التي كتبها مدونوا التوراة للتعبير عن ذواتهم، ونلاحظ أن هذه النصوص لا يوجد فيها الخيال المجنح الذي يمتد مع الأساطير والترهات، التي تستثمر في بناء النسيج الأدبي التي لم تألفها عقلية أتباع ديانة التوحيد على اختلاف مسمياتها (الأديان السماوية).
(2) والدليل الثاني: أن مما لاحظناه وجدنا أن الباحث الفرنسي ارنست دينان سبقنا إلى تأكيده، ذلك حين اتهم الخيال السامي في التوراة بأنه خيال واقعي غير ممتد في جانبه الأدبي لأنه لا يشبه الآداب الإغريقية وخيالها المجنح القوي، الذي يعتمد على الأساطير والمسرح والملاحم، ثم عمم ذلك على الخيال في الآداب السامية ومنها (الأدب العربي)(27).
(3) ونحن نؤكد نفس الفكرة، فيما ورد إلينا من نصوص أدبيه تمثل بقايا الأدب الإسلامي في العصر الجاهلي العربي ,من بقايا المسلمين أتباع سيدنا إسماعيل عليه السلام، فيها سمات الأدب الإسلامي بواقعيته في الأبنية الفنية وفي خياله المستمد من الواقع الطبيعي، أو من المخيلة الدينية التي تحمل بقايا دين التوحيد في العصر الجاهلي، ومن أمثال ذلك قول زهير بن أبي سلمى الذي يعتبره بعض الباحثين من أواخر الموحدين على دين إسماعيل عليه السلام وفي معلقته الشهيرة:
* فلا تكتمن الله ما في صدوركم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
* يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم حساب أو يعجل فينقم(28)
وكذلك ما نراه من عقيدة التوحيد والاعتقاد بالبعث ويوم القيامة في كثير من أشعاره، وبخاصة قصيدته المعروفة باللامية التي يقول فيها:
* ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أَرى من الأمر أو يبدوا لهم ما بداليا
* بدا لــــــــــيَّ أن الله حـــــق فزادنـــــي إلى الحق تقوى ما كان باديــــا
*بدا ليَّ أن الناس تفنـــــــــــى نفوسهـــم وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا(29)
ويلاحظ الباحث في لغة زهير الفنية أنه يمتاز بالخيال الواقعي الذي يخدم الموقف الشعوري، وذلك من خلال البلاغة والبيان الأدبي الذي يستمد صوره وتشبيهاته من الواقع اليومي وخبراته ببساطته وعمقه، ومن أمثله ذلك تشبيهه لموكب مجموعة من النسوة المسافرات المتجهات إلى وادي الرس كتوجيه اليد إلى الفم لا تخطئه ولا تحيد عنه، ومن خلال صورة فنية تمتاز بالبساطة والصدق والعمق، وبهذا السهل الممتنع وذلك بقوله:
بكرنَ بكوراً واستحرن بسحرهِ فَهُنَّ لوادِ الرَّسِ كاليدِ للفَمِ(30)
أو كقول لبيد في معلقته:
فارضَ بما قسَم المليكُ فإنما قسم الممالك بيننا علامها(31)
ومن الأمثلة أيضا على تقنيات البساطة والدقة والواقعية عنده:
فلو لم يكن في كفه غيرُ نفسه لجاد بها فليتق اللهَ سائله
ويمكن للدارس أن يتابع ذلك في آثار شعراء آخرين من العصر الجاهلي.
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 886