مساقات الادب الاسلامي /الجامعة الاسلامية غزة/ اعداد د. كمال احمد غنيم (1) الأدب الإسلامي والجنس
لا يستطيع أي مفكر أن ينكر دور الأدب "المكشوف" في إفساد الأخلاق وانحرافات العواطف، ان الوصف الدقيق للجرائم الجنسية وإحاطتها بجو من اللذة المجنونة، والشهوات العارمة، والإلحاح في ذلك إلحاحاً مسرفاً، قد خرج بها عن دائرة الفن، ولم يبق فيها غير الإثارة البشعة، فجسمت المشكلة تجسيماً مبالغاً فيه، وأوقعت كثيراً من الأغرار في حماة الخيالات الجنسية المؤرقة، وفي حضيض الكبت المعقد وعطلت طاقات مادية وروحية كثيرة، وقد ثبت بالإحصائيات الرسمية أن نسبة كبرى من قراء هذا اللون من الأدب هم الفتيان والفتيات في سن المراهقة، كما أثبتت أيضاً أن قصص الجنس قد فاقت غيرها من القصص من حيث أرقام التوزيع، وإقبال الناشرين على هذا اللون الفاضح الذي يدر عليهم الأرباح الطائلة، قد ازداد بنسبة ملفتة للنظر. وقد تمادى كتاب الجنس في إسفافهم فتناولوا العلاقات الزوجية والعائلية بمزيد من الاستهتار حتى أنهم يكتبون عن الخيانات الزوجية، والعلاقات الغير شرعية، واللقطاء وقضايا العشاق.. وإلخ. يكتبون عن ذلك وهم يشعرون القارئ بالتعاطف مع الذين يأثمون، وقد لا يكون لإثمهم مبرر سوى مجرد إشباع الغريزة عن أي طريق.
ومع ذلك فإن هذه الموجة العارمة من الانحلال لم تنتصر تماماً بعد، أن في أوروبا وأمريكا هيئات للرقابة تحارب هذا اللون من الخروج الأخلاقي كما حدث في قصة »لوليتا« الشهيرة وغيرها، وروسيا تحارب هذا اللون بدورها. وتعتبره تهديداً مباشراً لحركة النمو والتطور الحضاري، ومؤذياً لطاقات الشباب المنغمسين في حركة البناء الكبرى، والمفكر الإسلامي لا يقر هذه البذاءة الخلقية أو الدعارة الأدبية، فالمسلم عف اللسان، عف القلم، عف اليد، والمسلم يعلم أن العين تزني واليد تزني، فالمسألة ليست جريمة جنسية مباشرة وإنما هي أعمق من ذلك وأكبر.. قد يرى البعض أن وصف دقائق النزوة الجنسية قد يفيد من الوجهة العلمية والدراسات السيكولوجية، لكنهم يتجاهلون أن كتاباً لعلم النفس يختلف تماماً عن قصة من حيث الطريقة والتأثير، إن الكتابات العلمية لا تحرك غريزة الإنسان وان كانت تنمي من معارفه وتوسع من ثقافته ولا تحرص على ارتكاب إثم من الآثام، أما القصة _مثلاً _ بما فيها من ظلال موحية، وأسلوب أدبي شاعري مؤثر، وإفراط عاطفي مثير، وسلاسة وبساطة في التعبير، وانطلاق من قيود المنهجية والتجريبية العلمية، كل هذا يبطل تلك الدعوى الآثمة، ويجعل من أدب الجنس -أدب الفراش والتخدير- جريمة في حق أخلاقياتنا. ثم هناك فرق كبير بين الحب والجنس.
الجنس غريزة ملتهبة..
والحب عاطفة روحية رفافة..
هذا مع تداخل عواملها السيكولوجية..
والإسلام لا يحارب الحب، ولا يقتل غريزة الجنس، وإنما يريد لهذه الغريزة التنظيم والتهذيب والتسامي، وقد بسط القرآن الكريم إحدى هذه المشاكل العاطفية في سورة يوسف.
إن يوسف فتى رائع الجمال، جذاب التقاطيع، يلفت النظر بروعته الفائقة، وفتنته الطاغية (ما هذا بشرا، إن هذا إلا ملك كريم)، لكنه على جانب مثالي من الصلاح والورع..
إنه نبي من أنبياء الله، ويروي القرآن قصة امرأة العزيز التي جنّت بفتاها حباً..
(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه...)
(ولقد همت به، وهم بها.. لولا أن رأى برهان ربه..)
(واستبقا الباب..)
(وقدّت قميصه من دبر..)
ثم تأتي الواقفة الدرامية العنيفة:
(وألفيا سيدها لدى الباب..)
لكنها تتنبه للخطر الذي يتهددها من زوجها لو علم أنها تنوي خيانته، وفي نفس الوقت تفكر في أن تطعن الفتى الصالح الذي أذل كبرياءها واحتقر نزواتها، فماذا تعمل؟؟
لقد قالت لزوجها:
(ما جزاء من أراد بأهلك سوءً إلا أن يُسجن أو عذاب أليم..)
وتمضي القصة وسعار الجنس لم يهدأ أواره في قلبها، وتتحدث نسوة المدينة بقصة امرأة العزيز العاشقة فتدعوهن إلى قصرها، وتأمر يوسف بالخروج إليهن:
(فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا، إن هذا إلا ملك كريم..)
فترد امرأة العزيز في شبه انتصار وإصرار:
(الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه.. ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين..).
ويخوض يوسف معمعان محنة قاسية رهيبة، يتعرض فيها لذل السجن وعذابه. لكنه سعيد بانتصار القيم الفاضلة في نفسه، سعيد بنجاته من حمأة الإثم التي أوشكت أن تقذف به إليها امرأة العزيز ثم ينتصر الحق، ويعترف النسوة بطهارة يوسف بعد سنين:
(قلن حاش لله، ما علمنا عليه من سوء).
(قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه. وإنه لمن الصادقين.. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفس، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم).
وهكذا تصور لنا قصة يوسف مع امرأة العزيز، قصة الضعف البشري بكل ملابساته، وانحرافات النفس الإنسانية ونزوعها إلى الشر، ولم تكتف القصة بتصوير مواطن الضعف فينا نحن البشر، بل صورت جوانب القوة المشرفة والعفة والطهارة والانتصار على حيوان الغريزة الجامح، والصراع العنيد بين الفضيلة والرذيلة في أعماقنا..
إنها قصة جنسية بكل مقومات القصة، لكن أي جنس وأية قصة!!. الظلال الموحية، موسيقى الألفاظ، المواقف الدرامية، عنصر التشويق والمتابعة، ثم الانتصار لفضائل الإنسان وقوة الروح في النهاية، حتى امرأة العزيز الخاطئة انتصرت فيها قوى الخير، وعادت الى رشدها، وطأطأت رأسها إجلالاً وتوقيراً لإنسان كبير وقف صامداً كالعلم في مواجهة الثورة الغريزية الجارفة وانتصر..
وحاشا للقلم المسلم أن يكون وقحاً مكشوف العورة "والناظر والمنظور في النار" كما يقول الحديث النبوي الشريف...
-----------------------
عن كتاب د. نجيب الكيلاني: الإسلامية والمذاهب الأدبية
وسوم: العدد 890