كلمة اعتزاز بشاعر مبدع – نبيل عودة
نص مقدمة لديوان شعر أنغام الحروف للشاعر ابن قرية المغار الجليلية كمال ابراهيم
تجربة الشاعر كمال إبراهيم تستحق دراسات عديدة، أولا لغزارة انتاجه، ولتنوع المواضيع التي يعالجها في قصائده. ولتنوع أساليبه الشعرية.
هذه التجربة الشعرية تمتد على مساحة خمسة وعشرين ديوانا شعريا.
طبعا ليس المهم هو الكم، انما التنوع والقدرات التعبيرية والصور الشعرية التي يتحفنا بها الشاعر في هذه التجربة الهامة جدا في شعرنا المحلي.
هذا العشق للشعر اعادني لسنوات الستينات من القرن الماضي مع بدء بروز وانتشار شعرنا المحلي، وعمليا كان الشعر هو الأبرز في كل ادبنا المحلي ونحن داخل الحصار الثقافي الذي فرض على الجماهير العربية بعد نكبة الشعب الفلسطيني.
كان واضحا ان موروثنا من تراثنا العربي، كان الشعر ليس أبرزه فقط، انما اللون الجوهري والوحيد تقريبا في تراثنا، وهو المميز للتراث العربي عامة، هو ما ترك أثره الواضح على انطلاقة الجنار الشعري بهذه الكثافة والقوة والابداع في ثقافتنا المحلية داخل إسرائيل، مما لفت انتباه العالم العربي بعد ان كشف المرحوم غسان كنفاني عن أبرز ما في شعرنا الوطني في وقته.
ما زلت اذكر مهرجانات الشعر، التي تحولت الى مهرجانات وطنية يعمها الاف الحضور، ما زلت أتذكر دور الشعر في المهرجات السياسية حيث كانت القصيدة أشبه بخطاب سياسي، وهو الشعر الذي عرف فيما بعد بأدب المقاومة. كان الاهتمام وقتها من نصيب اربعة شعراء، هم محمود درويش، سميح القاسم، سالم جبران وتوفيق زياد، رغم ان هناك عددا آخر من الشعراء المبدعين. لا يقل شعرهم بمستواه الابداعي عن الشعراء الأربعة.
كانت رؤيتي ان للوزن السياسي دورا في تقييم تلك المرحلة المبكرة من تطور شعرنا. اليوم نظرتنا للأدب بدأت تتغير، واقعنا تغير أيضا، التواصل مع الثقافة العربية حطم حواجز العزل، فانطلقت ثقافتنا وعلى رأسها الجانر الشعري، لتسحر عالم الشعر العربي بقامات شعرية متألقة. نظرتي أيضا للأدب تجاوزت حماسة تلك الحقبة التي شكلت مضامين شعر المقاومة. اليوم نظرتنا أصبحت فكرية فلسفية وادبية جمالية ابداعية، لم يعد الشعر المهرجاني المباشر يثير حماستنا، تلك مرحلة هامة، لكنها مرحلة سياسية وليست مرحلة أدبية بمضمونها الأساسي، رغم ان قيمتها الثقافية كانت هامة جدا أيضا.
واليوم حين اقرأ قصائد كمال إبراهيم وزملائه أرى اننا تجاوزنا مراحل متعددة وهامة في تطور شعرنا المحلي وانتقاله الى مضامين فكرية وثقافية وابداعية هامة للغاية، لم تحظى حسب رأيي بالدراسة الكافية والضرورية، ولا شك لدي ان تجربة شاعرنا كمال إبراهيم هي من تلك التجارب البارزة وأكثرها تنوعا شعريا واسلوبيا.
لست الآن في باب كتابة مراجعة ثقافية او نقدية، انما ملاحظات حول حقيقة ان شعرنا اليوم انتقل الى مرحلة الوعي الثقافي والوعي الأسلوبي، اثارتها قراءتي لقصائد هذا الديوان قبل نشره.
أقول بكل وضوح ان كمال إبراهيم فاجأني بانه تجاوز مرحلة القصيدة التقليدية في روحها وصياغتها الى مرحلة القصيدة الإنسانية في تناوله لمختلف المواضيع. لا بد ان أسجل أيضا إني متفاجئ بشكل لم اتوقعه من حقيقة ان بني معروف باتوا يحتلون الصدارة في شعرنا المحلي، ليس بالكم فقط، انما بالتنوع والتجديد الاسلوبي فكرا وصورا، والقدرات اللغوية لتطويع اللغة العربية ومعرفة عناصر التوهج الجمالي في لغتنا. وهو امر يثلج الصدر مرتين، أولا من تمسكهم بلغتهم القومية وتبحرهم بفنونها اللغوية، وثانيا من قدراتهم التعبيرية عن قضايا مجتمعنا بكل امتداده، عبر الابداع الشعري.
ما لاحظته لدي الشاعر كمال ابراهيم اته يطور الصور الشعرية ويتألق بتطوير المعاني، ويصيغ تعابيره بسلاسة كأنها تتدفق مثل شلال جارف.
كمال ابراهيم شمل بتجربته مختلف ألوان الشعر، من الشعر الوطني الى الشعر الاجتماعي الى القصيدة الغزلية الى الرؤية الفلسفية للحياة، وأكثر ما لفت انتباهي انه بات يشق طريقا جديدة نحو الشعر الغنائي، وهو شعر يفرض لغته الخاصة، والوانه التي تشبه ألوان قوس القزح، واهم ما يتطلبه هذا الشعر، معرفة موسقة الكلام، لأن الشعر الغنائي كما افهمه موسيقاه في داخله. وما على الفنان الملحن الا ان يخرج اللحن من بطن كلمات القصيدة، وقد استمعت لعدة قصائد ملحنة ومغناة من كلمات شاعرنا كمال إبراهيم وتلحين فنانين عرب من العالم العربي ومحليين، وفاجأني من تمكنه من هذا اللون الذي لم يجذب الا عددا قليلا من شعراء العربية في بلادنا.
صحيح ان الأوزان العربية لها وقعها الموسيقي أيضا، لكن هناك أمر جوهري بين الأوزان الشعرية وبين القصائد الغنائية، فإلى جانب الوزن الشعري هناك اختيار الكلمات، وصياغة الجملة الشعرية، واتقان الصور الشعرية المناسبة للحن، ووضع احاسيس الشاعر بقوالب فنية ولغوية. انها مدرسة شعرية قائمة بذاتها. وارى ان كمال إبراهيم يطور تجربته في هذا المجال، وقد لاحظت ان الشعراء الغنائيين قلائل جدا في شعرنا وربما لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
وقد رأيت ان أقدم نموذجا واحدا للدلالة على ما اعنيه من الشعر الغنائي، اغنية "يا محَيِّرْنِي" من تلحين الموسيقي السوري، بسام رسلان وغناء المطربة السورية سمار. تقول كلماتها:
يا مْحَيِّرنِي في هَواكْ
ما بَتحَمَّلْ عذابي مَعاكْ
سْهِرت الليلْ أسْتناكْ
أناجِي طِيفَكْ وِرِضَاكْ
طبعا لست بباب تناول الوانه الشعرية المتنوعة، وهي تشمل كل مجالات الشعر، آمل ان اعود الى ذلك بعد صدور الديوان، وخاصة لشعره الوطني والانساني.
وانا اكتب هذه المقدمة علمت بمشاركته بأشرف معركة دفاع عن ارض الزابود مع أصحاب الأرض من بيت جن.
كمال ابراهيم يحمل هموم شعبه بأكمله، شاعرا ومناضلا ضد التنكر لحقوق شعبه، وهو يشد الخطى على طريق شاعرنا المرحوم ابن الطائفة الدرزية سميح القاسم!!
نبيل عودة
(كاتب، ناقد، باحث فلسفي واعلامي فلسطيني من مدينة الناصرة.)
وسوم: العدد 893