قضايا فكرية تثيرها رواية "ليالي تركستان"
قضايا فكرية تثيرها رواية "ليالي تركستان"
للأديب الإسلامي الدكتور الطبيب نجيب الكيلاني
حيدر قفه
العمل الروائي ليس عملاً إمتاعياً يأسر القارئ. ويجعله محبوساً داخل التسلسل المنطقي للرواية، بحيث تجذبه جذباً لمتابعة الشخوص والأحداث وحسب، ولكنها – فوق ذلك كله – تسجيل للأحداث، أو قالب لمجموعة من الأفكار يريد الروائي توصيلها للقراء عبر أحداث وشخوص احتلت مساحة الرواية كلها.
والأديب الكبير الدكتور نجيب الكيلاني واحد من الأدباء الذين نذروا أنفسهم للأدب الجاد الهادف، فكتب بعيداً عن الإسفاف والهبوط اللذين شاعا في أعمال كثير من الكُتَّابِ، عندما هدفوا إلى دغدغة مشاعر القُراء وغرائزهم، جلباً للإعجاب الرخيص، أو الشهرة المزيفة.
وقد رفد الدكتور الكيلاني المكتبة الروائية العربية بمجموعة من الروايات التاريخية، التي يسجل فيها مآسي المسلمين في أكثر من صقع من أصقاعهم، فقد كتب: عذراء جاكرتا، عمالقة الشمال، الظل الأسود، ودم لفطير صهيون...
وليالي تركستان واحدة من هذه الروايات التاريخية، التي ضمنها الروائي آراءه – أو بعضها – كما سجل المأساة التركستانية، وما حدث من الدولتين المجاورتين الكبيرتين روسيا والصين.
وتدور الرواية – أو أحداثها – حول الصراع بين شعب تركستان المسلم والشيوعية الزاحفة عليه من روسيا والصين، في عقدين من التاريخ، ما بين 1930م إلى 1950م.
ونحن لا يعنينا سرد أحداث الرواية، فهذا أمر يطول، لكننا ارتأينا التقاط خمس قضايا فكرية مهمة آثارها الكاتب في روايته، تستحق الوقوف عندها وتجليتها:
القضية الأولى:
الكتمان والسرية في العمل، وضرورة الحذر من اكتشاف النوايا الحقيقية في إطار الخطط المحكمة للإيقاع بالعدو، وقد أورد الكاتب هذه القضية في موضعين الأول: عندما وافق أمير"قومول"وحاكمها، أن يزوج ابنته الأميرة المسلمة للقائد الصيني الشيوعي الملحد، باتفاق مع بعض العلماء المسلمين. وظاهر الأمر أن هذه الخطوة خيانة ومخالفة شرعية وقع فيها الأمير، فرفضها الشعب وخرج في مظاهرات صاخبة ضد الحاكم (ص 30) والموضع الثاني: عندما وافقت الخادم الجميلة"نجمة الليل" أن تتزوج"باودين" الضابط الصيني الذي احتل المدينة وذل أهلها، وراودها عن نفسها، فتزوجته – وهو الشيوعي الملحد – وتركت خطيبها المجاهد"مصطفى مراد حضرت" فرماها الناس بالفسوق والخسة (ص 84). وحقيقة الأمر في الموقفين – والتي ظهرت فيما بعد – أنهما كانتا خطتين بارعتين لحماية الشعب والبلاد، والإيقاع بالخصم الكافر الشرس. وكما هو معروف فإن الحرب خدعة، كما ورد في حديث الرسول (r). بقي أن نقول: إن الإسلام أمرنا أن نحكم بالظاهر، ولا نفتش الضمائر، وظاهر الأمر هنا موالاة العدو، فكان الناس معذورين في مواقفهم في رفض السلوك الذي حدث في كلا الحالتين. لكن الإشكالية هنا في أن الأمر لا يتم إلا بخداع الخصم، وإيهامه بتقبل الأمر، والرضوخ لإرادته. وكشف هذا التدبير للناس أو لبعضهم – حتى يعذروا ولا يسخطوا – يقلب التدبير رأساً على عقب، وَيُفْشِلُ كل محاولة للنيل من العدو.
وإذا عدنا للإسلام نجد هذه القضية محسومة، كيف؟!. أولا: لا بد من تجسير الهوة بين الحكام والشعوب حتى تكون الثقة موجودة، والعذر جاهزاً في الأمور التي لا تتضح بداياتها للعامة. ثانياً: الحكم على الظاهر هو الأساس في الإسلام، بدليل حديث:"أفلا شققت عن قلبه" عندما زعم أسامة بن زيد (t) أن الرجل الذي قتله بعد أن قال: لا إله إلا الله، إنما قالها تقية، فقال له النبي (r) هذا، والدليل الثاني قول النبي (r): "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان". وهذا حكم على الظاهر. بَيْدَ أنَّ الظاهر لا يسلم لنا أيضاً، ففي قصة موسى (u) والخضر – كما وردت في سورة الكهف – عندما راجعه موسى في خرق السفينة وإقامة الجدار وقتل الغلام، كان يحكم على الظاهر، فظهر لنا بعد ذلك ما كان يجهله موسى (u) من حقيقة تقع خلف الظاهر، وأن الأمر أعمق من الظاهر. كل هذا يقودنا باتجاه واحد، وهو ما أسلفناه في (أولاً) السابقة، أي الثقة بالناس، ونحكم على ظاهرهم دون التفتيش في ضمائرهم أو على أسرارهم، فإن لم تظهر لنا الحكمة في هذا السلوك، التمسنا العذر – قدر الإمكان – لقادتنا أو أحبائنا من الناس – وهذا ما فعله أبو بكر الصديق في نقاشه مع عمر في أمر معاهدة الحديبية – وسألنا الله لأنفسنا العافية، أو كما عُلمنا "الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به" فنخرج من التبعة في التقصير، إلى حصن التقوى، ورحم الله امرءاً شغله عيبه عن عيوب الناس.
القضية الثانية:
الجنس في العمل الأدبي. ورغم أن الجنس في حياة الإنسان قضية مهمة وضرورية، تبلغ حتى التفريق بين الزوجين، وهدم كيان الأسرة إذا انعدمت من أحدهما، إلا أن إغراق الإباحيين في الوصف الجنسي، والإكثار منه في العمل الأدبي، طلبا لدغدغة العواطف، وإثارة المشاعر، وإفساد الشباب، جعل الأدباء الإسلاميين يحاربون هذا، فأغرق بعضهم في رفضه تماماً، واعتبر أي أدب يتحدث عن الجنس أدباً ساقطاً، ونزعوا عنه صفة الإسلامية أو الأدب الجاد. وليست القضية هكذا، وإنما الذي نراه أن العمل الأدبي إذا كان عموده الفقري الجنس ذاته – كمشكلة قائمة – فلا بد من التعرض له، كما في قصتي"راعوا خواطرهم" في مجموعتي القصصية "ليل العوانس"، لأن العمل الجنسي المعالج هو لب القضية، وليس شيئاً مقحماً على القصة، وكذلك كان الأمر في مراودة امرأة العزيز ليوسف (u) وهذا في رأيي لا غبار عليه.
أما الغبار كل الغبار أن يُزَجَّ الجنس في العمل الأدبي دون سبب، ويُقْحَمَ على النص بالقوة، لغاية خبيثة، كما كان مخرجو الأفلام يقحمون "سهرة الكباريه" على أحداث الفيلم إقحاماً دون ضرورة، فيأتي نشازاً، وذلك لمجرد عرض رقصة أو إثارة جنسية، وهذا مرفوض جملة وتفصيلاً.
ونقطة أخرى في الجنس، وهي أن التاريخ يحدثنا عبر نكباته كلها أن أعداء الإسلام يتخذون من الاغتصاب الجنسي للمسلمات سلاحاً لضعضعة النفوس، ففي التاريخ القديم حدث هذا، وفي التاريخ الحديث حدث هذا، في الدول الإسلامية التي احتلها الاتحاد السوفييتي، وفي فلسطين عام النكبة 1948، وفي البوسنا والهرسك 1992، ومع الصوماليات الهاربات من جحيم الحرب الأهلية إلى معسكرات اللاجئين في كينيا، والدول المجاورة، حتى أن وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة عرضت مساعدات لهن (الرأي الأردنية 27/11/1993 والمسلمون السعودية 19/11/1993). ولم يسجل التاريخ أن المسلمين فعلوا ذلك بأعدائهم إذا انتصروا عليهم، بل كانوا رُسُلَ رحمة، ومنارات عفة، منذ أن نَظَّفَ الإسلام الساحة من هذه التصرفات الجاهلية، ونَظَّمَ عملية الاسترقاق بالسبي، فَقَعَّدَ القواعد الشرعية الإنسانية لهذا الأمر.
ولم يخدش هذه الصفحة البيضاء إلا حادثان فقط الأول: ما فعله شيوعيو الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا عندما كانوا يختطفون النساء من القرى، ثم يعتدون عليهن، ولا يعيدوهن إلا بعد الولادة، محتفظين بأطفال السفاح لتربيتهم تربية شيوعية في محاضن ماركيسية. وهذه نتيجة الفكر الضال لأناس خرجوا من الملة أصلاً، وقد كتب في ذلك شيخنا محمد الغزالي في حينها. الثاني: عند عودة أهل الكويت إلى الكويت بعد حرب الخليج وخروج الجيش العراقي، وما كان من تصرفات فردية وقعت بالاغتصاب وانتهاك العرض لبعض الفلسطينيات، وكان من خلفها يد خبيثة، محركة لهذا الفعل الخبيث، فاستغلت الهياج العام للشعب، وبثت الحقد، وسلطت سفلة الناس فأحدثوا جرحاً عميقاً في نفوس الناس. ورغم ذلك فهي حالات فردية لأناس اسْتُغِلوا أبشع استغلال، حتى أُخرجوا من عروبتهم وإيمانهم بهذه الجريمة النكراء.
والدكتور الكيلاني في رواياته يلمس الجنس لمساً خفيفاً، يعطي العمل الأدبي شيئاً من التشويق، لكنه لا يغرق فيه إغراقاً يخدش الحياء، لأنه ليس الهدف الأساس – أو العمود الفقري – في العمل الأدبي الذي يبدعه، ولو كان كذلك لما لامه أحد إلا من ركب رأسه، وأَصَرَّ على موقفه على طريقة "عنز ولو طارت".
القضية الثالثة:
قضية المخطئين من أبناء الأمة، كيف ننظر إليهم؟ وكيف نعاملهم؟ وبأي مقياس نقيس وطنيتهم وعفتهم."خاتون" السيدة العفيفة الشريفة بنت الأسرة الكريمة، التي أجبرها القائد الصيني"صن لي" على الرذيلة (ص 57) وكان يقعدها على فخذه عارية أمام الجنود وهو يداعب خدها بحد خنجره. هل هي خاطئة فاجرة؟! و"نجمة الليل" الخادم الجميلة التي قبلت أن تتزوج قائداً هو"باودين" ورضخت مكرهة بقبوله الظاهري اعتناق الإسلام في السر، وبدت أمام شعبها أنها انحازت للأعداء بالزواج من قائدهم، بالرغم من أن رفضها كان سيؤدي بها إلى الاغتصاب بالقوة (ص 76 – 79) ومن ثم الانخراط في سلك البغايا. وزوجة "منصور درغا" هذا المحارب العنيد، التي وجدت نفسها – بعد غياب زوجها ووقوع المدينة تحت سيطرة الشيوعيين من روس وصينيين وما قاموا به من الاعتداء عليها ملطخين شرفها (ص 157 – 158). هؤلاء وأمثالهم من أبناء الشعب الذين لا حيلة لهم ولا قوة، ولا يستطيعون الصبر أو المقاومة للضغوط الكبيرة التي تمارس ضدهم؟ ما الحكم عليهم؟ وكيف ننظر إليهم؟ وكيف نعاملهم؟
ولا يقتصر السقوط على الجنس وحده، بل قد يكون هناك ضغوط أشد للتعاون مع العدو مثلاً، مع الفارق الكبير في الأثر، فالفجور بالجنس جريمة محددة بشخص واحد وقع عليه القهر، لكن السقوط بالتعاون يمتد إلى مسافات بعيدة، من تقوية العدو، والكيد لأبناء الوطن، وكشف عوراتهم، وقتل عدد منهم... فالجريمتان مختلفتان أثراً، وإن اتفقتا في البداية التي نشأت عن ضعف المقاومة أمام الضغوط الهائلة التي يمارسها العدو على ضحاياه.
والكاتب يعرض صورة إنسانية للتعامل مع الساقطين أو الخاطئين على أنهم أبناء الشعب، وأبناء الوطن، ولا يجب أن يُنْظَرَ لهم على أنهم ساقطون منبوذون، أو أعداء... بل فئة ضعيفة تكالبت عليها كل الظروف القاهرة حتى سقطت، فلا يجب أن يجتمع عليها ذل السقوط، وذل نبذ الشعب، بل لا بد أن تمتد إليهم يد الرحمة، كيد الوالدين تماماً، فتأسو جراحهم، وتطيب قلوبهم، وتعوضهم عما لاقوه من عنت وكبت وعذاب (أنا أبوها... أنا أبوها ص 57 – 58).
القضية الرابعة:
قلب الحقائق بسوء الفهم المتعمد، ذلك أن أعداء الإسلام رموا الإسلام بتهم كثيرة، وفي كل جيل تتفتق قرائحهم عن تهم جديدة، وأوصاف شنيعة، قُصِدَ منها تنفير الناس من الإسلام، فالإسلام دين رجعي، متخلف، متعصب، منغلق، وبالتالي فالإسلامي من الناس إنسان رجعي، متخلف، متعصب، ضيق الأفق، ظلامي!!
وسعى هؤلاء لأن يضعوا التقدم في كفة، والإسلام في كفة، وبالتالي فهما متناقضان لا يلتقيان، فالمسلم رجعي، ومن أراد أن يكون تقدمياً فعليه أن يتخلى عن الإسلام، ولماذا هذه المعادلة الصعبة؟
فالمرأة التي تريد التقدم فعليها خلع الحجاب، وهتك الثياب، والخروج عارية سافرة تتحدى الزوج والأب والأهل والمجتمع. والرجل الذي يريد أن يصبح تقدمياً فعليه أن يترك الصلاة، ويشرب الخمر، ويعانق الحسان مراقصاً في دور البغاء المقنع المسماة بالنوادي الليلية (ص 152 – 153 – 154).
وهنا يتساءل الكاتب: ألا يمكن أن يكون التقدم في ظل الحشمة والعفة والاستقامة؟ ألا يمكن أن يكون التقدم بتحقيق العدل، والأمن، والرفاه؟
(ص 169).
وهذه قضية يلح عليها الماديون والعلمانيون من جميع المدارس، وكأنها مؤامرة موزعة الأدوار، فقد رأينا أصحاب هذا الفكر بجميع مدارسهم قد تسنموا سدة الحكم في أكثر من بلد، أو اقتربوا من إدارة البلاد وصنع القرار في مجالات متعددة، فما وجدناهم ركزوا تقدمهم على حماية حقوق الإنسان مثلاً، أو تأمين الرغيف، أو نشر التعليم، أو التصنيع، أو منع الجريمة، أو الحد من البطالة، أو تطوير الزراعة، التي كانت مزدهرة في عهد الإقطاعيين أكثر من عهد الاشتراكيين!! بينما التركيز دائماً كان على تفسيق الشعب، بداية من المرأة وتمردها على دينها وأهلها، ومروراً بالشباب الغض الضعيف، وانتهاءً بشيوخ الفكر المادي المُصرين على عنادهم وضلالهم، مستخدمين في ذلك كل وسائل الإعلام، والأدب، والفكر، وربما وصلوا إلى مناهج التعليم في المدارس والجامعات، وقد رأينا استبياناً وزع على طالبات جامعيات يسألهن أستاذهن فيه عن مزاولة الجنس قبل الزواج!!
القضية الخامسة:
قضية الانتحار عند العجز عن مواجهة الحياة، أو التكيف معها، ذلك أن عدداً من الأدباء والمفكرين لجأوا للانتحار لسبب من الأسباب، لكن هذه الأسباب – وإن اختلفت من شخص لآخر خلفيةً وتبريراً – يجمع بينها عجز المنتحر عن التكيف مع الحياة، فيهرب إلى الموت. بعضهم بسبب الضغوط السياسية المخابرتية، وبعضهم احتجاجاً على الاحتلال، وبعضهم جوعاً وفقراً، وبعضهم طلباً للموت وهو في قمة المجد... إلخ هذه الأسباب.
وهذا نمط مرفوض في الإسلام، واتجاه خاطئ لا يُقَرُّ عليه صاحبه، مهما علا قدره في العلم أو الفكر أو الأدب، ولا يُقبل منه هذا التصرف وإن غُلِّف بألف كلمة براقة.
عندما تضيق بالمرء الحياة، عليه أن يجاهد لتحسين هذه الحياة، وإن غلبه الأعداء، عليه أن يقاوم ويجاهد، فإن انتصر؛ فهي إحدى الحسنيين، وإن مات – وهذا ما كان يفكر فيه أمثاله من الخوارين الماديين – كان شهيداً مكرماً عند الله.
هذا (منصور درغا) المجاهد المسلم، الذي أقض مضاجع المحتلين الشيوعيين بعملياته الخاطفة الجريئة، ومن ثم الاختفاء مع زملائه في الجبال والأدغال... عندما شعر بضعف المسلمين عن مقاومة هذه الجموع الكثيرة من الأعداء، وأصبح النصر لا أمل فيه، ونزل إلى المدينة متخفياً، وذهب للبحث عن زوجته المسكينة، فوجدها وقد حولها الشيوعيون إلى مومس محترفة لجنودهم تحت تهديد السلاح، وأسقط في يده، وشعر بالهزيمة تُضاعف مرتين عليه: مرة في كرامته الوطنية باحتلال بلاده، وسقوط الحكم نهائياً بيد الشيوعيين، ومرة في رجولته لِـمَا حل بزوجته، فطلق زوجته تلك (موقف سلبي) وفكر للحظة أن ينتحر (موقف سلبي آخر) ليتخلص من هذه الحياة التي أصبحت لا تطاق، ولا تستحق أن تُحيا!! لكنه – وهو في الطريق العام يسير مع صاحبه – يرى مشهداً يثير روح الجهاد في نفسه اليائسة، رأى الشيوعيين وقد ربطوا إمام مسجد في شجرة عرياناً، وانهالوا عليه ضرباً، لأنه منعهم من تحويل المسجد إلى مخزن للمواد الخام (ص 160). فصعد (منصور درغا) إلى منارة (مئذنة) المسجد، وأطلق عليهم النار ففرقهم، وقاوم هذا السيل بكل بسالة حتى أتته رصاصة فخر شهيداً على عتبة المسجد. فأي السبيلين أقوم وأنفع دنيا وآخرة؟
الجهاد قد يفلح، فيزرع في الأرض النصر، بينما الانتحار لا شيء على الإطلاق سوى الأنانية المطلقة. والجهاد حياة للفرد، وللشعب، وللأمة. بينما الانتحار موت لفرد. والجهاد طريق لنيل الدرجات العلا في الآخرة، والانتحار مقرون بغضب الله، ولا مكان للمنتحر إلا النار.
هذه بعض القضايا الفكرية التي أثارتها الرواية الرائعة "ليالي تركستان" للأديب الكبير، الدكتور الطبيب نجيب الكيلاني، ولم آخذ عليها – رغم أن النسخة التي بين يدي من الطبعة الثامنة – إلا مأخذين يسيرين:
الأول: أن الكاتب وقع في تناقض تاريخي، فالرواية وأحداثها تمثل العقدين الثالث والرابع من هذا القرن (1930 – 1950م) وهما معاصران للحرب العالمية الثانية، وأسلحتها: طائرات، ودبابات، ومدافع، وبنادق، ومسدسات...، بيد أن المؤلف يذكر (ص 75) أن القائد الصيني (باودين) دخل القصر شاهراً سيفه!!. وفي (ص 79) وفي الفصل نفسه تقول له الفتاة الجميلة (نجمة الليل): تستطيع أن تطلق الرصاص من الخلف. فهناك سيف، وهنا رصاص، في المشهد نفسه. وحاولت أن أجدا مبرراً مجازياً لها فلم أستطع!!.
والثاني: إصرار الأديب الكبير على استعمال كلمة (هام وهامة) في الحديث عن الأمور العظيمة، في مقابل (مهم، ومهمة) وهما الأصوب. ولعل ذلك راجع إلى لغة الصحافة والإعلام، التي سيطرت على أفكار الناس ولغتهم، فَأَحَلَّتِ الكلمات الخاطئة – بكثرة إلحاحها – محل الصحيحة، ثم الإصرار على تداولها حتى تصبح من البدهيات التي لا يلتفت إليها الناس، أو تكون محل مراجعتهم. وهذه حالة نقع فيها جميعاً إلا من رحم الله، فوجب أن نُذَكِّرَ بعضُنَا بعضاً.
رغم ذلك فالرواية عمل أدبي راقٍ، وتسجيل تاريخي فني لواحدة من مآسي المسلمين، انبرى الدكتور نجيب الكيلاني للتصدي لها، فأنجزها وأجاد.