فن الشعر كما عرّفه الشاعر المغربي ابن الونّان في أرجوزته الشهيرة المعروفة بالشمقمقية
القصيدة الشمقمقية الشهرية والتي عدد أبياتها 275 بيتا تحفة من تحف الشعر العربي المغربي أبان فيها الشاعر ابن الونّان عن فحولة ضمته إلى فحول الشعراء العرب وألحقته بركبهم ، وهي قصيدة موسوعية الغرض جمع فيها صاحبها كل فنون الشعر واصفا، ومشببا، ومادحا، وهاجيا ،وواعظا، وناقدا ... إلى غير ذلك من الأغراض.
ومن أراد أن يتجول في حدائقها الغناء ليشتمّ عطر زهرها الفواح ،فعليه أن يكون موسوعيا ملما بالثقافة العربية الإسلامية ،لأنها تحيل على زخم هائل من تراثنا العربي الإسلامي وقد وظفه الشاعر توظيف المتمكن البارع .
وإذا كان الشاعر الإنجليزي توماس ستيرنز إليوت الحائز على جائزة نوبل في الأدب قد أضفى على قصيدته الشهيرة " الأرض اليباب " طابع الموسوعية فيما تناولته من أغراض، فأكثر من الإحالات والمرجعيات في هوامشها ، فإن الشاعر المغربي ابن الونّان قد ضمن أبيات رائعته الشعرية ما أراده من إحالات ومرجعيات شغلت شرّاحها ، وقد كثرت شروحها .
وما أردنا لفت الأنظار إليه في قصيدة ابن الونان هو حديثه تحديدا عن الشعر حديث خبير به وهو كالأتي :
وَاعْنَ بقولِ الشعرِ فالشِّعْرُ كمَا = لٌ للفَتَى إنْ بهِ لمْ يرْتَزِقِ
فَهِمْ بهِ فإنَّهُ لا شَكَّ عُنْوَا = نُ الحِجَا والفَضْلِ والتَّحَذْلُقِ
فقُلْهُ غيرَ مُكْثِرٍ منهُ ولا = تَعْبَأْ بقولِ جاهلٍ أوْ أحْمَقِ
وإنْ تكُنْ منهُ عقيمَ فِكْرَةٍ = فَاعْنَ بجَمْعِ شَمْلِهِ المُفْتَرِقِ
والشعرُ للمَجْدِ نِجَادُ سَيْفِهِ = وللعُلَى كالعِقْدِ فَوْقَ العُنُقِ
ما عَابَهُ إلاَّ عَيِيٌّ مُفْحَمٌ = لِعَرْفِهِ الذَّكِيِّ لمْ يَسْتَنْشِقِ
كمْ حَاجَةٍ يَسَّرَهَا وكمْ قَضَى = بفَكِّ عَانٍ وأَسِيرٍ مُوثَقِ
وكمْ أَدِيبٍ عادَ كالنَّطْفِ غِنًى = وَكَانَ أفْقَرَ منَ المُذَلَّقِ
وكمْ حديثٍ جَاءَنَا بفَضْلِهِ = عنْ سَيِّدٍ عنِ الهَوَى لمْ يَنْطِقِ
وقدْ تَمَثَّلَ بهِ وكانَ مِنْ = أصْحَابِهِ يَسْمَعُهُ في الحِلَقِ
وقدْ بَنَى المِنْبَرَ لابنِ ثَابِتٍ = فكانَ للإِنْشَادِ فيهِ يَرْتَقِي
وقالَ لابنِ أَهْتَمٍ في مَدْحِهِ = وذَمِّهِ لِلزِّبَرْقَانِ الأسْمَقِ
مَقَالَةً خَتَمَهَا بقَوْلِهِ = إنَّ منَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً تَقِي
وعندَما سَمِعَ منْ قُتَيْلَةٍ = رِثَا قَتِيلِهَا الذي لمْ يُعْتَقِ
رَدَّ لَهَا سَلَبَهُ وقدْ بَكَى = شَفَقَةً بدَمْعِهِ الْمُنْطَلِقِ
وقدْ حَبَا كَعْباً غَدَاةَ مَدْحِهِ = ببُرْدَةٍ ومِائَةٍ منْ أَيْنُقِ
وبَشَّرَ الْجَعْدِيَّ وابنَ ثَابِتٍ = بِجَنَّةٍ جَزَاءَ شِعْرٍ عُسْنُقِ
كمْ خَامِلٍ سَمَا بهِ إلى العُلا = بَيْتُ مَدِيحٍ منْ بَلِيغٍ ذَلِقِ
مِثْلُ بَنِي الأَنْفِ ومثلُ هَرِمٍ = وكالَّذِي يُعْرَفُ بالمُحَلَّقِ
وَكَمْ وَكَمْ حَطَّ الهِجَا منْ مَاجِدٍ = ذي رُتبةٍ قَعْسَا وقَدْرٍ سَمِقِ
مثلُ الرَّبِيعِ وبني العَجْلانِ مَعْ = بني نُمَيْرٍ جَمَرَاتِ الحَدَقِ
لوْ لمْ يكُنْ للشِّعْرِ عندَ مَنْ مَضَى = فضلٌ على الكَعْبَةِ لمْ يُعَلَّقِ
لوْ لمْ يكُنْ فيهِ بيانُ آيَةٍ = ما فُسِّرَتْ مَسَائِلُ ابنِ الأزْرَقِ
مَا هوَ إِلاَّ كالكِتَابةِ ومَا = فضْلُهُما إلا كَشَمْسِ الأُفُقِ
وإنَّما نُزِّهَ عنْهُما النَّبِي = ليُدْرِكَ الإعْجَازَ بالتَّحَقُّقِ
وَهْوَ إِكْسِيرٌ وتدبيرٌ لِمَنْ = رَامَ اصْطِيَادَ وَرِقٍ بِوَرَقِ
منْ غيرِ تَقْطِيرٍ وتَصْعِيدٍ وتَكْـ = لِيسٍ وتَرْطِيبٍ وقَتْلِ زِئْبَقِ
وكُنْ لهُ رَاويَةً كالأَصْمَعِي = والجهلُ أوْلَى بالذي لمْ يَصْدُقِ
هذا هوَ المجدُ الأصيلُ فاتَّبِعْ = سبيلَهُ على الجميعِ تَرْتَقِ
ولكَ فِيمَنْ كانَ مثلَ الأُمَوِ = يِّ أُسْوَةٌ بها اقْتَدَى كُلُّ تَقِي
وإنْ أَرَدْتَ أنْ تَكُونَ شاعراً = فَحْلاً فكُنْ مثلَ أبي الشَّمَقْمَقِ
ما خِلْتُ في العَصْرِ لهُ مِنْ مَثَلٍ = سوى أَبِي في مَغْرِبٍ ومَشْرِقِ
لِذَاكَ كَنَّاهُ بهِ سَيِّدُنا السْ = سُلْـطَانُ عِزُّ الدِّينِ تاجُ الْمَفْرِقِ
وفيما يلي وقفة مع نظرة الشاعر إلى الشعر في أرجوزته :
فعلى طريقته وأسلوبه في تقديم النصح والتوجيه في أرجوزته ، خاطب ابن الونان مخاطبا متوهما، فحثه على العناية بالشعر لأنه كمال المرء ما لم يرتزق به ،لأن الارتزاق به يعيب صاحبه فلا يصدق فيه ويكون متملقا .
ولا يكتفي بالحث على تعاطيه بل يدعو إلى الهيام به، لأنه دليل على رجاحة العقل، وهو مكسب للفضل ولبلاغة اللسان . ويدعو إلى قرضه دون إكثارمسبب للإسفاف الذي يقلل من قيمته ، وينصح بعدم الاالتفات إلى أقوال الجاهلين به . كما ينصح بالتمرس به والعناية بتجويده .
وهو يعتبر الشعر وسيلة لبلوغ المجد والعلى، ويجعله بمنزلة النجاد للسيف والقلادة للجيد . ولا يعيب الشعر في نظر ابن الونان إلا العيي الذي يعدم حاسة شم عبق عطره .
ويعدد بعد ذلك أفضال الشعر، فيجعله قاضي الحاجات، ورافد العاني، وكاسر قيد الأسير، ومغني المعدم الفقير، وناقل أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان يتمثل به ،ويستنشده صحابته ، ويعلي من قدر الشعراء حتى قال لما أعجب ببعضهم إن من البيان لسحرا، أو إن من الشعر لحكما ، وقد تأثر عليه السلام حتى ذرفت عيناه لما سمع التي رثتت أسيرها حين قتل و لم يحظ بعفو وصفح وقد كان مستحقا للقتل، وقد نفذ شعرها المؤثر إلى قلب المرسل رحمة للعالمين فأبكاه ، كما أنه كسا الشاعر كعبا بردته وقبل اعتذاره ، وبشر شعراء دعوته بجنة الخلد .
ومن أفضال الشعر عند ابن الونان أيضا أن بيتا واحدا منه قد يسمو ويرفع مغمورا إذا أصاب قائله ، ويمثل لذلك بمدح بني الأنف، وكانوا يعيرون به ،فرفع مدح شاعر لهم من قدرهم وأعلاه ، كما مثل لذلك بقصة هرم بن سنان الذي رفع الشعر من قدره وقد أصلح بين قبيلين متناحرين بدية تولى سدادها حقنا للدماء .
وكما يرفع الشعر من أقدار بعض مدحا ، فإنه يحط من أقدار غيرهم هجاء ،وقد مثل لذلك بما كان بين بني عجلان وبني نمير ،وكانت بينهم عداوة ،ونزال ، وهجاء مقذعا.
ويقول ابن الونان لو لم يكن للشعر قدر وشرف لما علقت معلقات الشعراء على جدار الكعبة .
وذكر أنه من مزايا الشعر اعتماد شواهده في مسائل التفسير والفقه واللغة ... وغير ذلك من العلوم والمعارف ،وضرب لذلك مثلا بمسائل زعيم الأزارقة ،وهو يقصد الحوار الذي دار بينه وبين ابن عباس رضي الله عنه .
ويسوي بين الشعر والترسل في البيان ،ويشبههما بشمس منيرة في الأفق .
ويذكر تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر تشريفا وتنزيها للوحي المنزل عليه ، وكأنه يرد على من يسأل لماذا يتمثل النبي عليه السلام بالشعر، ويستنشده ،ويثني على الشعراء، ويعطيهم و لكنه لا يقرضه ؟
ويصف بعد ذلك الشعر بأنه الإكسير، وهو المادة العجيبة التي زعموا أنها تصيّر المعدن الرخيص ذهبا ثمينا ، ولكن إكسير دون حاجة إلى خلط أو تقطير أو تذويب لأنه يجعل الكلام البسيط الرخيص بليغا ثمينا .
وينصح ابن الونان برواية الشعر على طريقة الحافظ الأصمعي ، ويرى أن قرض الشعر وروايته هما طريقا المجد الأصيل ، ويمثل لذلك بأحد شعراء بني أمية ، وبالشاعر المشرقي الشمقمق ،وقد شبه والده به في المغرب وقد كناه باسمه السلطان العلوي الذي كان يقربه منه لجودة شعره. ولا يرى ابن الونان لأبيه مثيلا في إجادة النظم مشرقا ومغربا مع الإشارة إلى أن باعه الطويل فيه هو الذي جعل السلطان صاحب التاج يكنيه باسم شاعرعلا كعبه في فن القريض.
وعند هذا الحد ينتهي كلامه عن الشعر ليتفرغ إلى مدح هذا السلطان ليظهر براعته في فن الشعر كبراعة أبيه من قبل ، فرحمة الله عليهما .
وسوم: العدد 907