نسوة المدينة وحكايات لم تكتمل بعد
"نسوة المدينة" من آخر اصدارات الكاتب والشاعر فراس عمر حاج محـمد والذي اعتدت أن اخاطبه بصديقي المشاكس، فهو دوما في نصوصه ومقالاته يجيد المشاكسة بجرأة الطرح والوصول لموضوعات أحيانا قد لا تخطر ببال أحد، وفي الكثير من الأحيان كنت اتناقش معه مطولا سواء عبر الهاتف أو نوافذ التواصل الاجتماعي حول هذه الكتابات والنصوص والكُتب، وأذكر أن ديوانه الأخير أثار عاصفة من الهجوم عليه من نساء ومن رجال والبعض هاجموا الديوان بدون أن يروه واعترفوا امامي وأمامه بذلك، وأنهم كتبوا بناء على ما قرأوا عن الديوان فهاجموه وهاجموا الشاعر، وكنت دوما أرقب هذه الهجمات باستمرار وارقب العواصف التي تثيرها مقالات فراس.
من بداية الكتاب يبدأ الكاتب بالمشاكسة من خلال الإهداء "إليك ِ لعل المسافة التي بيننا تصبح صفرا يوما ما"، فهل سيمكن للمسافة أن تصبح بينه وبين ملهمته صفرا وهو يتحدث عن علاقاته النسوية في الفضاء الأزرق وهو يؤكد منذ البداية أن ما يرويه هي علاقات فعلية وواقعية وحقيقية بالكامل عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولا علاقة لها بخيال الكاتب، فعلاقته حسب ما يقول علاقة لغوية وسردية وليست عاطفية سواء مؤقتة أو دائمة، فهو في كتابه "المفخخ" هذا يعيد صياغة الحوارات مع تلك النسوة بأسلوبه الأدبي بدون أن يحدد شخصية أية امرأة منهن، وما لفت نظري تسمية الكتاب "نسوة المدينة" وأعتقد أن علاقات الكاتب كانت بأكثر من مدينة وأكثر من بلدة وقرية ولم تنحصر بمدينة واحدة، وفي نفس الوقت يؤكد أن بعض النسوة سقطن سهوا من متن الكتاب وبعضهن كانت حكاياتهن مملة حد المرض النفسي فلذا لم يذكرهن، وفي نفس الوقت يشير لامرأة الفصل الثاني انها من أثرت به رغم انه حين التقاها فعليا لم تكن تثق به، وهذه الاشارة لهذه المرأة تأتي وكأنها توجيه للقارئ ليبحث عن هذه السيدة بشكل خاص مما يصرفه عن باقي النسوة.
حين قرأت الكتاب لم أكن معنيا بمعرفة النسوة بمقدار معرفة ماذا اراد فراس من كتابه هذا، وما هي الحكاية الكامنة خلف الحروف والحكايات، فمن يقرأ لفراس شعرا أو نثرا عليه أن يقفز عما تقرأ عيناه وينحي فراس جانبا كي يخترق مسافات الحكايات الأخرى التي لم يرويها، ففي الفصل الأول "أصابعُ تشتعلُ بلهبٍ أزرق" تحدث الكاتب عبر مجموعة من القصص والسرديات عن الكِتاب وعن الكِتابة وعن الكُتاب وعن صديقه الذي أثر بكتاباته وعن مجموعة حكايات مختلفة تدور حول نفس الفكرة، اضافة للاشارة أنه يريد أن يكون كما الأنبياء وأنه نرجسي إلى درجة مرضية، فهل أراد الكاتب أن يوجه القارئ بعيدا عن مسألة ما ويدع تفكيره باتجاه "نسوة المدينة"؟ وهل أراد أن يوجهه إلى تمرد الكاتب في كتبه ومقالاته على "المحرمات" الثلاثة التي يصر فراس أن يقتحم اثنتين منها باستمرار: الجنس والدين، ويبتعد عن الخوض بالسياسة؟، وهل أراد أن يبعده أيضا عن بدايات الكاتب الدينية والسياسية؟، هي تساؤلات دارت في ذهني وأنا أقرأ بالكتاب بتمعن للمرة الثانية وهي تساؤلات لم تتوقف هنا، وبعد ذلك يتسلل للحديث عن النساء ذوات الطلبات من الكُتاب والشعراء ومن يرغبن ان يبقين الجميع يتراقصون من حولهن كما "القرود" كما اشار الكاتب، ونسوة أخريات بسلوكيات مختلفة في التعامل مع الكاتب، ولكنهن جميعا يبحثن عن استمرارية العلاقة أو اثارة جنون الكاتب وعصبيته وحفيظته وتمرده عليهن ثم العودة اليهن من جديد على طريقة المقولة: "يتمنعن وهن راغبات"، فهنا أرى الكاتب يحاول أن يحول بوصلة القارئ لما أراده منذ العنوان باتجاه نسوة المدينة، وكما قلت في السابق لا أعرف لما يصر أنهن نسوة المدن فقط، حتى أن الغلاف الأمامي جرى تصميمه ليوجه القارئ لذلك، حيث مجموعة من خمس فتيات يرتدين ملابس المدن وأمام بنايات شاهقة تشير للمدن، بينما يتصدر الغلاف رسم للكاتب وهو يدير ظهره للمشهد الشامل للفتيات والمدن، بتوجيه لما اشار له الكاتب أن علاقاته افتراضية وأنها " علاقة لغوية وسردية وليست عاطفية"، أو انه يريد أن يوجه القارئ عبر كل من ذكرهن من النساء أن كل النساء واحدة كما ورد في أحد النصوص في الكتاب؟، لكن بالتأكيد أن فراس تمكن بأسلوب قصصي جميل احتوى أركان القصة من مقدمة ومتن ونهاية ولغة سليمة وبطل واحد هو السارد والقاص، من امساك القارئ من يده كي يوصله إلى لب الكتاب وهو الفصل التالي وسيدة الكتاب ملهمة الكاتب وهي سيدة الفصل الثاني خصوصا.
في الفصل الثاني والذي اسماه الكاتب: "امرأةٌ مؤلمة مع أنّها طازجة" ووصف سيدته تحت عنوان الفصل بالقول:"تقترب وكأنها لم تهجر قط، وتبتعد وكأنها لن تقترب ابدا، لكنها ستبقى هي هي، وأنا سأبقى ذلك الخاضع لقوانين علاقتها الخاصة"، وبهذا الوصف نرى أن فراس اراد بكل ما سبق أن يوصلنا لهذه النقطة ولهذه المرأة التي أفرد لها فصلا خاصا من بين كل النسوة، وأنه وكما أشرت كان ذكيا بأسلوبه لشد القارئ للوصول لمراده وهو هذه السيدة التي تركت كل الأثر وحتى أني أعتقد أن الكتاب بأكمله كان من أجلها، وإن لفت نظري كيف وهو المتمرد دوما يقبل أن يكون: "الخاضع لقوانين علاقتها الخاصة"، فهل هذه لحظة ضعف انساني أم كبوة جواد؟ أم لأنه اعترف منذ البداية في ص 9 "من المؤكد أنها غيرتني، ولكني لست متأكدا أنها تغيرت"، حتى انه حسب قوله انها في ص 93 "تلبست الكاتب سردا وفكرا ومشاعر مضطربة"، ليبدأ عبر نصوص هذا الفصل بسرد رواية هذه الأنثى المجهولة إلا للكاتب من البداية تاركا لها أن تستعيد الحكاية من خلال الكتاب حين صدوره بعد أن أخذ قراره أنها لن تقرأه قبل نشره ولن يترك لها المجال لإبداء أية ملاحظة مسبقة، فهل قرر العودة لتمرده من جديد وعدم الخضوع لقوانينها الخاصة؟ لا أعتقد فهو يصر أن يقول لها: "بعد كل الذي بيننا أحبك أكثر"، وبعد النص الذي اورده على لسانها: "أنا الآن في كامل هدوئي" ص 105 وربما فقط أعاد الصياغة والنص لها، أرى انها تمكنت من السيطرة عليه عبر الشاشة الزرقاء بما وصفته عن لحظات الحديث والنشوة عبر الشاشة والتي تستمر معها حتى وهي تأخذ حمامها الدافئ بعد كل لحظات غياب العقل وحضور النشوة، رغم كل ما أورده من تمرد أو محاولات للتمرد، وهذا واضح بكل النصوص التي وردت على لسان تلك المرأة المجهولة سيدة الفصل الثاني، فهي واثقة من نفسها وأنها رغم كل ما تقوم به سيبقى تحت طوعها رغم انها تعترف له أنها مارست الخداع معه وطورت اساليب الخداع وتتمتع به، وهو يعرف أنها تمارس ساديتها تجاهه بقوة، بحيث تسائل في أحد النصوص ان كانت مومس محترفة، ووصفها صديق مشترك بينهما بأنها عاهرة شهية حين وعدت الاثنين في نفس الفندق.
في الفصل الثالث الذي اسماه: "مصابيح زرقاء في ليل المدينة" والذي وضع فيه تحت العنوان عبارة قد تثير غضب بعض من سيقرأن الكتاب حين يقول: "يحكى أن المرأة أقوى المخلوقات مع أنها مائية تتصبب شهوة عند كل حديث"، وهي عبارة توجه القارئ وأفكاره بأن النساء كلهن ذوات شهوات تسيطر عليهن، وبالتالي يوجه القارئ لذلك قبل أن يقرأ عن نساء هذا الفصل، وكأنها ردة فعل بسبب امرأة الفصل الثاني وتصرفاتها مع الكاتب، ولكنه يبدأ الحديث عن زوجته وكيف أصبحت العلاقة بينهما باردة وقائمة على استفزازتها بسبب علاقاته عبر الشاشة الزرقاء بالنساء، ثم ينتقل للحديث عن نساء عرفهن عبر الشاشة الزرقاء والبعض التقاهن، وكل امرأة منهن تبدأ بالحديث العادي لتنتقل بعده الى أحاديث الاشتهاء والشهوة، وباستمرار يعيد صياغة ما جرى بينه وبينها بشكل قصة أو نص، وفي الكثير من النصوص يخرج عن حدود المألوف في الكتابة، مما يدفعني لوضع التساؤل: إن كن النساء كما قال في بداية الفصل شهوانيات عند أي حديث، فلم يتحدث اليهن بما يثير؟؟ ففي احد النصوص بعنوان: "ليست صعبة هذه المهمة" خرج عن المعقول والمقبول في وصف من يتحدث اليها ويوجهها لما تفعل، وفي نصوص أخرى كان يصف أكثر أعضاء المرأة حساسية وباقي أعضاء جسدها حتى وصل الى درجة من الاباحية بالوصف، والمفترض ان هذه أحاديث واقعية وإن كانت مجنونة عبر الشاشة الزرقاء وليست من نسج الخيال وكما يصفها بأحد النصوص "رحلة من الشوق والشبق لا تنتهي عند حد" ونصوص ورد فيها الحوار بين الطرفين بدون تحفظ من كليهما، ولكل فعل ردة فعل فكيف حين يكون الكلام الموجه مثير للمرأة ومن ذكر أيضا؟، ولماذا يتم اتهام المرأة وحدها بالشهوانية وهذه من صفات الذكور وجزء من تركيبتهم البيولوجية؟
في الفصل الرابع الذي اسماه: "تدوينات خاصة لامرأة لم تعطني ما وعدت به فخلقت فيّ حنينا لم يجف"، فيورد تدوينات بلغت 108 تدوينات تعود لتلك المرأة مؤكدا انه لم يجري عليها أي تعديل سوى تصحيحات لغوية أو املائية ويؤكد في مقدمة الفصل: "لقد كشفت لي التدوينات عظيم حب المرأة"، ويقول أيضا: "امرأة كهذه كيف لي ألا أن أحبها حتى النفس الأخير وهي التي يعترف أنه يحبها وأحبها وأنها: "مبدعة اذا كتبت، وملهمة اذا جعلتني أكتب لها"، ويقول أنها: "لم تجرحني بأي صفة أو عبارة"، وبذلك تكون امرأة أخرى غير امرأة الفصل الثاني التي وصفها:"امرأةٌ مؤلمة" التي كانت تتعمد احراجه بعبارات وكلمات أمام الآخرين وخلال تواصلهما معا، أو انه غفر لها كل ما اورده من حكاياتها المزعجة معه حين اعاد قراءة هذه التدوينات المحلقة بالحب والوجدانيات والعشق، فهو اعترف انه لم يحب سوى هذه المرأة بالفصل الرابع وأن امرأة الفصل الثاني من أثرت به وغيرته، فهل كان الكاتب بين امرأتين كالهائم بين فراشتين؟ وأن كل النساء الأخريات كن عابرات في الفضاء الأزرق، وأن هذه هي المرأة الحلم كما اورد في نص الكتاب الأخير، لينهي حكايته مع نسوة المدينة بالقول: "كيف لي أن أتخلص من كل النساء العالقات على جثتي؟".
بماذا يمكن تصنيف هذا الكتاب الممتلئ بالحروف المجنونة، فأدب الرسائل أدب قديم حين كانت الرسالة تأخذ اياما وأحيانا اسابيع حتى تصل بالبريد ويعود الرد عليها، وفي عهد بدايات الشبكة العنكبوتية أصبحت الرسائل عبر البريد الالكتروني أسرع بالذهاب والاياب، لكن في عهد منصات التواصل الاجتماعي خرج الموضوع عن أدب الرسائل ليصبح حوارا مكتوبا ومباشرا أو عبر الحديث أو عبر المشاهدة مع الحديث، وهذا ما اراه بنسوة المدينة فهو مازج بين أدب الرسائل من حيث نشر رسائل متبادلة أخذت طابع النصوص الأدبية، وبين سيرة ذاتية تتعلق بالنساء فقط فلا يمكن أن تجعل الكتاب مصنفا في أدب السيرة الذاتية، ولكن بالتأكيد وحسب قناعتي أنه مازج أصناف مختلفة من صنوف الأدب، حتى تحول الى كتاب حافل بالتمرد والجنون، وأعاد إلى ذاكرتي بعض مما قرأت من كتب كُتبت فترة ازدهار الفترة العباسية، فهل اراد الكاتب أن يعري هذا المجتمع وماذا يجرِ فيه خلف الشاشة الزرقاء، أم أراد أن يكشف عن معاناة المرأة بدون شريك في حياتها يمنحها الحنان والحب والجنس، ولذا يرى كل النساء شهوانيات ولكن في المقابل.. مقابل كل امرأة هناك ذكر، فليست المشكلة بالمرأة لوحدها بل بالطرفين، ونسوة المدينة فضح هذا الاستخدام للفضاء الأزرق بهذا الشكل، فكل اختراع له وجهين للاستخدام، وكل من الذكر والأنثى يستطيع أن يختار الوجه الذي يناسبه.
في النهاية بالتأكيد يعجبني الكثير مما يكتبه فراس ويثير اعجابي بتمرده وخروجه عن المألوف ضمن حدود مقبولة بالنسبة لي، ولذا كنت وكلما قرأت له نص يثير دهشتي احاوره به أو أرسل له ملاحظاتي سلبا وايجابا، والجميل به أنه يستقبل الملاحظات بكل اريحية، رغم أنه أحيانا يخلط الخاص بالعام، وأذكر حوار بيني وبين أحد الكُتاب عن فراس فقال عنه أنه مجنون، فقلت له ولعل هذا الذي تعتبره جنونا هو أجمل ما في فراس، ويعجبني دوما في فراس قوة اللغة التي يكتب بها وسلاستها ومباشرتها، وإن كان يقع أحيانا باستخدام كلمات غير عربية وأحيانا بقصد كما في عنوان لنص في الكِتاب، وأحيانا يستخدم كلمات عربية أصبحت سائدة كما "الكِمامة" بدون العودة لمعناها الفعلي باللغة العربية وأن الكِمامة تستخدم للبعير والحمار وليس للبشر، إلا حين نريد التشبيه فنقول: تكميم الأفواه.
وباختصار لم ارد الحديث عن تفاصيل الكتاب أو عن تفاصيل النصوص، مكتفيا بالبحث خلف النصوص تاركا للقارئ أن يحلق بهذه النصوص المجنونة، متأكدا أن نسوة المدينة حكايات لم تكتمل بعد، وأكتفي بالقول: فراس يا صديقي.. أنت عاشق تجاوزت الجنون.
وسوم: العدد 912