نصوص الهايكو، كما الأسود .. كذلك الأبيض

 

sdsfngfs937.jpg

هكذا كان لقائي بك       مقتطعا من الزمن .. خارجا عن المألوف     مجنونا بكل هدوء .. صاخبا بصمت             خلف البوابات المترجمة .. مرسلا من        

الغيم       منتفضا من رحم الوجع .. الرفض ..

اللاوعي             كما الأسود .. كذلك الأبيض

بهذه العبارات بدأ الشاعر علي القيسي مجموعته الشعرية ( كما الأسود .. كذلك الأبيض ) .. قصائد هايكو , عندما نختار الصمت نستكشف الآخر بعمق أغوار شخصيته لإدراك خفاياها , قمة الوجع عندما تلقي الأرض بركانا ً ويغدو صوته نشيد المتعبين , سواد بعضنا كالبياض الأصم .. وبياض بعضنا كسواد أعمى , يقرر أن يعتق قلبه ويريحه من شقاء الحب

تتستر فلسفة الهايكو بين الطبيعة والدقة اللغوية , فببضع كلمات يختزل الوجود , مقاطع الهايكو الشذرية تتقصى المكان والزمان دفعة واحدة تارة بهزل وتارة آخرى بحكمة , بحث الشاعر الياباني ( ريويوتسويا ) المولود في مدينة " سوبورو" سنة 1958 في أصل كلمة ( هايكو) والتي تعني ( طفل الرماد ) , شعر الهايكو فرضه تصور فلسفي وجمالي أنطلق مع رائد الهايكو ( باشو ) 1644 – 1694 , و( بوسون ) 1716-1783 وأستمر مع آخرين كديمومة الزمان متنقلا ً بين الشعراء القدامى والمحدثين للظروف السوسيوثقافية لكل شاعرهايكو على حده , قد تبدو قصيدة الهايكو سهلة ومن السهل الوصول إلى دلالاتها ولعل مرد ذلك يعود إلى بساطته الظاهرة , لكن عمقه الفلسفي والجمالي يدل عكس ذلك .   من مميزات شعر الهايكو الإيجاز في اللغة , ينجز الهايكو عادة بـ ( 17 ) مقاطعا ً تكتب على شكل ثلاثة خطوط ( 5-7-5 ) مقاطع واعتماده على الجملة الناقصة كما الحياة فهي لا تظهر أسرارها الخفية , جمل أسمية في الغالب معززة بمصدر وقليلا ً ما نجد جملا ً فعلية , ويمتاز شعر الهايكو أيضا ً بتوظيف للحواس : اللمس والذوق والسمع والشم والبصر , تستخدم في الهايكو كإدراكات مادية من الواقع الملموس وليس كاستدعاءات عقلية ويوظف شعر الهايكو حالات هزلية القصد منها السخرية وبعث الإبتسامة , ففي كثير من الأحيان تتحول الصرامة في الحياة والدقة في التفكير إلى مواقف مضحكة , فيرى ( نور الدين ضرار ) :" أن الهايكو نصّ مضغوط يبدو للوهلة الأولى في تحققه على الورق مجرد بذر حبر باهتة أو زخة مطر شفيفة , لكنه سرعان ما يتفتق بفعل القراءة المتأنية والمتأملة عن كون شعري لا متناه في مشهديته , تماما ً كتشكلات دوائر مائية متماوجة عن رمي حصاة على صفحة بركة جنائنية هادئة عميقة لتجسد رؤية مشهدية " .

أصدر الهايكست العراقي (علي القيسي ) مجموعة جديدة من جنس قصيدة الهايكو بعنوان ( كما الأسود .. كذلك الأبيض) لتكون النتاج الورقي الثانية بعد ( زهرة الأوركيد ) , الشاعر (علي القيسي ) من الشعراء العراقيين الذين ساهمو في انتشار وبلورة الهايكو العربي من خلال موقعه بـ ( نبض الهايكو ) و ( مختبر الهايكو ) الذي كان هدفه مناقشة النصوص التي تنشر في النبض وللوصول إلى نص حقيقي معبر عن روح الهايكو .

المقهى الصغير         كلما ازداد المطر           يزداد رواده         يشهد ويختزل روعة الكون , تتجلى تحت المطر , وتبقى المقاهي ملاذ الغرباء , صديقة الأدباء والمثقفين , وتتلازم الكلمتان المقهى والمطر معا ً وتحيلا القارئ إلى عالمين لا ثالث لهما ..

برق قطع السماء           أنظر أثر سوط         الجلاد !

برق هيّج لوعة الجسم والقلب , في زمن محكوم إيقاعه بيد الجلاد , عندما ينحت السوط في جواف اللحم ويفقد سيادة الوعي , ليصبح برهانا ً في ضجيجه وصمته .

هل نجح شاعر الهايكو في أن يترك بصمة في الشعر العربي , ولماذا نحافظ على استخدام تسمية الهايكو رغم المعارضة الكبيرة لوجود هذه اللفظة ضمن الأدب العربي : أجاب الشاعر والروائي والناقد ( محمد الأسعد ) في احدى حواراته : ( توجد قصائد هايكو حاول أصحابها وضع بصمتهم الشعرية في الشعر العربي , إلا أنها نادرة جدا ً, لأن بصمتهم ظلت تحمل طريقة الرؤية وتقاناتها المألوفة في تراث الشعر العربي , مع أن جدة تجربة الهايكو وجدة أي تجربة جديدة تكمن في استدخال طريقة رؤيا جديدة مختلفة مع ما تقتضيه من تقانات مختلفة , أيضا ً على سبيل المثال , ماذا يضيف شاعر عربي يكتب هايكو بطريقة الرؤيا التي زودته به ثقافته التي نشأ عليها , أو ببعض ما حاول محاكاته من طرائق غربية غريبة تامة عن طرائق الرؤيا الشرقية واليابانية بخاصة في ما قرأت من قصائد وجدت بعضهم لا يأخذ من هذا الشكل الشعري الغني بطرائق رؤيته وتقاناته إلا مظاهر سطحية مثل سطور الهايكو الثلاثة أو التصوير الفوتوغرافي البحث , أو التقاط مفارقة عن طريق إحداث قران بين فكرتين أو صورتين , وما إلى ذلك , وما لفت نظري أكثر أنني لم أصادف إدراكا سليما للسبب الذي لا نجد في الهايكو حتى الصفات والأستعارة أو التشبيه أو أنسنة الأشياء , وبدلا من ذلك وجدت من يدعي أنه ما دام يريد كتابة هايكو ( عربية ) فلا بد أن يبقى على أمثال هذه التقانات ) .

وحيدا         ارسم خطوطا         لا تتصل ببعض

يرسم للزمن خطوطا ً عميقة , يراها ويفك رموزها , عوامل مكبوتة في اللاشعور يتيح تنفيسا ً لإعادة التوازن النفسي .

صخب العالم       كم هو صغير أمام       ابتسامتك !

يتطهرمن دنس الصخب عبر ضوء ابتسامة لتفتح لنا دروب القلب كضرير الروح لا يرى وإن أبصر , وبصير القلب مغمض فيرى أكثر , بعد أن كانت نهايتها طريق مظلم .

تؤكد الدكتورة ( بشرى البستاني ) : " الهايكو الياباني كما يرى الكثير من نقاده , يقوم على مرجعية معينة ترتكز على فلسفة – الزن – البوذية والتي تحث على التأمل والتفكر , والوقوف عند الأشياء ومفردات الطبيعة والظواهر المادية لجعلها إشارة لدلائل أكبر , إنها فلسفة الروح والحكمة والسلام التي استقت الكثير من معطياتها من فلسفات الشرق القديمة كالبوذية والكونفوشيوسية والطاوية , ويقر ّ أصحابها أنها ثقافة أرضية ناتجة عن حاجات واجتهادات إنسانية تدعو للمحبة والتسامح واحترام مظاهر الحياة والأشياء وأستنطاق قدرتها على تشكيل الإنسجام وسط التناقض , فالزهر ينمو في صميم الشوك والماء يحتضن اليابسة , والبحر يجاور الصحارى, والرياح الهائمة في الأعالي تحمل البذور التي ستضمها الأرض , إلى غير ذلك مما تحمل من تعاليم وقيم إنسانية تحث على الآلفة وتشكيل الأنسجام .

يتأمل الهايكست ( علي القيسي ) الطيور التي تحلق في السماء التي ترى الوفاء في قلبها فهي دائما ً متفائلة , زقزقة العصافير من أجمل اللغات التي لا يشعر بها إلا مرهف الإحساس .

يكاد يرسم قلبا       سرب الطيور       مهاجر

طريق العودة       اكثر طولا سرب       الطيور المهاجرة

ايها اللقلق إنك محق       بإرجاع رأسك للوراء لعالم بحاجة     إلى ان نراه بالمقلوب

مساء ارجواني       على ساق واحدة طيور     الفلامنكو

يصف الهايكست ( علي القيسي ) دار الشاعر بدر شاكر السياب بهذه البساطة , من قرية صغيرة في أقصى جنوب العراق ( جيكور ) التابعة لقضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة , يخترقها نهر " بويب " الذي حوله السياب بشعره إلى نهر أغرق سفن الشعراء .

قرب دار السياب           تائه يسأل عن بويب           المار لا يعرف بويب ايضا

بيت السياب         ترى كم جيلا من السنونو       سكن عش السقف

ذكرى وفاة السياب       اكان يكتب الشعر الحر       المجنون الذي بكاه

لغير العرب         ضفتيه اصبح         شط العرب

يقول الشاعر( محمود الرجبي ) عن الهايكو : ( هو البصيرة وليس البصر الهايكو هو الحدث وليس من يصنع الحدث , الهايكو هو ما وراء المشهد وما بين المشهد وما يحاول المشهد أن يمنعك من رؤيته دون تأمل عميق , كلما كانت كلماتك أقل كلما كانت رؤيتك ووصفك أعمق وأصدق وكما قال النفري : كلما أتسعت الرؤيا , تضيق العبارة !! ) .

الشكل الشعري المعروف ( التانكا ) أي القصيدة القصيرة , هذا النمط الشعري كان سائدا ً في بلاط القياصرة حيث الحاشية والرهبان المتمكنون من اللغة , وقد لاقت رواجا ً هائلا ً , تتكون من مقاطع اكثر تتوزع على خمسة أسطر ( 7-7-5-7-5 ) بدلا ً من سطور الهايكو الثلاثة التي تتوالى مقاطعها ( 5-7-5 ) , يستخدم شاعر التانكا التشبيه والاستعارة والأنسنة ويتناول موضوعات الطبيعة والمواسم وعواطف الحب والحزن .

يشير الى رأسه       تمثال         مقطوع الرأس

هكذا انا وتدور رحى       الحكاية

زرقة         لدموع الوداع       ملوحة البحر

رويدا يتلاشى التلويح       والقارب            

         وقت اضافي

يبحث عن روايات الحب     سبعيني

يااااه لا تندمل ابدا       ندوب العشق !

يرسم لنا الهايكست ( علي القيسي ) فصول السنة التي هي كنظام طبيعي ولكل فصل منها تاثير على الحياة وأنشطتها , فتلبس الأرض فستانا ً أبيض شتاء ً وتتزين بلون مطرز بألوان الربيع الزاهية وتكتسب السماء زرقة صافية نهارا ً تجعل العين تندهش والنفس تسبح بحمد الخالق .

صباح شتوي       بحذر اعبر الساقية       كي لا أوقظ الخرير

غودو        طريقي الصباحي انا ايضا     بانتظار الربيع

ريح الخريف         كما لو يتباهى       بستان النخيل

شمس الظهيرة       بريق راحتي صفائح       ملح وسراب

ليلة شتوية         الأرصفة بعبق الزيزفون       تجبرني أن أفكر مثل شجرة

استمتعنا بمجموعة من النفحات الشعرية ( شعر الهايكو ) المعطرة بأجمل الصور للشاعر( علي القيسي في مجموعته ( كما الأسود .. كذلك الأبيض الفواحة بطيب المعنى , والنتي تفيض من روح شاعر تتقصى الضوء وتلتقط لمعاته .

في الخاتمة يقول الناقد ( بكر السباتين ) :

( لابد من الإشارة إلى أن شعر الهايكو آخذ في الأنتشار السريع ليشق طريقه في المشهد الثقافي العربي بإقتدار , وأصبح لديه مريدوه من القراء ما جعل الشعراء ينخرطون في آتون هذه التجربة القادمة من اليابان , وقد أدرك شعراؤها مبكرا ً قيمة الوقت منذ قرون , ولعل بساطة الهايكو وقدرته على تحمل اللحظة التذكارية المبسطة في الشكل والعميقة بالأسئلة , قد أغوت جيلا ً جديدا ً من الشعراء الذين وجدوا ذواتهم في هذا اللون الجميل من الشعر دون تكلف في المشاعر ) .

وسوم: العدد 937