في رواية "الراعي وفاكهة النساء" للكاتبة ميسون أسدي: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته
*الروائية ميسون أسدي من ابرز الكاتبات وأكثرها تأثيرًا في الادب المحلي في بلادنا. ليست المرّة الأولى التي تستوقفني فيها الكاتبة ميسون أسدي في إهداءها لكتبها، لكنها هذه المرّة، في روايتها الجديدة "الراعي وفاكهة النساء"، اقتبست مقولة "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته" من الأحاديث النبوية، وعاجلتها بجملة استثنائية "إلا القلوب فلا راعي لها"... وهي لم تقصد الاعتراض على الحديث الأول، ولكنها استثنت القلوب من "كلكم"، وأنا أرى في ذلك إشراقة، حيث فهمها الكافي للمقولة الأولى وتجييرها بذكاء لما ترمي إليه فيما سنقرأه لاحقًا في هذه الرواية المميّزة التي تطرح الكثير من الأسئلة، تجعل القارئ يدرك مضامين وابعاد الرواية.
الرواية الجديدة صدرت عن "دار الرعاة- للدراسات والنشر" بالتعاون مع ثقافية "جسور- للنشر والتوزيع" في كتاب أنيق من الحجم الصغير (218 صفحة) وقد زيّن الغلاف والصفحات الداخلية برسومات للفنان الفلسطيني الشهير عبد عابدي، وتمّ تذييل الرواية بنص تعليقي للدكتور ثائر العذاري (العراق).
**تقنية لقراء ليسوا كسولين
كما اعتدنا على قصص الكاتبة ميسون، فهي دائما محدّثة في تقنيات سردها لما ترويه، ولكن هذه المرّة استعانة بأكثر من راو للقصة، وهذا ما نكتشفه فقط في آخر سطر للرواية، حيث تقوم صديقة الكاتبة المحامية ابتهاج أنطون برواية قصة للكاتبة نفسها، نقلا عن الطبيب عنيدات، الذي نقلها عن صديقه هزاع... هنا نحن أمام أربعة رواة لقصّة واحدة، وهي تقنية مبتكرة وملفتة للنظر ومشوقة في نفس الوقت، إلا أنها تربك القارئ للحظات، ممّا تجعله يعيد قراءة بعض الصفحات حتّى يتأكد من عدم خيانة ذكاءه لما فهمه بالفعل.
مختصر قصة التقنية التي اتبعتها هي أن الكاتبة ميسون كانت تبحث عن قصة عاشق مختلف، وكادت أن تصرف النظر عن الموضوع، بعد أن أصابها اليأس من وجود مثل هذا العاشق، فجاءتها صديقتها بقصّة غريبة تمامًا، وكانت هي مادة الرواية. وقد ورد ذلك تحت عنوان "على عتبة النص".
تستمر ميسون في مفاجأتنا، حيث تستعين بالخيال الميتافيزيق، وتعيد بطل القصة بعد وفاته إلى الحياة ليروي قصّته، محاولة منطقة الأمر وجعله واقعيًّا نوعًا ما، وقد رأينا مثل هذه التقنية لدى ميسون في إحدى قصصها القصيرة بعنوان "كتيطخ اباحر" وهو عنوان مبهم يفهم معناه في سياق القصة للقارئ المجتهد فقط... ولن أبحر في تفاصيل ذلك، حتى لا أحرمكم من متعة هذه البداية المذهلة... اعتبر الرواية عمل فني كامل لا تشوبه شائبة. رائعة أنت أيتها الكاتبة التي تكتبين لقراء ليسوا كسولين.
** القصة الواقعية في قالبها الخيالي
لن أغوص في القالب الخيالي للقصة فهو أحد عناصر التشويق في هذه الرواية، وسأتركه لكم حتى تكتشفوه أولا بأول... أما القصة ذاتها فهي عن راع يترعرع في الحياة البدائية حاملا كل مؤثّراتها إلى الحياة العصرية التي نعرفها جيّدا، وخاصة تعامله مع كل ما هو مؤنّث، ونحن نعرف أن معظم ما جاء من أحداث هي من بنات أفكار الكاتبة، لكن قربها للواقع يكاد أن يجعلنا نعتقد بأن البطل هو حقيقي تمامًا ونحن نستمع لما رواه بالفعل، ويجعلنا نبغضه حد النخاع مرّات عدّة، ونتعاطف معه في كثير من المواقف في مرّات أخرى، ونرى أنفسنا في شخصيّات مختلفة، تم إدراجها داخل القصّة، وهذا يزيد من المتعة القصصية لدينا.
اللقاء بين الراعي والمحامية على ما فيه من غرائبية، جاء ليخدم ردّة الفعل الأنثوية على بدائية هذا الراعي المتحضّر، وهو حسب رأيي استخدام ناجح لإحداث الصراع المتنامي في الرواية، وقد تم تفعيل ردة الفعل هذه باختلافاتها على جميع الإناث التي وردت بالقصة، ممّا يجعل القارئ أمام إحصاء نسوي علمي لما يفعله هذا الراعي والذي يمثل فئة ليست صغيرة من الرجال، ولا أقصد بنسوي متعصب لقضية المرأة، بل لردود فعل نسائية بحتة ومتباينة، بعيدًا عن التعصّب.
وبالمجمل، هذه قصة مغامرات الراعي مع العديد من النساء والقليل من الرجال، وفيها أحداث صادمة تكاد لا تصدّق، ولكن القارئ المطلع، يعرف جيّدًا أنها تقارب الحقيقة، وما الخيال إلا في طريقة طرح القصّة، وأعتقد أن الكاتبة استخدمت هذا النوع من الخيال لتخفّف الصدمة على بعض القرّاء، وليقتنع هذا البعض بأن ما جاء هو محض خيال، كما نقنع أنفسنا عادةً بأن الممثل لم يتلقى الضربات العنيفة ولم يمت في الفيلم، وما هو إلا مجرّد تمثيل. تحيّة لك أيتها الكاتبة التي تراعين مشاعر النفوس الحساسة لدى بعض قرّاءك.
**قبل وبعد البداية والنهاية
قبل بداية القصة تورد الكاتبة أفكارها ومحادثتها مع صديقتها التي نقلت لها القصة وفيها من الطرافة الشيء الكثير، وقد تحدثنا أنها استعادت في البداية بطل القصة ليروي قصته، لكن النهاية جاءت لتفجّر كل ما بنته، سابقّا، لتجعل القارئ في حيرة من أمره، تحت ركام هذا الانفجار، فيقوم بنفض الغبار عنه ليتبيّن حقيقة أخرى غير التي عاشها منذ البداية...
تتناول الرواية مشكلات الحياة ومواقف الانسان في ظل التطور الحضاري السريع، وعالجت موضوعات اجتماعية وعاطفية بأسلوب جميل ومباشر، اعذروني فأنا في كل مرّة أتحدث عن مسار القصة، أكاد أقع في فخ كشف الأمور التي ستحرمكم لذة اكتشافها بأنفسكم، لذلك، اعتذر عن مواصلة الكتابة وأترككم مع الرواية وهذه الكاتبة التي تجيد بالفعل فن القصة الحديثة... واثبتت الكاتبة انها أيضًا تجيد كتابة القصّة الكلاسيكية في ثوب عصري مستحدث.
وسوم: العدد 941