رواية مدينة الله وتداخل الزمان والمكان
صدرت الطبعة الأولى رواية مدينة الله للأديب الفلسطيني حسن حميد عام 2009 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
عنوان الرّواية هو إحدى العتبات التي تقود إلى النّصّ، (ومدينة الله) تشير بوضوح إلى القدس، فأيّ مدينة غيرها اجتمعت عليها قلوب المؤمنين وهفت إليها أفئدة الموحّدين؟ فهي مقام المسيح عليه السلام ومسرى النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم، وفيها تتعانق المآذن وأبراج الكنائس، ويتداخل الأذان مع قرع نواقيس الكنائس، حتّى ليظنّ الناظر إليها أنّ قباب الكنائس تعلو المساجد ومنائر المساجد تعلو الكنائس، كما يشير الكاتب.
ويحتار القارئ للرواية أين يصنّفها: فهل هي رواية واقعيّة تصف المدينة وتحكي يومياتها في ظلّ الاحتلال، أم فنتازيا خياليّة تتخذ من المدينة المقدّسة مكانا للانطلاق إلى عالم خياليّ جامح. أعتقد أنّ الكاتب استطاع أن يجمع بين الصّنفين ويدمجهما بطريقة فنّية، حتّى أن القارئ لا يستطيع أحيانا التّمييز بين الحقيقة والخيال؛ فالأحداث واقعيّة تحدث في القدس كلّ يوم، والأماكن حقيقيّة، لكنّ المكان والزّمان متداخل بشكل خياليّ، فالأكمنة توصف أحيانا كما هي، وأحيانا أخرى تظهر كأنّها أماكن أخرى مختلفة تماما. أمّا الزمان، فبينما تتحدّث الرواية عن أحداث واقعية تدور في الزمن الحاضر وتحت الاحتلال، إلا أنّ الكاتب يغوص في أعماق التّاريخ ويستخرج منه صورا، حتّى لتظنّ أن الأزمان الغابرة اجتمعت واتحدت مع الزمن الحاضر.
الشخصيّة الرئيسية في الرواية هي لفلاديمير الرّوسي الذي أتى لزيارة المدينة المقدّسة، وكتب الرسائل المتتالية لمعلّمه في روسيا؛ يشرح له فيها ما يراه وما يشعر به كلّ يوم من أيام مكوثه. وهي حيلة فنّية جيّدة لصياغة الرّواية بطريقة مشوّقة ومقنعة للقارئ، وإن كانت الرّسائل أشبه ما تكون باليوميات والمذكّرات منها للرسالة.
ويبدو الكاتب متأثّرا بالكوميديا الإلهيّة لدانتي أليغييري حيث يصحب الشاعر الروماني فيرجيل الكاتب إلى العالم الآخر في رحلة خياليّة أسطوريّة. وفي رواية (مدينة الله)، وبشكل مماثل لرحلة دانتي، يأتي الحوذي جو الإيرلندي ليصطحب فلاديمير على عربته التي يجرّها حصان في أحياء القدس وفي مدن ومخيمات فلسطين، في رحلة أسطوريّة يدمج فيها الخيال والواقع بطريقة غريبة تحلّق بالمتلقي في عالم الخيال ثمّ تحطّ به على الواقع.
يصوّر الكاتب الإنسان الفلسطينيّ، بالشخص الصامد في وطنه الذي يتلوّع بظلم الاحتلال ويعاني على حواجزة ويقاسي في سجونه أسوأ ظروف الاعتقال والتّعذيب، ومع ذلك يبقى متشبّثا بأرضه صامدا عليها، ويبقى شوكة في حلق المحتلّين، وعقبة في وجه توسّعهم واستقرارهم في بلاده. أمّا الآخر فيرسم له صورا مغايرة، فهو مهزوز خائف مرعوب لا يشعر بالأمن مهما كانت قوّته ومهما وضع من حراسة، وهو عدواني يتلذّذ بسفك الدّماء وتعذيب الآخرين دون أن يرمش له جفن أو يندى له جبين. وقد أحسن الكاتب عندما وصف جنود الاحتلال بالبغال والبغّالة والكلاب الصّامتة، وكرّر هذه الصفة مرّة بعد مرّة على مدى صفحات كتابه؛ فالبغل حيوان هجين لا أصل له ولا نسل له، والبغّال الذي يمتطي ظهر البغل ليس كالفارس الذي يمتطى صهوة الحصان الأصيل، وأنّا للبغل أن يصبح كديشا عدا أن يكون أصيلا! وأنّا للمحتلّ أن يصبح أصيلا في أرض ترفض وجوده على ثراها!
أما شخصيّة (سيلفا) المجنّدة في سجون الاحتلال، التي تعذّب الأسرى والأسيرات بوحشيّة وساديّة، ثمّ تتحوّل إلى غانية عاشقة تهب جسدها لكلّ لامس، لا شرف لها ولا كرامة، فهي تجسيد لشخصيّة المحتلّ الدّخيل الذي يقتل ويعذّب بساديّة ونفسيّة مريضة، ثمّ يظهر للعالم بأنّه حمامة جميلة تحلّق في واحة الديمقراطيّة بينما تخفي تحت ريشها النّاعم جسد غراب خسيس.
وقد بالغ الكاتب في وصف العلاقة بين فلاديمير وسيلفا ولحظات العشق التي جمعتهما، ووصفها بصورة حسّية تخدش حسّ القارئ وتوصله إلى مرحلة كبيرة من الاشمئزاز. وقد كرّر الكاتب هذا المشهد مرّة بعد مرّة، وفي مواقع كثيرة في الرّواية، يشعر القارئ أحيانا أنّها مقحمة ومقصودة بذاتها، ولا يعقل أن تكون ضمن رسالة أرسلها تلميذ إلى أستاذه!
ويلحظ القارئ للرواية التكرار الكثير في الوصف وفي الأحداث، وهو جيّد أحيانا لأنّه يؤكّد على الفكرة التي يريدها الكاتب، ومثال ذلك ذكر البغال والبغّالة وتكرار أفعالهم في العشرات من المواقف، ولكن في أحيان كثيرة أثقل التكرار على القارئ وأفقد الرواية عنصر التشويق والمفاجأة، وكان يمكن الاستغناء عنه دون أن يؤثر ذلك على بنية الرّواية.
الفكرة العامّة للرواية هي رفض الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني وإظهار بشاعة الاحتلال وضعف حجته التاريخيّة وتناقضه، ودعوة للحريّة والانعتاق من الظلم والحياة بسلام. لكن هناك تناقض كبير يشعر به القارئ عندما يختار الكاتب شخصيته الرئيسيّة؛ لتكون فلاديمير الروسي ويشير في الرّواية إلى الاتحاد السوفييتي السابق، ويصفه بالعظيم! وكأنّ الاتحاد السوفييتي وخليفته روسيا واحة للسلام والحريّة، بينما المستطلع البسيط للأحداث منذ بداية القرن العشرين يرى أنّ الاتحاد السوفييتي كان من أكبر القوى الاستعماريّة التي احتلّت شعوبا بأكملها وشرّدت الأمم وقتلت الملايين، وما تزال روسيا تقوم بهذا الدّور في كثير من بلدان العالم، وتهجير الشعب السوري وإبادته بالبراميل المتفجرة ما زالت قائمة. وهذا تناقض كبير، فلا يمكن أن أكون محبّا للحريّة وأمجّد سالبي الحريّة، ولا يمكن أن أتعاطف مع الشّعب الفلسطيني ومعاناته وأغضّ النظر عن معاناة الشعوب الأخرى. فهذا يفقد صاحبه المصداقيّة ويفقد عمله قيمته.
لغة الكاتب جميلة وأسلوبه بديع ممتع، وفي الرواية رحلتان: واحدة رائعة وهي رحلة فلاديمير في أرجاء القدس وعبر تاريخها، وإن كانت الكثير من الصور والأحداث ليست حقيقية، مثل الحلقات الصوفيّة في المسجد الأقصى، ورحلة أخرى شائنة، وهي رحلة فلاديمير في أحضان سيلفا، وفي المقاهي التي يتكرّر ذكرها، وذكر احتسائه للقهوة، بشكل يصل بالقارئ حدّ الملل. فحبّذا لو اكتفى الكاتب بالرحلة الأولى وأشار إلى الثانية بأسلوب لا يخدش مشاعر القارئ.
وسوم: العدد 942