عن رواية حيواتٌ سحيقة للروائي يحيى القيسي
اعتقد الفيلسوفان اليونانيان سقراط وأفلاطون قديما، بأن هنالك نفسا داخل كل شخص فينا تبقى حية بعد موته لا تموت معه، وأن هناك عودة للحياة وأَحياءٌ من الموتى، وأن نفوس الموتى تبقى موجودة، ومنها تنطلق حياة أخرى جديدة.
من خلال هذه الفكرة استدعى الروائي يحيى القيسي كل عناصر روايته “حيوات سحيقة” التي وقعت في (164) صفحة واتخذت من المكان إطارًا ملموسا لها، ليطرح بذلك فكرته التي تميزت بغرابتها، محفزا قارئها على التغلغل فيها، متجاوزا المعاني الظاهرية للنص باحثا عن تلك الغائرة في أعماقه، ولعل كتابة رواية تحمل فكرة ماورائية، تحتاج من الكاتب جرأة شديدة، وكفاءة عالية، وذلك لإيصالها الى القارئ وإقناعه بها على النحو الأفضل.
بما يخص العنوان فبعد البحث عن المعنى اللغوي لأصل كلمة “حَيَواتٌ” نجد أنها في صورة جمع تكسير وجذرها (حيي) وجذعها (حيوات) وهي تشير الى الحَياةُ، النّموُّ والبقاءُ، أما كلمة “سحيقة” فهي صفة تدلّ على الثبوت من سحُقَ وسحِقَ، يقول العرب: الأزمنة السحيقة، أي الغابرة، ومكان سحيق أي بعيد، ووادٍ سحيق أي واد عميق، من هنا فعنوان الرواية يدل على فكرتها غير النمطية وعلاقتها بالمكان، فالمكان عنصر هام في صياغة هذا العمل وذلك لارتباطه بالمكونات والعناصر البنائية للنص.
يبدأ القارئ بتوقع الاحتمالات التي تَتَالَت إليه عند القراءة الأولى للعنوان، محاولا ربطها وبلورتها بشكل يتوافق مع النص، أما عن الإهداء فقد استهل الكاتب روايته بإهدائها “إلى فرسان الأنوار العلوية في رحلتهم الأرضية”، قد يتبادر للذهن لأول وهلة أن هذا الإهداء غريب غير مفهوم، لكن بعد قراءة النص والتأمل به، يمكن للقارئ ان يستنتج ويفهم ما رمى اليه الكاتب، وبالطبع فإن القارئ المتفحص يضع نصب عينيه بضعا من الأسئلة ليحاول سدّ فجوات أحدثها الكاتب عمدا، بهدف تفعيل ذهن القارئ.
حبكة الرواية: صالح بطل الرواية الذي اقترب من الأربعين، عمل في مجال التدريس ثم دليلا سياحيا، بعد ذلك باحثا في مركز للدراسات، قام بمرافقة فريق تلفزيوني لتصوير فيلم وثائقي عن الرحالة والمؤرخ السويسري “يوهان لودفيك بركهارت” الذي وصل الى شرق الأردن مكتشفا مدينة البتراء في جنوبه (1812م)، تعامل القيسي مع هذا المكان بشكل جيد، واتخذ منه إطارًا ماديًا للأحداث المتخيلة، فحقق امتزاجا مكانيا عجائبيا بالحدث، حملت أحداثه حيزا مكانيا من السكون إلى عالم الدهشة السريالية، يتتبع صالح مع الفريق الأماكن الأثرية، وخلال إنتاج ذلك الفيلم، انفرد صالح عن الجميع وزلت قدمه، حتى سقط في حفرة قضى فيها ليلة صعبة بعد أن سد التراب ثغرة الحفرة، شعر بالإحباط واليأس وأن لا أمل بنجاته، راح ينظر إلى ما حوله ليكتشف أن الحفرة تنتهي إلى سرداب يؤدي إلى كهف يقود إلى مكان ما، ثم وجد إناء من الفخار يشبه الجرة فكسَرَهُ، فإذا فيه سائل كثيف حلو المذاق، قام بتذوقه، فانتابته حالة غريبة، وكأن شيئا ما قد تغير به، بدأ يشاهد ومضات من حيوات أخرى، عاشتها النفوس الأثيرية وانتهت إلى جسده، غاب صالح في حالة شبيهه بالهلوسة، راح يرى أشياء غريبة ويتخيل نفسه إنسانا آخر، تخيل حياة مختلفة بوقائعها، وكأن أحد أجداده قد عاشها في أزمنة سحيقة، تم إنقاذه وإسعافه من الكسْور الرضوض والكدمات، عاد الى مدينة الزرقاء حيث عائلته، لتعتني به، بعد ذلك جرت الأحداث وانقلبت حياته رأسا على عقب جراء ذلك، تَتالَت الأحداث الغامضة التي عصفت به، اجتهد في البحث عن تفاسير منطقية لما يحدث معه، وتورط بالتطرّف الديني من خلال بعض أقربائه ووقع فريسة له، بحث عن الخلاص في الكتب علّه يجد بلسما شافيا لما هو فيه، لم يساعده ذلك، لكن عمله مع فريق التصوير البريطاني، وعلاقته مع “أليس” دفعته للتمعن في الواقع والعثور على ضوء في نهاية النفق.
لجأ الكاتب إلى آلية خاصة لخلق نصه الأدبي وجعله متكاملا، لذا تزخر هذه الرواية بالبلاغة والجماليات اللغوية التي تبْهرُ القارئ، وظفها القيسي أجمل توظيف وخلق من خلالها عوالم جديدة مبهرة في الجوهر والعمق، وجاد علينا بما في جعبته من الألوان اللفظية، ولعل هذا ما شدني للوصول إلى آخر سطور في الرواية دون أن أفقد شغفي بلغتها ورغبتي بالقراءة، وذلك لما يسكن هذا العمل المتميز من سحر لغوي.
بعد قراءتي لهذه الرواية لمستها في أكثر من تصنيف، فقد تُصَنف بالرواية القوطية لتميزها بأجواء الغموض، والأماكن المهجورة فيها والمعتقدات والتلميحات التي كانت تسودها، وبعنصر التشويق الذي هيّمَن عليها، ووجود الأماكن الأثرية الأطلال والماضي الذي يخزن أسرارها، فجميعها كانت مسرحا للأحداث، الذي احتضن النص وشكل الرواية، وقد تُصَنف بالرواية الملغزة التي تُعنى بالمجهول وكلّ ما يحيط به من الغموض والأسرار، وتقود الى طرح الاسئلة والبحث عن إجابات، وقد تصنف بالرواية الفانتازية التي تطرح فكرة وجود كائنات خارقة، متحررة من قيود المنطق، معتمدة على الخيال بشكل كامل، حيث تقع أحداثها في عالم متخيل، لا يخضع لقوانين مادية فيزيائية طبيعية كعالمنا، إنما تصور عالماً خاضعا لقوانين ميتافيزيقية، متناقضا مع التجربة الواقعية.
إن ما يميّز “حيوات سحيقة” عن رواية فانتازيا عادية هو براعة الأديب في السرد، فأحداثها المتداخلة المتتالية تنقل القارئ الى من عالم الخيال، التشويق والإثارة، وتسعى لاكتشاف الغامض وفهم المجهول.
ناقشت الرواية العلاقة مع الثقافات الأخرى، الانفتاح على الآخر ونبذ خطاب الكراهية، وأيضا قصة الحب التي جمعت صالح بأليس وأيضا غاريث، ستيف ودوروثي، جميع هذه الشخوص أدت دورها بعناية وبرعت في شد القارئ، من هنا نجد أن الكاتب قد وصل بنا إلى نص أدبي متماسك، ومهنية سردية غير مألوفة، وفق أسلوب فنيّ حديث، فنسج حبكة جارفة ممتعة، غنيّة بالإثارة والتشويق.
وسوم: العدد 946