مشانق العتمة التي تروي واقعنا، حكاياتنا، آلامنا، أحلامنا
كنت قد رغبتُ أن أقضي يومي بصحبة كتابٍ يسرقني بعيدًا عن صخبِ الحياة، ولكن "مشانق العتمة" لم تمنحني ما كنتُ أصبو إليه! إذ قرأتُ كل سطرٍ منها بقلبٍ منفطر، وجدتُ جزءًا منّي في كل ضحيَّة، ما أبشع الحب حين يصبح مصدرًا للمأساة، مما يثير شهوة التساؤل المزعج بيننا وبين أنفسنا، هل كان هذا من الأساس حبًا؟ ولماذا كل هذا قد حدث؟ وما أقسى الحياة حين تتفنَّن في إيذاءنا، فتعاقبنا بالفقد، وتسرق منّا ابتسامة الذين نحبهم وتعلَّقت بهم أرواحنا، كم وقفتُ أمام اقتباساتٍ من هذا الكتاب، وبكيتُ عندها حالي وحال كل فلسطينيّ يُعاقب بذنب فلسطينيته، فيُواجَه بالطرد والرفض من كل بلاد العالم، وحال كل سوريّ تقطَّعت به السبل، فقضى تحت التعذيب من أبناء بلده وجلدته، ولفرط ما أصابني البؤس قرأتُ وكأنني ألهثُ سريعًا، أبحثُ عن سطرٍ يختبئ فيه شيءٌ من النجاة.
أنهيتُ القراءة وأنا في حالٍ غير الحال، حزينة على سراب وجهاد وهاجر ويونس ومريد وحذيفة وفلسطين، ومذعورة من يزيد "هتلر" ومن السجن، قرأتُ وكأنني أعيشُ الأحداث مع أبطالها، لم يهزني كتاب عن واقعنا الأليم من قبل كما فعلت بي مشانق العتمة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر مؤخراً.
جسَّدَ لنا الأديب الفلسطيني الكبير يسري الغول مأساة واقعنا أيما تجسيد، بعيدًا عن التقليدية في السرد وطرح الفكرة، فمنذ البداية أدهشني العنوان، وربما وشى لي ببعض الأفكار، لكن فاقت توقعاتي، وباغتتني أحداثها، فقد تشعر في بعض صفحاتها أنك تقرأ قصة من قصص الرعب الخيالية، خاصة في نهاية الرواية حينما قام هتلر بإغراق المركب، ولكن سرعان ما تجد الكاتب قد عاد للخط الدرامي دون عناء، متمكنًا من أدواته، السرد رائع، متسلسل، سلس، اللغة سهلة تُقرأ بالقلب لا بالعين، الأسلوب مشوِّق، جذَّاب، بعيدًا عن الرتابة، فلم يتسلّل لي الملل لحظة أثناء قراءتي لسطور الكتاب، عدا بعض المواقف التي عانت نمط التكرار، وإن كنت أظن أن الكاتب قد تعمَّد تكرارها للتأكيد على أهميتها، لكن رغم ذلك حتى التكرار أدهشني.
أما الشخصيّات فقد كان الكاتب بارعًا في تجسيدهم وتفاعلهم مع الأحداث، وحتى اختيار أسمائهم التي جاءت مشابهة جدًا لواقعهم، ومعبّرة عن ذواتهم، وصراعهم في الحياة، فسراب كان حبها وهمًا، وتحول إلى سراب، وهاجر باعد القدر بينها وبين حبيبها وابنتها، ثم هاجرت برفقة زوجها الآخر، أما يونس فقد عاش رحلة من العذاب ولعلني أستحضر قصة سيدنا يونس وما عاشه من هجرة وخوف في بطن الحوت، فكان مصيره مجهول، أما الحبكة فهي سهل ممتنع، لأحداث مختلفة تضافرت في النهاية لتجمع مَن عاش من الشخصيات على مركبٍ واحد ومصيرٍ واحد.
كما تطرَّق الكاتب لطرح معلومات قد تكون حساسّة وجريئة، ربما تردّد الكثير في طرحها من قبل، ولكن وجدنا الكاتب قد أزال اللثام عنها دون إسراف فكل كلمة كانت حق، وفي موضعها تمامًا، ولم يبالغ، كوني أعيش في مجتمعٍ يتحدث الكاتب عن واقعه المأساويّ أعلم جيدًا أنه لم يبالغ، وأعرف أن الروائي الغول يعرف أنه سيدفع ثمن ذلك من حريته وحياته.
استخدم الكاتب كلمات من واقعنا الأليم، لعلَّ البعض يجدها مآخذًا عليه، لكنه يروي واقعًا، ويتكلم بلسان أهل الشارع، بعيدًا عن المثالية أو النمطية في ظل تطور لغة الرواية ووصولها لمرحلة ما بعد الحداثة.
هذه الرواية جرعة مُركِّزَة من الألم، وفيها من الحزن ما لا يُعبَّرُ عنه بالكلام، إنَّهُ يُبْكَى فقط.
وسوم: العدد 947