الأطياف الأربعة، دراسة وتقديم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد..
فكثيرة هي الأسرات العربية التي عُنِيَت بالأدب، فتواتر اهتمام أفرادها بالأدب في أنواعه المختلفة، إبداعًا )شعرًا ونثرًا(، ودراسة، ونقدًا، فمن قديم انتقلت موهبة الشعر من الأب إلى عَقِبِه، وقد قيل قديمًا: (( إن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهل بن ربيعة، وإنما سمي مهلهلاً لهلهلة شعره، أي رِقَّته وخِفته ))- العمدة 1/75 .
والمهلهل هذا كان أول من قصَّد القصائد، قال الفرزدق:
ومهلهل الشعراء ذاك الأولُ
وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي الشاعر، وجَدُّ عمرو بن كلثوم الشاعر )أبو أمه( . ومن ربيعة أيضًا )المرقشان، والأكبر منهما عم الأصغر، والأصغر عــم طــرفة بــن الـعــبد)- العمدة 1/76 . وكان من نسل عمرو بن كلثوم الشاعر كلثوم بن عمرو العتابي.
وقد اشتهرت بخلاف ربيعة قبائل أخرى بكثرة الشعراء كهذيل وبني عامر وتميم ثم طيّئ، أما هذيل فقد قال فيها حسان بن ثابت : )أشعر الناس حيَّا هذيل( - العمدة 1/77 . ومن شعرائها: أبو ذؤيب الهذلي، وأبو خراش والمتنخل .
ومن بني عامر اشتهر من الشعراء: أبو حية النميري، والراعي النميري، وتوبة بن الحميِّر، وجران العود، والقتال الكلابي، ويزيد بن الطثرية، وليلى الأخيلية والعامرية.
ومن تميم كان جرير والفرزدق.
ومن طيئ اشتهر الطائيان أبو تمام والبحتري.
وقد قيل قديمًا: (( ما اتصل الشعر في ولد بالجاهلية بمثل ما اتصل في ولد زهير؛ إذ من أولاده كعب وبجير الشاعران، ومن نسل كعب كان الشاعر العوام بن عقبة بن كعب بن زهير.. وما اتصل الشعر في ولد من الإسلاميين اتصاله في ولد جرير فكان من ولده بلال أفضل أبنائه وأشعرهم)). (ولبلال عقب منهم عمارة بن عقيل بن بلال، وكان شاعرًا مجيدًا فصيحًا عاش في الدولة العباسية، وروى عنه كثير من الأدباء والرواة واللغويين( - جرير حياته وشعره للدكتور نعمان طه 124 .
وفي ولد جرير أيضًا نوح وعكرمة وكانا شاعرَين، ومعروف أن حذيفة الملقب بالخطفي جد جرير كان شاعرًا هو الآخر، ومن شعره المستملح:
عــجـبت لإزراء العيِيِّ بنفســــه = وصمتِ الذي قد كان بالقول أعلما
وفـــي الصمت ستـر للعيِيِّ وإنما = صحيفــةُ لُبِّ الــمرء أن يــتكلما
وفي مصر في العصر الحديث، وبفعل الوراثة والتربية والبيئة اشتهرت بعض الأسرات بالاشتغال بالأدب، وربما أضيف إليه الاشتغال بالسياسة أو الصحافة، ومن تلك الأسرات أربع شهيرة هي: الأسرة ((التيمورية ))، و ((البستانية ))، و ((الأباظية ))، و ((الرافعية )) .
وتعمل الوراثة عملها في تشكيل ملامح شخصية الإنسان، أما البيئة والتربية ف)تنميان فيه الملكات الموروثة، وتساعدانه على اكتساب خلائق جديدة، فقوى الإنسان الذهنية إذن موهوبة ومكتسبة( - أشهر الأسرات الأدبية في مصر لنجيب توفيق.
عرف العرب إذن في القديم والحديث الأسرات الأدبية، لكنا لم نقف في التاريخ قديمه وحديثه على مؤلف أدبي واحد اشترك في تأليفه إخوة إلا ما كان في الخالديَيْن قديمًا، وآل قطب حديثًا.
أما الخالديان ((نسبة إلى الخالدية من قرى الموصل بالعراق )) وهما : أبو بكر محمد بن هاشم الخالدي المتوفى نحو 380 هـ وأخوه أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي المتوفى في حدود 400هـ، فقد اشتركا في تصنيف كتب منها:
- ((الأشباه والنظائر)) المعروف ((بحماسة الخالديين)) أو ((حماسة شعر المحدثين)).
- ((أخبار أبي تمام ومحاسن شعره)).
- (( أخبار الموصل)).
-( أخبار شعر ابن الرومي)).
- ((اختيار شعر البحتري وكذا شعر مسلم بن الوليد)).
ويذكر أنهما كانا يشتركان في نَظْم الأبيات أو القصيدة فتنسب إليهما معًا، وكل ما وصل إلينا من مؤلفاتهما أو ورد عنهما من رواية أو شعر في المجاميع أو الكتب الأدبية كان مشتركًا بينهما، لا يختص واحد منهما بشيء دون أخيه، ولذا لا يمكن لباحث أن يتكلم عنهما إلا مجتمعَيْن.
يراجع في ذلك: الفهرست 1/169 ، سير أعلام النبلاء 10/215 ((طبقة الصفا بمصر)) والأشباه والنظائر )المقدمة) بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف.
الأطياف الأربعة.. أُخوّة النسب والأدب
وفي العصر الحديث لم أعرف فيما وصلني أسرة واحدة وقد اشترك أبناؤها في وضع مؤلف واحد سوى آل قطب، حينما اشتركوا في تأليف «الأطياف الأربعة » وهو كتاب ألفه الإخوة: ((حميدة )) و ((أمينة )) و ((محمد)) و ((سيد قطب)) ، أخرجوه لأول مرة عام 1945 م ويحوي (41) نصًا أدبيًا ونثريًا.
ويُعَرِّف بهذه الأطياف الأربعة سيد قطب فيقول : )صبية وفتاة، وفتى وشاب( .
والمجموعة الإبداعية تستمد عنوانها هنا من مبدعيها، لا من إبداعهم، فليس في نصوص المجموعة ما يحمل عنوانها، على عادة الشعراء والقصاصين الغالبة، حين يجعلون عنوان الديوان أو المجموعة القصصية عنوان إحدى القصائد أو أهم القصص تعبيرًا عن رسالة المبدع أو مقصد القاص.
والأربعة هم إخوة في الشعور وإخوة في الدم، ألقت هذه الأخوة الإيمانية والفكرية بظلالها الوارفة على مضمون نصوص المجموعة، ونصوص الأربعة هي أطياف أيضًا، يعرّف بها وبهم سيد فيقول: )أولئك هم الأطياف الأربعة، وهذه خطراتهم في كتاب. إنها عصارة من نفوسهم، وظلال من حياتهم. إنها أطياف الأطياف!( - ص 44 من الأطياف الأربعة.
ومع أن ((سيد )) هو رائد الأسرة وكبيرها الذي أشربها حقيقة الإسلام وألهمها حب الأدب، وفتح لأفراد الأسرة أبواب المجلات التي ترأَّس تحريرها ليكتبوا فيها كغيرهم من الموهوبين، فإن نصوصه بالأطياف ترد في النهاية، وتتقدم نصوصُ الصغرى ((حميدة)) ، تليها أختها الكبرى ((أمينة )) .
وفي تقديمهما على الأخوين الكبيرين ما يشير إلى حنو الرجلين على أختيهما، ورعاية رائد الأسرة لأختيه الصُغْرَيَيْن. والحقُّ أن رائدات الأدب النسوي في مصر، ومنهن ((حميدة )) و ((أمينة ))، تلكما اللتان تجاهلتهما معًا كل دراسات الأدب النسوي المصري، تجمع جميعهن حقائق ثلاثة هي:
1- أنه كان وراء كل امرأة عظيمة رجل.. رجل سبق عصره، وآمن بالدور الذي يمكن أن تلعبه ابنته وزوجته، وأؤكد هنا خاصة على دور الأدب..
-2أما الحقيقة أو الملاحظة الثانية، فهي دور البيئة في بروز هؤلاء الرائدات؛ فقد كن جميعًا ينتمين إلى مستوى اجتماعي رفيع أو على الأقل فوق المتوسط، وهو ما يسّر لهن اهتضام العلم واحتراف الكتابة.
-3أما الملاحظة الأخيرة المشتركة بين كاتباتنا، فهي أن الكتابة للصحافة كانت عنصرًا مشتركًا بينهن - رائدات الأدب النسوي في مصر لأميرة خواسك 12، 13 .
والأختان لم تتمتعا فقط بالتقديم الشكلي في هذا الكتاب، وإنما أفسحت الأطياف لهما مساحة الإبداع التي وصلت بنصوص ((حميدة )) إلى 13 نصًا كاملاً، ولئن فاقت عنوانات نصوص ((سيد )) الجميع فكانت ثمانية عشر عنوانًا كاملة، فإن مدى إبداعه لم يصل إلى نصف مدى ((حميدة ))، فهي الأطول منه نفسًا والأقدر على السرد والحكي،تشبهها في ذلك وربما تفوقها الأخت ((أمينة))، فمداها الإبداعي هو الأطول بالأطياف، إذ يتجاوز بنصوصه الستة فقط مدى ((حميدة)) بقليل، أما ((محمد قطب)) فبنصوصه الأربعة يحتل المرتبة الثالثة في التراتب الشكلي، وفي المدى الإبداعي، فهو الأطول من سيد مع كثرة نصوص الرائد صاحب الظلال.
الأطياف الأربعة إذًا إبداع أسري، فيه الذاتي والقصصي، والفلسفي والفكري، وفيه القصة والخاطرة، ويغلب عليه أن يكون أدبًا متميزًا، فالأطياف الأربعة تنتمي إلى الأدب في غالبها، عدا ما كتبه ((سيد )) فيها، فهو من الأدب الرفيع كالشعر المنثور، ويغلب عليه أدب الخاطرة التي تتميز بالإيجاز والعمق في التعبير عن الفكر والوجدان. ويمتاز ((سيد))عن إخوته بأشياء، ويشاركهم في أشياء، واتفاقه معهم وامتيازه عنهم هو اتفاق وامتياز فرضتهما معًا ريادته للأسرة فكريًا واجتماعيًا؛ فهو الأب الروحي والراعي الرسمي الذي مثَّل لهم الأسوة في الشدة والرخاء.
إن الأطياف الأربعة تنتمي حين تنتمي إلى الأدب، أدب الطهر والتطهر، وإلى أدب البَوْح الذاتي، وفيها يختفي الحوار إلا قليلاً، ولغتها ساردة متدفقة وأحداثها بسيطة، تكاد تتكرر بين الأطياف الأربعة، والشخصيات القصصية فيها قليلة لا تتجاوز أفراد الأسرة إلا نادرًا.
الأطياف الأربعة والحب العذري
يقول ((محمد قطب)) في ((في الامتحان)) عن قصة حب من طرف واحد، تتصل بأيام المراهقة، وتنكشف عن موهبة أدبية، وواقعية تعبيرية، وكذلك تكشف عن علاقة العاطفة بالأدب عند الأطياف في الأطياف؛ إذ العاطفة الصادقة هي مرتكز الإبداع الأدبي لديهم، وهي قوامه الأساسي كملمح من ملامح رومانسية الأدب عندهم.. يقول:
)ولكنه اليوم يحس بحاجة قوية إلى التعبير عما في نفسه من أحاسيس، فما يطيق أن يحبسها في إطار صورة.
وما جاء وقت الغروب حتى كان في طريقه إلى المتنزه وبيده ورقة وقلم، وجلس إلى شجرة منعزلة يكتب شعرًا في أيام الامتحان( .
والأستاذ محمد قطب في )بين السماء والأرض( يحكي عن الحب أيضًا، حب السماء الطاهر وحب الجنس الأرضي، وعن عذابات المحبين بين هذا وذاك.. أما هو فحبه عذري، يراه حافزًا على الإبداع، وحاجة ماسة من حاجات النفس الشاعرة.. التي لا ترى في التعبير عن دخيلة مشاعر النفس عيبًا أو حرجًا، طالما التزم فيها العفة، خلق العربي قديمًا، كما قال عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي = حتى يواري جارتي مثواها
إن المسلم الأصيل في حبِّه مترفع عن الصغائر، يُعنَى بحركة الوجدان والروح لا بنداءات الجسد وشهوات الرغبة.. يقول محمد قطب ولا يقصد إلا نفسه:
(لقد كانت في نفسه منذ طفولته الأولى صوفية تحتمل الألم وترضى بالقليل! صوفية تتحكم في عواطفه جميعًا حتى الحب.. وكله أنانية واندفاع.لقد كان حبه كالعابد المتصوف الذي يجد لذته الكبرى في العبادة ذاتها، لا فيما يتلقاه لقاء هذه العبادة من جزاء!(
والحب عنده على هذا النحو تناغم روحين لا نداء جسدين.. والحب مثير إبداعي لا تقدره إلا نفوس المبعدين.. يقول:
...) ولكن لم يدخل في تقديره وهو يتمنى ذلك أي تفكير حقيقي في الزواج، وإنما كانت أمنية فنية كان يتخيل حياته وهي تزامله في العيش خيالاً يجلّ عن الزواج، وعن أي رباط يدخله في الجسد من قريب أو بعيد، زمالة روحية جميلة، وهو وهي في دنيا الأحلام، في وادٍ تهمس فيه الأرواح).
الحب بالأطياف إذن خط أصيل جامع، شريطة أن يفهم على حقيقته فيها كونه حبًا طاهرًا عفيفًا، وهو يذكرنا هنا بأديب الإسلام الفذ في العصر الحديث مصطفى صادق الرافعي، حين قال:
قلبي يحب وإنما = أخلاقه فيه ودينه
فالحب حاجة بشرية أساسية، ولئن دنّسهَا التغريبيون في كتاباتهم، فإن للأدباء الإسلاميين نظرتهم الراقية لتلك العاطفة السامية، يقول الرافعي : السحاب الأحمر 32 .
) لا سمو للنفس إلا بنوع من الحب مما يشتعل إلى ما يتنسّم، من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تعزه، إلى حب الإنسانية في صديق تبره، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانًا فأجللته وأكبرته ( .
وإذا تحدثنا عن دلالة الطيف والأطياف من الوجهة الأدبية فكلاهما لفظ )يوصف بالمدح.. ولمدحه وجوه متشعبة، فمما يمدح به أنه يعلل المشتاق المغرم، ويمسك رمق المعنى المسقم، ويكون الاستمتاع به ، والانتفاع به.. وربما يذم بأنه سريع الزوال، وشيك الانتقال، وبأنه يهيج الشوق الساكن، ويضرم الوجد الخامد، ويذكر بغرام كان صاحبه عنه لاهيًا أو ساهيًا( - طيف الخيال للشريف الرضي، 4 الصيرفي 5 ، 7 .
والطيف هكذا حالة تلم بالمحب، وهي بديل عن الرؤية البصرية، يقنع بها المحب من رؤية أحبابه؛ إذ لا سبيل إلى ما فوق ذلك، لبعد ما بين المطيف، والمطيف به، وهي الحيلة التي ربما قنع بها المحبون، ولا يكون ذلك إلا بالانشغال الشديد من قبل المحب )المطيف به( تجاه المحبوب )المطيف(. يقول ابن حزم الأندلسي الظاهري في ((طوق الحمامة )) تحت عنوان : ((القنوع))
)إنه لابد للمحب إذا حُرم الوصل، من القنوع بما يجد) .
وعن الطيف يقول ابن حزم شعرًا:
زار الخيال فتى طالت صبابته = على احتفاظ من الحراس والحفظة
فـبـت فــي ليلتي جذلان مبتهجًا = ولـذة الطيـف تنسي لــذة اليقظة
يذهل الطيف أصحابه إذن عن النزعة المادية )اليقظة( ليكونوا روحانيين عذريين، وأظن ذلك لا يكون إلا لنفوس متأملة مفكرة، قليلة الكلام، ذاهلة عن دنيا الناس، متطلعة إلى عالم راق طاهر عف نقي تقي.
إن هذه العفة والتقوى نراها واضحة جدًا عند الأربعة، ومن دلائلها عند ((محمد قطب)) قوله عن محبوبته في ((بين السماء والأرض )) :
) تلك الصورة الفاتنة حرم مقدس لا تصل إليه غرائز الأرض ولا تستطيع أن تعيش في عالم الأجساد ( .
إن أحلام الأطياف جميعها تأتي نقية عفيفة، هكذا يريدها الأربعة، يقول ((محمد)): )وأحسَّ بالنفور من التجربة يكاد يخنق أحاسيسه...
ثم حدث ما أفسده عليه نفسه وأمرَّ طعم الإحساس بين جنبيه.
رأى حلمًا يتصل بالجنس من قريب. ورآها فيه، ومع أنها لم تكن هي المقصودة بالحلم، إلا أنه ثار وغضب من نفسه غضبًا شديدًا، لمجرد اقترانها بهذا الحلم، وعَدَّ ذلك جُرمًا لا يعتذر عنه ولا يتسامح فيه.
لقد كان يفخر في نفسه بأنه لم يرها قط في حلم كهذا منذ أحبها حتى اليوم وكان يرى هذا من معجزات هذا الحب المجيد الصاعد في السماء) .
الأطياف الأربعة.. توافق واختلاف
والأطياف الأربعة تجمعها متشابهات وتفرقها اختلافات، وذلك لطبيعتها المتفردة؛ إذ هي إبداع أسري لواحدة من عائلات مصرالمجاهدة الأديبة التي انشغلت بالإصلاح والفكر بصيغة إسلامية راشدة مستنيرة، وخلفية محافظة جادة وحالمة في آن واحد.
فلئن كانت الأطياف تجمعهم كما يقول ((سيد)) في التقديم )تعريف(
)إخوة في الدم، إخوة في الشعور
كلهم أصدقاء، وذلك هو الرباط الأقوى
إنهم يقطعون الحياة كأنهم فيها أطياف
هم أنفسهم، كل ما يملكون في الكون العريض!(
إنهم يفترقون فيها لاختلافات بدا ((سيد)) خبيرًا بها، التمس حقيقتها على الطريقة العَقَّادية في التحليل النفسي لمن درسهم من الشعراء والمبدعين والقادة، فوقع ((سيد)) على المفتاح الخاص بكل واحد منهم، يُعرِّف بالأربعة: الصبية الناشئة ((حميدة ))، والفتاة الهادئة ((أمينة))، ثم الفتى الحائر((محمد))، وأخيرًا معرفًا بالشاب الشارد ((سيد)) يقول:
)أحد هذه الأطياف: تلك الصبية الناشئة، إنها موفورة الحس أبدًا،
متفزِّعة من شبح مجهول
إنها تعبد الحياة وتخشاها
إنها تتلفت في ذعر كلما تفرَّست في المجهول
أحد هذه الأطياف تلك الفتاة الهادئة
إنها سارية في الماضي، لا تكاد منه تعود.
وأحد هذه الأطياف، ذلك الفتى الحائر
إنه دائم التجول في نفسه ومنحنياتها.
يفتش فيها ويتأملها، ولا يسأم التأمل والتفتيش
إنه يحلم في اليقظة، ويستيقظ في الأحلام!!
وأحد هذه الأطياف ذلك الشاب الشارد
إنه عاشق المُحال.
إنه يطلب ما لا يجد، ويسأم من كل ما ينال
وإنه بعد ذلك كله - للوالد والأخ والصديق لأولئك الأطياف أولئك هم الأطياف الأربعة( .
هذه الفروق الوجدانية ألقت بظلالها على الأطياف، أو هي مظهر الخلاف بين الأطياف، لقد جاءت الأطياف الإبداعية متسمة بالاتساق والانسجام، ومتصفة بالتميز والتفرد في آن معًا، ففي نصوصها من التشابه والممايزة مثل ما بين الإخوة الأشقاء من توافق كبير واختلاف يسير.
حميدة.. الطيف المغترب
أما ((حميدة )) صغراهم التي أكبروها بتقديم نصوصها على إخوتها فتحتل فاتحة الأطياف، فتبدو في نصوصها الثلاثة عشر، مسافرة في الماضي وإلى المستقبل بسموها ورقتها وحالميتها، تحيا مغتربة عن دنياها، ثائرة ، مشغولة بالموت؛ إذ عرفته حائلاً مانعًا بينها وبين من أحبت )أمها(، كما تبدو مشغولة بأفاعيل الأيام في الإنسان، وبفكرة الفناء كما في قصتها )غرور(، وفي قصتها )غربة( حديث عن شيء من الحرمان المعنوي والاغتراب والخوف والقلق، تقول:
) ولأول مرة أحست نفسي الصغيرة الغربة إحساسًا ساذجًا قويًا وانفجرت أبكي من جديد.
وخيل إليَّ أن أبقى هناك، ولكن الظلمة كانت قد بدأت تخيم على المكان، فتزيد وحشته نفسي الموحشة خوفًا وذعرًا، وانتفض جسمي وخُيِّل إليَّ أن مئات من الأشباح تخرج إليّ من الأركان المنزوية التي غشَّاها الظلام، ومن بعض الغرف المظلمة المتناثرة على السطح والتي كنت أخافها حتى في النهار( .
هذه المشاعر التي تنتاب ((حميدة)) تجعلها لا تطمئن إلى مكان، وكأنها تريد أن تنداح في الوجود الواسع الفسيح لتكشف المجهول أو تهتدي إلى المستور المطمور!!
ويبدو الأمل محورًا رئيسيًا في ((عبادة الحياة )) وفيها تقول:
)أيها القلب النائم اصحُ فإن الأمل يدعوك( ،
وتختتمها فتقول:
)وحينما تصحو الحياة كلها تهفو لأمل جديد
يكون ذلك الإنسان جثة هامدة بين التراب
إنه لا يعلم أبدًا أن الحياة ترقص وتهفو وتحنّ
وأن الربيع أعطى سحره لكل شيء في كرم وسخاء
وأن الكون المتعب يحلم بالحب والأمل والسلام(
وفي نصها ((في الليل)) تبدو حميدة متناغمة مع الكون كله، تحكي عن عناصره حكاية العاشق المستهام المحب لكل ما فيه، ولكل ما يصدر عنه، فتقول:
( إذ هدأ الليل، وغفا الناس، ونام الكون بين ذراعي ذلك الرب الرحيم، الليل كطفل بريء لا تدرس نفسه الصغيرة البريئة ما في الدنيا من قذارات، وكأن الليل يضم ذراعيه الحنونين على طفله الحبيب ليحميه وليشعره بالأمن والسلام، وبدت نسمات الربيع الزاهية الساحرة وكأنها تراتيل النوم للوليد الطاهر ينفثها من مزماره السحري ليبعث بها النوم إلى أجفانه المغمضة..وظهر القمر ذلك المصباح الخالد الذي يترك أضواءه تنساب في الدنيا وكأنها لحن ساحر من موسيقى خالدة( .
وذلك هو عين ما نجده في مفتتح ((في ضوء القمر)) إذ تقول:
)أيها الجو الحالم البديع، شكرًا لك؛ إن هذه السعة العجيبة التي لا تستطيع أن تحدها النفس لتغريني بأن ألقي إليك بنفسي جميعها وكل ما فيها من هموم( .
أمينة.. لغة الحنين
وتحكي ((أمينة)) عن أزمة سن الأربعين للمرأة.. وتبدو هي الأخرى راحلة إلى الماضي، كما في ((رحلة إلى الماضي)) وإلى ذكريات الطفولة كاشفة عن فعل الزمن، كما في ((خريف وربيع)) ، تعني خريف الأم التي هي على الراجح أمينة، وربيع الفتاة التي هي ابنتها، وفي ((رسول الفناء)) يبدو حنين أمينة إلى بيت العائلة الكبير عظيمًا، أما حرمان أهل الريف وبخاصة في الصعيد.. فيبدو ماثلاً وبقوة تستدرُّ دموع العين وأنين القلب كما في قصتها الرومانسية البائسة )ثياب العيد(، وهي القصة الوحيدة بالمجموعة التي تبدو غيرية لا ذاتية، تحكي عن أسرة أخرى فيما نفهم من أحداثها؛ إذ تبدو فيها الشخصية الرئيسية ابنة وحيدة لأسرة يكفلها الوالد ((عبد التواب)) الفلاح الأجير لدى الإقطاعي البخيل، ولها إخوة ذكور ثلاثة..
تبدأ ((أمينة )) قصتها بلغة شعرية رومانسية تحكي بؤس الأب الفلاح الذي يدهمه المرض، ويسحقه الفقر، وينهبه صاحب الأرض، فتقول: ( عندما مالت الشمس نحو المغيب، وأرسلت أشعتها الباهتة المتراقصة، رفع ((عبد التواب)) رأسه وهو يلهث، ثم انتصب قليلاً ووقف ليستريح مستندًا إلى فأسه، وأسبل عينيه لحظة في إعياء، وقد بدا على وجهه ذلك الاصفرار القاتم الذي يلازمه منذ أن نجا من مرضه الخطير، ولم يستطع أن يأخذ قسطًا من الراحة، وعاد إلى عمله المرهِق الذي يتقاضى عنه أجره الضئيل، وبعد أن بقي ما يقرب من أسبوعين وهو يستدين ثمن قوته وقوت أطفاله من زملائه ومعارفه طوال مدة المرض) .
وتبدو عقدة القصة في رمزيتها دالة على طبقية بغيضة ألقت بكلكلها الثقيل على نفوس عموم الشعب المصري إبّان الملكية، أما ((عبد التواب)) فحائر يتمزق من ضآلة ما يتعاطاه، وضخامة ما تتطلبه كفالة أسرة ذات أطفال أربعة يترقبون العيد لأجل ثياب جديدة.. لطالما وعدهم بها الأب البائس. تقول ((أمينة )) :
(وإنه لحائر.. لا يدري بماذا سيجيب دائنيه، وبماذا سيجيب أطفاله بعد أن وعدهم كثيرًا بشتى الوعود. لقد أصبح يرهب العودة إلى البيت، ويخاف أطفاله كما يخاف دائنيه. فهو لن يستطيع أن يوفّي لهم بما وعدهم من ثياب جديدة، وهو في هذه الحال من الضيق(.
إن صدق ((أمينة)) في هذه القصة تعبيرًا عن هموم الفلاح المصري من خلال طفولة أبنائه البائسين - ليستدر بحق دمعات الصادقين.. تقول بعد فشل مسعى الأخت الكبرى في تحصيل ثياب جديدة لأخواتها من زوجة البك الإقطاعي:
(ولكنها تمالكت نفسها، وانسلت من وسط الجميع، وأمسكت بيد أصغر أشقائها وتبعها الآخران وراح ثلاثتهم يتساءلون في ضيق ولهفة عما سيفعلون بعد أن لم تعطهم زوجة البك نقودًا ليشتروا بها ثياب العيد؟ ولم تستطع أن تجيبهم على أسئلتهم بغير كلمات قصيرة لم تُهدِّئ من ثورتهم ويأسهم، ثم حولت وجهها بعيدًا عنهم ومسحت بطرف كمها بعض قطرات الدموع) .
اما قصة ((أختان)) فتبدو متناغمة مع نهاية سابقتها؛ إذ تبدأ هكذا: ) لم تكد تمر بضعة أيام من رمضان حتى راحتا تستعدان لاستقبال العيد بكل ما في نفسيهما المتفتحتين من أمل واستبشار، فقد اشترى لهما والدهما ثياب العيد الجديدة الزاهية مع إخوتهما الصغار( .
وهي في رأيي القصة الأروع والأصدق، تحكي عن أختين متوافقتين مترافقتين )هكذا هما في كل شيء وفي كل عمل من الأعمال خارج الدار أو داخلها، فهما أختان في الأعمال التي تقومان بها، مثلما هما أختان في اللحم والدم( .
فرّق الموت بينهما باختطاف الصغيرة قبل عيد أعدا له معًا كل ما يلزم من ثياب جديدة وآمال عريضة، وتخطيط لقضاء يوم سعيد، فإذا بالوحدة تصطحب الكبرى في العيد، ويلف الحزن كامل الأسرة!
محمد.. فيلسوف الأطياف
أما الطيف الثالث ((محمد قطب)) فتشغله في نصوصه الأربعة قضايا العلم والحب والفن، ويتَّشِح أسلوبه بكثير من ملامح الفلسفة والتأمل العميق، بحيث بدا ولأول وهلة أسلوبه مختلفًا عن أختيه، وهو في حديثه عن الطفولة التي يراها المرحلة التي تشكلت فيها معالم شخصيته يبدأ طيفه الأول )من ذكريات الطفولة( بالحديث الهائم عن تلك الذكريات فيقول:
)ما أعذب أيام الطفولة!
لعلها أعذب أيام الحياة جميعًا، فما يزال الإنسان يعود إليها بالحنين وبالذكرى كلما مضى به العمر، فيجد في العودة إليها متعة عذبة، ويحس وهو يتسمَّع لهمسات الماضي ويتفرس في صوره الباهتة الغامضة أن هذا أعز ما عنده وأغلى ما يضم جوانحه عليه) .
وإذا كان أسلوب الأختين قد صبغته روح حياء وحالمية تناسب جدًا المؤمنات الخَفِرات، فإن أسلوب((محمد)) يبدو كأسلوب الفرسان النبلاء القادرين على التحدي ممن يمتلكون جسارة المواجهة والرغبة في الاكتشاف.. يحكي عن عبوره القنطرة التي تربط بين سطحي بيت العائلة الكبير واقتحامه المندرة المظلمة به، كاشفًا عن نفس جبلت على الإقدام والجسارة فيقول:
(ولكن الشوق المتأجج ظل يدفعه مرة حتى اعتلى القنطرة وسار عليها كالقط بيديه ورجليه، حتى وصل سالمًا إلى الضفة الأخرى، وقد كبرفي عين نفسه بهذه المخاطرة عدة درجات!
وكان في أسفل المنزل مندرة.. مخيفة.. حيث لا يستطيع الواقف أن يرى شيئًا مما حوله، ولكن الطفل العنيد دخلها مرة متحديًا، ولبث فيها بضع لحظات يغالب الخوف ويرتعش منه بدنه فلا يصرح به، وخرج بعد ذلك يعلن منتصرًا أنه لا يخاف من الظلام!
وكسب هذه المعركة، وشهد له الشهود).
وفي طيفه الأول كذلك يمكّننا ((محمد )) من الإمساك ببعض مفاتيح شخصيته، في مواضع تبدو قطعة من سيرة ذاتية تستبطن أغوار النفس، وتقرأ الوضع الحاضر في ضوء بذور أطياف الماضي، ومن ذلك إشارته إلى أمنيته صغيرًا أن يكون مهندسًا كهربائيًا، وكيف آلت رغبته هذه في تحليل الآلات إلى تحليل الشعورات فيقول:
)وكانت كل أمنيته في الحياة أن يصبح مهندسًا كهربائيًا حتى يغرق في هذه الآلات، ويطفئ شوقه الذي لا يرتوي، فلما امتنعت عليه هذه الرغبة تحولت طاقة التحليل الكامنة في دمائه إلى تحليل الأنفس والشعورات وأغرق في ذلك ليعوض بعض ما فاته من تحليل الآلات والكهرباء، وهي الطاقة ذاتها في الحالتين( .
والعلم عند ((محمد قطب)) في طيفة الأول ليس علم الغربيين الماديين الذين يهملون الغيب في التعرف على الحقيقة، لكنه علم مشفوع بالإيمان يتحقق به لصاحبه توازن الفطرة السوية، إذ )كان في نفسه إلى جانب هذا الشغف العنيف بالآلات وعالمها الملموس إيمان ساذج بالقوى الخفية التي تستطيع أن تغير ما تراه الحواس..
ذانك تياران قويان في نفسه يفترقان حينًا ويلتقيان حينًا، ولكنهما موجودان على بعد ما بينهما في الأصل والاتجاه.
فأحدهما إيمان بالواقع المحسوس، وانكباب عليه كأنه بناء الحياة الأوحد الذي ليس وراءه شيء.
والآخر إيمان بما وراء الحياة من قوى خفية، وهي أعظم أثرًا من ذلك المحسوس كله، وإن كانت لا تبين. إيمان بالعلم وإيمان بالخيال.
ومن هنا كانت فيه عقلية عالم دقيق البحث يؤمن بالمنطق ويحكمه في كثير من أفكاره وكانت فيه نفس شاعر، وروح متدين، وانطلاق روحاني لا يؤمن بالحدود والقيود) .
أما في )في الامتحان( فقضيته الأولى هي الحب، ولكنه حب الأتقياء من المبدعين، ليس فيه ما يشين. يحكي عن حبه فيقول:
)مضى الترام وبقيت هي.. هي الجميلة الفاتنة.
وهو ليس أحد سواهما على الرصيف.
دعتها تابعتها إلى الركوب، فهمت وتحركت إلى الترام، ثم نظرت إليه فإذا هو واقف لا تبدو عليه نية الركوب، فرجعت وقالت لتابعتها: ((روحي أنتي أنا هستنى)) !
في قلبه خفوق سريع عنيف، والدم يسري في أوصاله متدفقًا سريعًا، ولا يكاد يضبط أنفاسه، على فمه ابتسامة، وفي عينيه حب.. حب صارخ وصريح) .
ثمة ملمح آخر مهم يتمثل في أن الروح العلمية الاستدلالية الغالبة على ((محمد)) لازمته حتى في حديثه عن الحب، فإذا هو يتساءل ويستدرك ثم يستنتج فإذا هي.. تحبه، يقول:
)لماذا نظرت إليه حين لقيته؟ ولماذا مشت يسار تابعتها، فصارت إلى ناحيته؟ ولماذا لم تكتف بالنظرة الأولى؟ وماذا كان يحملها على اختلاس النظر إليه؟ وأخيرًا - وهو المهم - لماذا لم تركب مع تابعتها مع أنهما دائمًا تركبان معًا؟ ولماذا كانت نظرتها إليه قبل الركوب؟ ثم بقاؤها حين رأته لا يريد الركوب؟..لأنها تحبه.. ذلك هو الجواب الوحيد! (
وتمتاز أطياف ((محمد)) عن أطياف إخوته بظهور الحوار كتقنية أسلوبية على نحو أوضح كثيرًا منه عند إخوته. وكذا تنصيصه للشعر عن العقاد في ((هدية الكروان)) وبحديثه عن أثر الزمن في الفن والفنانين. أما الحوار ففي طيفه الثاني:
) في الامتحان ) يتحاور مع صديقه بشأن حبه لفتاة المترو على هذا النحو الممتد:
)قال له صديقه ذات ليلة من ليلات الصيف الحارة الثقيلة تعنو لها النفوس: أتعرف الفتاة ذات الوجه الإنجليزي الأحمر؟!
فخفق قلبه، وأنصت إلى الحديث، وقال يستعجل الصديق، وهو يخفي لهفته بجهد عظيم:
- نعم، أعرفها.. ما بالها؟
قال: وتعرف فلانًا كذلك؟
- نعم، أعرفه.. ما باله؟
- لقد رأيتهما يسيران معا ويدخلان إلى السينما مصطحبين.
فدارت نفسه ولم يعد يعي ما يقول.
ثم ضبط نفسه بجهد لم يلحظه زميله في ظلام الليل وسأل:
- متى كان ذلك؟
- أيام الامتحان!!
وذهل فما بقيت في نفسه ذرة واحدة متماسكة تواجه هذا الكلام العجيب!
أيام الامتحان؟!! أيام كان يلتقيان وتحدثه حديثها الفاتن. حديث الغرام؟ كيف؟ أهذا معقول؟)
وهو في طيفة الرابع ((الزمن)) يحكي عن فلسفة الزمن، وكيف أنه عدو الفنانين )لأنه يمثل التحول الدائم الذي يفضي إلى الفناء(..
وينقل عن العقاد قوله من )هدية الكروان( :
لحظة تمنح قلبي = كل هاتيك الهبات
لحظة ترفع عمري = حقبًا متصلات
لحظة لا بل خلود = لاح بين اللحظات
((هدية الكروان 65 وفيه بين البيتين 2، 3 بيت نصه:
رب عمر طال بالرفـ = ـعة لا بالسنوات
ويبدو التأثير العقادي على((محمد)) في باكر حياته ماثلاً، ربما متسربًا إليه من أخيه القطب.. ((سيد))، رائد الأسرة ومرشدها الأدبي.
وعن علاقة الفنانين بالزمن يقول ((محمد )):
)والفنانون قوم يصارعون الزمن؛ لأن فيهم هذا الشعور الأصيل في الحياة:
القوة المذخورة الدائبة في التكامل، وحين يعييهم الزمن في صراعه يتصورون لأنفسهم خلودًا لا زمن فيه، فيعيشون فيه لحظاتهم الفتية، ويكونون أقرب إلى ضمير الحياة.
تلك إحدى وسائل الصراع.
وهناك وسيلة أخرى هي ملء اللحظات القصار بألوان شتى من الأحاسيس، فتعوض ضخامةُ الإحساس قِصَرَ الزمن، ويشعر الإنسان في تلك اللحظات القليلة أنه عاش عمرًا كاملاً طويل الآماد( . هذه الفكرة هي عين ما نجده عند ((سيد)) في ((لحظة سعيدة)).
سيد.. الطيف الشاعري
أما ((سيد)) فيكتب أطيافه بخلاف إخوته ؛ فنصوصه هي الأكثر )18نصًا( ومداه هو الأقصر، وذلك لأنه شاعر يكتب القصة، قبل أن يكون قصاصًا، فأسلوب ((سيد)) في الأطياف أسلوب شاعر وصَّاف لا قصّاص، ويتميز أسلوبه بالاكتناز والإيجاز، وقلما تجاوزت قصته/الخاطرة، الصفحتين إلا نادرًا، كما في طيفه الأول ((أماه)) و ((الزمن الساهر))، و ((الفاكهة المحرمة))، وبعض أطيافه أسطر ستة فقط، كما في ((الحلم الضائع))، (( كتاب الحياة)).
ومن عنوانات ((سيد)) تبدو شاعريته حاضرة من مثل: الفاكهة المحرمة، في التيه، شيطان الحقيقة، الإله الطليق، الانسياب، الحلم الضائع. وهي عنوانات فيها غموض الشعر، وسحر أسلوبه، وقد بدت أطياف سيد كأنها الشعر المنثور - إن كان ثمة شعر منثور - وذلك في قوله في )الحلم الضائع( :
)حينما كنت أحلم مغمض العينين، كنت أتسخط على أشواك تؤذيني في هذه الأحلام.
فلما استيقظت وتفتحت عيناي، رحت أتحسر على تلك الرؤى بكل ما فيها من آلام،عندئذ حاولت أن أغمض أجفاني مرة أخرى، وأن أستعيد الحلم الذاهب مع الكرى. هناك سمعت هاتفًا من الأعماق:
هيهات أيها الواهم هيهات
إنه حلم واحد في هذه الحياة!(
و ((سيد)) بخلاف إخوته يؤرخ لأكثر أطيافه بالنهاية، ومع ما يبدو في هذا التميز من شكلية، ربما لا يُعنى بها كثيرون فإنها دالة على اهتمام ((سيد)) بالزمن واحتشاده للإمساك به على عادة الفنانين، كما ذهب إلى ذلك ((محمد)) في طيفه الأخير، فيؤرخ ((سيد)) لطيفه الأول في (12/10/1940م) أي قبل صدور الطبعة الأولى من الأطياف بخمس سنوات تقريبًا، ويؤرخ للطيف الثاني بعده بأسبوعين في (26/10/1940م) أما الطيف الأخير من تلك المعنونة )أماه( فيؤرخ له ب(1/11/1941م) أي بعد الأول بسنة وشهر بالتمام، وهي مسافة زمنية تكفي لتقرير الحضور الدائم لذكرى الأم الغالية.
وفي أطياف ((سيد)) حديث عن الفكر والفلسفة أو فلسفة الفكر، كما في ((شيطان الحقيقة)) يقول:
(إن قصارى ما تستطيع الحياة أن تهبنا إياه أن تبدي لنا الأشياء جميلة، فلماذا نُصِرُّ نحن على نبذ هذه النعمة بحجة البحث عن الحقيقة ؟ ألا ويحَ هؤلاء الفنانين في العالم الأرضي المحدود! إن الشيطان قد نفس عليهم نعمة الوهم التي منحتهم إياها السماء فجعل يوسوس لهم باسم الحقيقة، ليخرجهم من هذا النعيم الجميل، وهم يحسبون أنفسهم الرابحين!(
ومثل ذلك في )جناية المعرفة( يقول:
)إن الشمس لتشرق اليوم، وإن القمر ليطلع، وإن الليل ليرخي سدوله، والملايين بعد الملايين لا يرتاع منهم أحد إلا الأفذاذ القليلين.
تلك جناية المعرفة، وثمرة التجربة!
لقد ظل الإنسان ينفعل وينفعل كلما طالعته الحياة بوجه جديد حتى جرب وجرب وجرب وحتى عرف وعرف.. وهنا فقط أعظم ما يناله الحي من الحياة: التأثر والانفعال(.
وفي أطيافه أيضًا توحيد وإيمان يلقي بظلاله على نظرة ((سيد)) للكون، يقول في )الإله الطليق(:
)واأسفاه إنك أيها النور كائن محدود!
واأسفاه! لقد تقصَّيت مظاهر الكون، وحصرت أملي فيك - أيها النور - لأنك أنت الوحيد من بينها الذي كنت تخيل لي أنك طليق!
ثم ماذا؟ ها أنت غير طليق!..
أيهذا الإله العظيم إنني أحبك! أحبك لأنك ((غير المحدود)) الوحيد في هذا الوجود. أحبك لأنك الأمل الوحيد، حين يضيق بالحدود! (
و ((سيد)) هنا أقرب إلى استدعاء أسوته من جده ((إبراهيم)) (عليه السلام) حين سلك إلى التعرف إلى الله في الكون مصادر النور الكبرى، الشمس والقمر والكواكب، وفي أطيافه حديث عن حبه لشعر الحالات النفسية. يقول في ((الانسياب )) :
)لقد أحببت شعر الحالات النفسية، وآمنت به فترة طويلة، ولقد كان عندي لونًا من ألوان المثل الأعلى للشعر الجديد( .9
وفي الأطياف كذلك حديث ل ((سيد)) عن الحب بما يشير إلى تضحيات قدمها ((سيد)) رعاية لإخوته ((لقد أحب.. لكن لم تسمح له أحداث الحياة بالزواج )) .
فعاش مترهبًا لفكرته، مؤثرًا على نفسه إخوته، ودعوته ورسالته التي آمن بها واقتنع بجدواها وبذل عمره في سبيلها. يشير ((سيد)) إلى محبوبته على نهج العذريين، إذ ينظرون إلى المرأة كقيمة لا كجسد ، فيقول مشوقًا إلى ((الفاكهة المحرمة)) وهو عنوان له دلالاته على الرغبة وضبط النفس في آن:
)من هذه التي أتشهاها وهي مني قريبة، وأتمناها وهي على قيد خطوة، وأحلم بها وهي على مرأى ومسمع، وأدنو منها فلا أقترب ، وأملأ منها يدي، فإذا يداي منها فارغتان ؟
إنها الفاكهة المحرمة!
من هذه التي تلوح كالسراب، تظمئ الحس وتروي الخيال، وتطمع النفس ونيلها مُحال، وتتراءى قريبة مني أبدًا.. بعيدة عني أبدًا، كأنها خارجة من قيود الزمان والمكان؟) .
وفي طيفه ((الفتى المفقود)) حديث ضاف عن علاقة الحب بالإبداع، ف ((سيد)) لا يريد أحيانًا من الفتاة إلا أن تكون مصدر إلهام للإبداع ، ومفجّر طاقات التعبير الشعري، وهو لا يأسى على شيء أساه على ضياع لحظة الإبداع.. يقول:
(لست أنت التي أريد يا فتاة..
إنما أريد ذلك الفتى... الذي كان الدم يطفر في شرايينه. والبهجة ترقص في خاطره.. نعم أريد ذلك الفتى المغمض العينين الذي كان يراك بخياله حورية ساحرة، فإذا فتحهما مرّة فرآك إنسانة عابرة، عاد فأغمض عينيه فاستطاع أن يلقاك في الفردوس المسحور.
أريد الفتى الذي أفتقده في نفسي فلا ألقاه.
وعليه آسى كل الأسى لا عليك أنت يا فتاة!(
الحب عند ((سيد)) يعني الإبداع، قبل أن يعني شيئًا آخر، فهو ليس كالناس، أو قل: هؤلاء الأربعة ليسوا كالناس، إنما متسامون متعالون عن نوازع الأرض ونداءات الشهوانية إلى آفاق الروح ومحاريب الإبداع النقي.
وفي أطياف ((سيد)) ما يقرر ارتقاء أسلوبه عن إخوته إلى آفاق الإبداع الشعري القابض على لحظة الإبداع المتفردة التي يُمسك فيها المبدع بتلابيب حدث عارض عادي أو يومي، ولا يأبه له الآخرون، ولا يلتفتون إليه، أما الشعراء ممن يُحيون شعر الحالات النفسية فيدهشون لهذه
الأحداث، وكأنهم يوقفون الزمن.. لالتقاط كافة تفاصيل الحالة.. من ذلك احتشاد ((سيد)) لتصوير حالته النفسية التي عاشها عندما فتح نافذة حجرته لتدخل الشمس إليها بعد وعكة ألمت به.. يقول في ((لحظة سعيدة )) :
)كم في هذه الدنيا من أشياء جميلة، نفقدها كل يوم؛ لأننا لا نلقي إليها انتباهنا في اللحظة المناسبة. بالأمس كنت في حجرتي منفردًا. كانت أبوابها مغلقة عليَّ؛ لأنني في أعقاب توعك زال. وفجأة نظرت إلى النافذة المغلقة، فرأيت الشمس من ورائها توصوص لي بأشعتها.
لقد أحسست إحساسًا - غير متوهم - أنها تستأذن عليَّ في لهفة، أنها تود لو أسمح لها بالدخول. كانت كالصبية الغريرة في مطلع الربيع!
وما كدت أفتح لها النافذة حتى أشرق محياها الوضيء بابتسامة عريضة، وراحت تلقي بنفسها في فرح وشوق على أرضية الحجرة المتواضعة. كانت كأنها ملكة تتخفف من التقاليد!( .
إن صفاء نفس المعتل بدنيًا.. ربما سُئِلت عن هذه المشاعر الحالمة.. الروحانية الصافية، وربما كان التماس الإبداع من هذه الأحداث اليومية نزعة ديوانية، نلمسها عند جماعة الديوان بروادها الثلاثة شكري والعقاد والمازني.
الأطياف.. روح مشتركة وأربعة أقلام
أما مظاهر التشابه والتآخي بين نصوص الأطياف، فإننا مع فارق النوع بين حديث الفتى والفتاة، وفارق الخبرة والموهبة بين حديث الصبية والشاب - إننا نشعر أن الأطياف لمؤلف واحد، تتابعت نصوصه عبر زمان امتدت مراحله، وأماكن تعددت نواحيها، ليس غير،فنصوص الأطياف يجمعها من محاور التلاقي والشبه أكثر مما يفرقها من مظاهر التخالف والتباين.
-1 ذكريات مشتركة:
لقد اجتمع للأطياف الأربعة من وحدة الذكرى، وصفاء اليقين، وقوة المحبة، واتفاق الفكر، واتحاد التصورات، ومآسي الأحداث – ما وحد من طريقة التفكير وأسلوب التعبير.. فبدا إبداع أصحابها على اختلاف نوعه الأدبي، قصة كان أو ما يشبهها، خاطرة أو ما يشبهها، سيرة أو ما يشبهها - بدا لواحد لا لمتعدد، وبدت النصوص متعددة الألوان ضمن إطار الوحدة.
لقد جمعت ذكريات مشتركة الأطيافَ فألقت بظلالها على واقعهم.. وامتد تأثيرها في مستقبلهم، يقول ((محمد)) في )الزمن( عن الطفولة :
)الطفولة كلها حاضر قريب، وآمال واسعة تغمر الزمن المقبل وتفيض عليه فلا يبين( . وهم جميعًا لا ينفكون يتحدثون عن طفولتهم كأثر من آثار الحديث عن الأم الحبيبة، في حديث ملؤه التقدير والإكبار والإجلال؛ فالأم عندهم هي حاضنة الطفولة وراعيتها الرسمية. يقول ((سيد)) في((أماه)) الأولى وفي أسى بالغ لفقد أمه، خيط العقد الذي كان يجمع حياته هو وإخوته، فلما ماتت انفرط عقدهم وصاروا شتيتًا :
)لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء، وعلمت أنني لم أكن أنهض به وحدي، وأنني كنت أرعاهم وأرعاك؛ لأنني قوي بك، أما اليوم فالعبء فادح، والحمل ثقيل، وأنا وحدي ضعيف هزيل! إن الشوط لطويل وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضًا، وإن كنا نقطعه جميعًا) .
لقد نزل موت الأم بالأطياف كالصاعقة التي لا تهدأ، فأعقب في أرواحهم الكثير من اللهفة والحنين.. وربما الجنون، كما تقول ((أمينة)) في ((رحلة إلى الماضي)) :
)لون من الجنون أو من اللهفة أو من الحنين، سيطر على حياتها ونفسها منذ أن فارقت والدتها الحياة) .
إن موتها ليمنعهم من مجرد التردد على أماكن جمعتهم بالأم، فلا يقوى أحدهم على الذهاب إلى القرية أو بيت العائلة أو متنزههم بالقناطر الخيرية.. فها هي ذي ((أمينة)) تقول في ((رسول الفناء)):
( كلهم قد ذهبوا إلى القرية قبل عام واحد، أما هي فلم تذهب منذ سنوات وتحس أنها لن تقوى على الذهاب أبدًا، فقد ذهبت إليها قبل أن ترحل والدتها إلى العالم الآخر.. أما الآن.. فإنها تحس أنها لن تقوى على العودة إلى بيتهم مرة أخرى وهو خالٍ من هذا الوجه المحبوب) .
وها هو ((سيد)) مجددًا لا يقوى على احتمال فراق الأم.. فيتخيلها مازالت بينهم.. يقول في ((أماه)) الرابعة :
)ولقد فتحت حجرتك وتطلعت إلى سريرك مترقبًا أن أسمع صوتك أو أرى وجهك.. إنني لم أوقن بعد بأن حجرتك خاوية، وستمضي الشهور والسنون، قبل أن تلهمني هذا اليقين:
وكيف وكُلُّ ذرة في حياتنا ممتلئة بوجودك. وكل ذكرى تطل على الماضي، أو أمنية يجنها المستقبل، عليها منك ميسم، وفيها منك معلم؟ وهل تطيق يد الموت العاتية أو عجلة الزمان الطاحنة أن تطمس الماضي والحاضر والمستقبل كله في آن؟( .
بيت العائلة الكبير كان كذلك من ذكريات الأطياف المشتركة، تقول ((أمينة)) في((رسول الفداء)):
)وعلمت فيما سمعت من أخبار القرية أن منزل العائلة الكبير الذي بيع وهي ما تزال طفلة في الثانية والنصف من عمرها إلى أحد أقباط القرية، قد تهدّم جانب كبير منه بعد أن مات صاحبه، أهمله ورثته من بعده.. وأحست بهزة في نفسها لهذا الخبر( .
أما ((سيد)) فإنه يتحاشى زيارة البيت بعد موت الأم، حتى لا يتركها فيه وحدها إذا هموا بالرجوع!! يقول في نهاية ((أماه)) الثالثة: )إنه ليخيل إليّ لو نزحنا عن هذه الدار أننا سنخلفك هناك. ومنذا يطيق منا يا أماه أن ينزح ويخلفك هناك؟( .
وفي((من ذكريات الطفولة )) ل((محمد)) ما يؤكد أن الأطياف هي بعض سيرة ذاتية جمعية لأسرة مصرية عاشت للإسلام وأبدعت الأدب؛ إذ يتوافق ما قضته ((أمينة)) بالبيت ((سنتان ونصف)) مع ما قضاه ((محمد)) إذ يقول:
)وقد بقى في هذا المنزل من سن الثالثة إلى ما بعد السادسة بشهور قليلة حين جاء إلى القاهرة؟ فهو يذكره جيدًا ويذكر كل شيء فيه ، وهناك بين جدران هذا المنزل كل ذكرياته اليقظة عن حياته في القرية ، وهي قليلة في المدى المحسوس، ولكن لعل لها في نفسه أثرًا لا يمحى، أثرًا غير محسوس في اليقظة، وهو عميق في اللاشعور(.
المكان إذن له حضوره في الأطياف، وبخاصة بيت العائلة الكبير، ومزارات الأسرة وكذا الريف الذي يرتاح إليه الجميع، لذكرياتهم المشتركة فيه، ولجمال طبيعته، ولذا تذكره ((حميدة)) في ((غربة)) ، وتذكره ((أمينة)) في ((رحلة إلى الماضي)) و ((ثياب العيد))، ويذكره ((محمد)) في ((من ذكريات الطفولة)).
أما الموت، وربما لفاجعة موت الأب المفاجئ، ولموت الأم بالأساس، فتشيع في الأطياف رائحته، ويبدو وحشًا مخيفًا يختطف الأحباب، ويفرق الجموع المتآلفة. تعلق ((حميدة)) على موت الأب في (غربة( فتقول:
)إن والدي الذي أحبه وألقي بنفسي بين ذراعيه فيربت عليّ في حنان عميق.. قد مات!!
لم أكن أدري ما الموت؟ ولم أكن رأيت ميتًا قط، ولكني كنت أحس في أعماقي أن الموت شيء هائل مفزع مخيف. واستمررت أبكي ويعلو نشيجي حتى تختنق أنفاسي ولا أقوى على البكاء، فأصمت برهة لأعود إليه من جديد( .
وتعبر ((أمينة)) عن موت الأخت بلسع العقرب، فتقول في )أختان( : )وعندما تراهم يحملون نعش شقيقتها الحبيبة تتشبث به وهي تسألها:
- ماذا ستفعل وكيف ستنام في الظلام الذي خافته، وارتعدت منه منذ أيام؟ فلا تجيبها بشيء بل تمضي إلى مقرها المظلم وهي من خلفها تردد النداء..(
تشعر ((أمينة)) بقسوة الموت وتضاؤل الجميع أمامه، وحتميته على الأحياء، وكيف يخلف وراءه ندوبًا بالوجدان، أو صفاء بالأرواح، لكنه مؤلم مؤلم؛ إذ لا سبيل إلى صده أو مقاومته أو مساومته!!
-2العفة:
والعفة قاسم مشترك بين الأطياف، جميعهم عفيف: صغراهم والأكبر، كبراهم والأصغر.. أما ((حميدة)) فتلمس مشاعرها في حياء العذراء الخجول، فتقول في((غربة)) ما يشبه مشاعر المراهقة:
)ثم تنبهت من غفلتي فإذا أنا فتاة متيقظة منتبهة لكل همسة تدور في نفسي، ولكل إحساس يتراءى من بعيد.
وحينما كانت يد الزمن الساحرة تنضج بلهيبها الحار كل شيء في كياني وتنميه، كان أيضًا ذلك الشعور ينضج وينمو ويبرز من مكمنه قليلاً، ولكن حياة البيت الهادئة الرتيبة حيث أعيش مع والدتي وإخوتي، هؤلاء الذين تعرفهم نفسي وتألفهم وتأنس بهم، استطاعت أن ترد ذلك الإحساس إلى مكمنه حيث يقبع في الظلام فلا أراه) .
وأما ((أمينة)) فتحكي عن حياء امرأة الأربعين !! بما يقرر عفة الأسرة على كل حال حين تأجج المشاعر وفوران العاطفة، وحين نضجها واستقرارها.. هي امرأة لا ترى من المروءة إحسان هندامها أو زينتها خارج منزلها بالنظر إلى المرآة، تقول في ((المنوال المسحور) :
)ولقد اعتادت منذ زمن بعيد أن تذهب إلى المرآة عقب مجيئها من الخارج مباشرة لترى وجهها، وكيف كان في أثناء الطريق، إذ كانت تستنكف أن تُخرج المرآة من حقيبتها وتنظر فيها وهي جالسة في الترام أو في أثناء المسير).
و ((محمد)) هو أكثر الأطياف حديثًا عن هذه العفة، ومن ذلك ما ورد كثيرًا في ((بين السماء والأرض)) ومنها قوله :
)كل ما كان يحس به: هو أنه يحب حبيبته حبًا طاهرًا عفيفًا ساميًا، كما كان يكتب لها في مذكراته، وكان يحس بالزهو، لأنه يستطيع أن يحب مثل هذا الحب العظيم الذي لا تدنسه الأكدار).
-3الرومانسية:
ويجمع الأطياف رباط آخر مهم جدًا تسري ظلاله بطول الأطياف وعرضها وعمقها: ذلك ما يمكن أن يرد إلى الملامح الرومانسية كمذهب أدبي وافد استنبت لنفسه أرضية بالأدب العربي أوائل القرن الماضي، فتشيعت له جماعات أدبية وأدباء، ومن معالم هذه الرومانسية بالأطياف تلمح الاتجاه إلى القلب والانشغال بالعواطف والمشاعر والأحاسيس، والقلق، والتعلق بالجمال في بعديه البشري والطبيعي، والتغني بالحب، والحديث عن المحب البائس اليائس، وكذا الترفع عن الغرائز المادية، والحديث عن وحدة الوجود والارتكان إلى الطبيعة والهروب إليها، وبخاصة الجبال والاندهاش لليالي المظلمة والأطلال المتهدمة البائدة كما هي الحال في نظرتهم إلى البيت الكبير.
وتغلب الكآبة ومشاعر الحزن والتشاؤم على الأدب الرومانسي وهو ما نجد ظلاله وارفة بالأطياف التي يعمرها شيء من الانفصام عن المجتمع، وكذا دنو شبح الموت، أما لغتهم فمن رومانسيتها جاءت غير متعالية على المتلقي؛ إذ هي أحاديث وأرواح وخطرات نفوس قبل أن تكون، فيما عدا ما كتبه ((سيد)) ، ومضات فكر أو إشعاعات عقل.
الاغتراب والقلق والرومانسية
ويكفي للحديث عن الملامح الرومانسية بالأطياف التوقف حيال ملمحي الاغتراب والقلق؛ إذ بدت نفوس الأطياف قلقة لا تستقر على حال، مستنفرة لا تطمئن إلا حالما تقلق، هي نفوس حساسة شفافة، يبدو قلقها كأنه المرض، وما ذلك بحق، إنما هي نفوس رقيقة عاشت أجواء عاصفة.. في تقديم ((سيد)) الأطياف، يناجي أمه كاشفًا عن قلق يسودهم جميعًا فيقول:
) لقد مضينا في ذلك الكون العريض
نباتات ضالة ليس لها جذور
وأطيافًا هائمة ليس لها قرار
ما تكاد أقدامنا تلمس الأرض
حتى تتطلع بلهفة إلى السماء
حتى نتشوق إلى الأرض من جديد
وهذه أصداء حياتنا يا أماه) .
وتقول((حميدة)) في مفتتح ((إلى المجهول ) :
)دائمًا وفي كل لحظة في النهار أو الليل
حينما تنطبق شفتاها عن الكلام
حينما تضمها الوحدة في مكان
تحس في الأعماق شيئًا من القلق والاضطراب(
إنها نفوس طلعة إلى آفاق سامية تستشرف فيها نبلاً وسموًا وتعاليًا على تفاهات الأمور، وكأنهم يهتف بهم هاتف من غيب أن تعالوا من المجيء والعلو!
هذا القلق نلقاه عند ((أمينة)) في رحلتها إلى القناطر بعد موت الأم، إذ تقول في ((رحلة إلى الماضي )) :
)وراح القطار ينهب بهم الأرض نهبًا وراحت تنظر إلى الحقول والقرى ونسيت نفسها بين ما يمر أمامها من مناظر سريعة متلاحقة، غير أنها عندما اقترب القطار من محطة البلدة، تنبهت فجأة وتنبه إحساسها، وودت لو يعود بها القطار إلى القاهرة من جديد(.
والاغتراب يبدو في الأطياف مظهرًا من مظاهر القلق.. لكنه قلق الريفي بأخلاقه الفطرية النبيلة ساقته الأقدار إلى المدينة.. أو هو قلق اليتيم فارقته أمه الحنون الحبيبة، أو قلق المتسامي في أجواء التهافت والتفاهة.. الاغتراب بالإحساس - الغربة عن دنيا الناس يلف الأطياف من مفتتحها وحتى منتهاها، فأول الأطياف عنوانه (غربة(وفيه تقول ((حميدة )) :
)آه يا صديقتي لو تدرين ماذا أثارت في نفسي هذه الكلمة الصغيرة، كالغريب، إنها أثارت أشياء كثيرة وجعلت نفسي ترتد إلى الوراء سنوات ، وتتخطى الزمان لتعيش صورًا حية من الماضي لم تكن تذكرها وهي مجروفة إلى الأمام في تيار الحياة السريع( .
وتقول أيضًا:
)لأول مرة عرفت أنني لست من هذه المدينة الصاخبة الواسعة، وأن كل شيء فيها على نفسي غريب، وأنني سأظل غريبة فيها مهما عشت فيها من سنوات، وهناك في حنايا قلبي العميقة المتداخلة، حيث يقبع الماضي، حيث يقبع ماضي ذلك الماضي البعيد المتسرب في أغوار الزمن، ماضي الآباء والأجداد! هناك وجدت وطني الذي أحس فيه بالألفة لكل شيء ولكل إنسان).
أما ((سيد)) فيناجي أمه التي أحسَّ بالغربة المطلقة بعد موتها، فيقول في ((أماه)) الأولى:
)نحن اليوم غرباء يا أماه
لقد كنا وأنت معنا نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات، وكنا نشبه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها والتي ينبغي لها أن تكثر فروعها لتتقي الاندثار في غربتها. أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها، نحن الأفرع القليلة ذَوَى أصلها بعد اغترابها من تربتها، وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة.. بلا أم) .
-4الوفاء:
أما الوفاء فيبدو خلقًا أصيلاً متجذرًا بنفوس الأطياف، وفاء لذكرى الأم. ولقيم الريف المتسامحة، وللدين وقيمه، أما ((سيد)) فيراه الخالدي )رحمه الله تعالى في مقدمة أعلام المسلمين العلماء الرواد، لما اتصف به من صفات إيجابية، ولما قدمه من علم أصيل متين، ولما وقف به مواقف إيمانية رائعة، نابعة من إيمانه وصدقه وحديثه ووفائه( - أعلام المسلمين دار القلم السورية، بعنوان سيد قطب.
وأما ((أمينة)) فتحاول جاهدة وفاء لذكرى أمها أن تلتمس ظلال أمها في أي مكان.. تقول في ((رحلة إلى الماضي )) :
)وراحت تفكر بعد مضي عامين على رحيل والدتها في أن تقوم برحلات إلى الماضي، وأن تذهب إلى كل مكان كانت قد ذهبت إليه من قبل، فستجد هناك تلك الظلال الحبيبة، فتجدد بها الذكرى كلما حاولت يد الزمن أن تنسج عليها خيوط النسيان) .
وهو عين الوفاء الذي نلقاه عند ((أمينة)) لزوجها الشهيد ((كمال السنانيري)) وفيه تقول شعرًا في ديوانها ((رسائل إلى شهيد )) :
قلبت في صفحات عمرك علّني = ألقى من الأخطاء ما ينسيني
إشراقة الوجه الحبيب على المدى = منذ التقينا من عديد سنين
فتشت علَّ الذكريات تصدني = عنها وتهجرني دموع أنيني
فبحثت في عهد الشباب فلم أجد = عملاً معيبًا مخجلاً لجبين
عف اللسان وعن حديث هابط = تنأى وتبعد مؤثرًا لسكون
وهؤلاء الأطياف يفون لأبسط الأشياء أو الموجودات، فهذا ((محمد)) يؤلمه أن يطال البلى حذاءه الصغير.. ويعتبره من ذكريات طفولته العزيزة، فيقول:
(وكان له حذاء أصفر ((برقبة)) كاملة.. كان عزيزًا لديه جدًا، ليس في طفولته أعز منه، فيما لبس وفيما شعر بملكيته، ويذكر حين كبر قليلاً أنه صعد على السطح مرة فوجد ((فردة)) منه قد عملت فيها الشمس فحملها ونفسه تتقطع عليها حسرات، وحاول أن يعيد مجدها السالف فلم يستطع أن يعيده، وتركها آسفًا لا حدّ لأسفه، والدموع تكاد تهبط من عينيه) .
وما أظن ذلك الوفاء أسس على حرمان أو بخل، بل على نبل أخلاق، وطيب نفس، لا تستهين بأتفه الأشياء طالما كانت لها به صلة، وهؤلاء –لذلك- هم أبعد الناس عن الغدر بالرفاق أو التخلي عن المبادئ والأفكار.
-5براعة الوصف:
وفي الأطياف يبدو الأربعة وصَّافين على درجة عالية جدًا من البراعة في تصوير المشاهد بالاتكاء على الوصف.. التصويري، الذي لا يغادر ملمحًا وإن كان بسيطًا إلا وله ظل في التعبير بالوصف، يجسد المشهد..ويقف بالقارئ على التصور الصحيح. وشيوع الوصف بالأطياف على هذا النحو، ربما أسس على الغاية الدعوية التعليمية التي انْتَدَبَ الأطياف أنفسهم لها، وأوقفوا حياتهم عليها.. بلاغًا بليغًا.. وأدبًا رفيعًا، وهذا الملمح مشترك بين الأربعة، ومن ذلك: تخاطب ((حميدة)) الليل في ((عظمة الليل)) فتقول:
)أيها الليل الخالد، إن هذا الجو الناعس الذي أعيش فيه الآن، والذي يجذب نفسي ويدمجها فيه فلا أحس أنني شيء منفصل عنه، بل أنا جزء سابح فيه مع آلاف القرون.. هذا الجو وهذه الصفحة الهادئة قد كانا منذ آلاف القرون يسيران على هذا المنوال الساحر، يختفيان كل يوم مدة ليعودا بعد ساعات يضفيان على السماء والأرض ذلك الجو الفتي البديع) .
وتقول ((أمينة)) في ((رسول الفناء)) عن العجوز ببيتهم المتهدم الذي باعوه:
)وتبينا بعد قليل ذلك الشيء الذي برز من كوة الجدار، إنها عجوز في نحو الثمانين من عمرها في هيئة رثة غريبة ترتدي جلبابًا أسود فضفاضًا وتعصب رأسها الناصع البياض بخرقة سوداء تبدو مخيفة فوق رأسها الأشعث الشعر ووجهها الغائر العينين، البارز الوجنتين، المملوء بالتجاعيد والكهوف التي تشير إلى سقوط الأسنان من تحتها، وإلى مكانها الخاوي المتداعي، وكانت تمسك بيدها الناحلة البارزة العروق عصًا غليظة خشنة، وقد انحنت عليها فبدا تقوّس ظهرها المنكمش الضامر) .
أما ((سيد)) فيناجي أمه مناجاة الشعراء فيقول:
)وقد يفرح لي الكثيرون وقد يحبني الكثيرون: ولكن فرحك أنت فريد لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده، وحبك أنت عجيب؛ لأنه حب مزدوج: حبك لي وحب نفسك في نفسي.
أماه...
عندي لك أنباء كثيرة جدًا.. إنك ستسرين ببعضها، وتهتمين ببعضها،وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة إلا حين أقصها على مسمعك. ولكن هيهات فسيدركها الفناء الأبدي، وستغدو إلى العالم المطلق؛ لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى؟ ) .
41
خاتمة
وبعد.. فإن الأطياف نص أدبي إسلامي بديع، يغلب عليه الطابع القصصي، وفيه ما يتصل بأدب السيرة الذاتية وأدب الخاطرة، والأطياف - أدب في مجمل حديثه عن الحب - عذري رومانسي أصيل، والحق أن الأطياف لما تنل بعد حظها المستحق من التقدير والدراسة، ربما اتصل ذلك بواقع أدبي ابتعد عن الأدب الجاد الرصين في زمن غابر لمَّا تنقشع بعد غيومه انقشاعًا كاملاً.
ومن منطلق رسالة مركز الإعلام العربي وإيمانه بأهمية دور الأدب الملتزم في الارتقاء بوعي الإنسان وروحه ومساعدته على التسامي بأخلاقه والاستعلاء على دنيويته.. يأتي اختيار ((الأطياف الأربعة)) كنموذج لإبداع يسعى المركز إلى إحيائه، وإزالة التعتيم عنه، وتوظيفه في مدافعة الأعمال التي ينسبها أصحابها إلى الأدب زورًا، وهو منها براء.. فالإبداع الحقيقي قيم راقية تحتضنها لغة أرقى.. لا إسفاف وسطحية يتستران بحرية الإبداع التي كم ارتُكبت من جرائم باسمها في حق عقول وأخلاق وأذواق أبناء الأمة، وكم من الخطايا الأدبية تم الترويج لها بدعوى الحداثة.. وهنا صار على كل مؤسسة ثقافية واجب إحياء الأدب الملتزم، واستنقاذه من التجاهل المتعمد، واختلال موازين النقد والتقييم التي لا تُعنى إلا بالغث والرخيص، وتهمل السمين والنفيس الذي تمثل ((الأطياف الأربعة)) نموذجًا متفردًا له.
والسلام على آل قطب في الغابرين، ورحمهم الرحمن الرحيم في الأولى والآخرة.
والحمد لله رب العالمين
وسوم: العدد 947