في الجلسةِ التاسعة عشر منْ جلساتِ الصالون الأدبي فقد استضفنا وبكلّ اعتزازٍ شاعرًا منْ طرازٍ خاص، ومنْ نمطٍ مختلف، لن يتمَ تصنيفُ مكانتَه الشعرية على الأسسِ المتبعةِ في ذلك، أو طبقاً للمعاييرِ المعروفةِ فحسب، وهو أهلٌ لذلك أيضًا وإن قال دائمًا إنّني مجرد هاوٍ فلا تُسمّوني شاعرًا، ولكن تصنيفُه عندي يتمُ وفقَ شرف شعرهِ ورسالتهِ النبيلةِ وتميّزه الّذي لا شبيه له.
فليس لدينا في الأدبِ العربي الحديثِ، و ندر ذلك في القديمِ، شاعر مثل نوري سراج الوائلي، فإذا كان حسانُ بن ثابت شاعرَ الرسولِ، والأمامُ البوصيري شاعرَ البردةِ، فأنّ الوائلي (شاعرُ الرسالةِ) و شاعرُ الإسلام، في زمنِ خذلان الإسلامِ، والتكالبِ عليّه، شاعرٌ قابضٌ على جمرةٍ من النارِ، يعيشُ في بلدٍ يتآمرُ بعضُ ظلاّمه على الإسلام، شعرهُ شعرُ التميّزِ في زمنِ الإسفافِ ، والقيمِ في زمن الانحدارِ.
وإذا غفلَ بعضُ النقادِ عن شاعرٍ مثل هذا لاختلافِ نهجهِ وأغراضِ شعره ، فأنا والصالون نتشرفُ ونرجو إلى اللهِ التقرب ومنه القبول والثواب ، إذ تحتضنُ جنباتُ منصّتنا هذهِ قصائدَ شريفةً كقصائدِ شاعرِ الرسالةِ ، ونطمحُ أن يشملنُا اللهُ ببركته نوري الوائلي، الشاعر الذي اختار لنفسهِ هذا الخط، وندعو الله أنْ يجعلنا من خطهِ ، فهو المختلف في كلّ غرضٍ شعري عن كلّ شاعرٍ سبقه أو عاصره ، فإنّه عندما يتغزلُ في العيونِ أو الشفاه فهو ليس كالمتغزلين ، و إنّما يتشببُ ويتغنى بعيونٍ من نوعٍ آخر، ليس كعيونِ الحورِ أو الجآذر أو الجميلات تشبيبًا، بل يقول من قصيدته (أجمل العيون):-
وحتّى وأنْ وصفَ العيونَ الّتي يصفها الشعراء فإنّه يجعلها في آخرِ مطافِ القصيدةِ استدلالاً لخلقِ اللهِ، وجمالِ صنعه، حيث يقول في قصيدته (العيون الملاح): -
ولكي أثبتُ لك إنّ هذا الشاعر لو أراد أنْ يفعل كما يفعلُ الشعراءُ لما أعياه ذلك، سأوردُ لك هذه الأبيات من النص الغزلي: -
وبنظمٍ جميلٍ يزاحمُ الشعر جرسًا، ويطاولُ العلومَ درسًا، ويجعلُ المتشدقين خرسًا، يرّدُ على الملحدين المنكرين بقوله في قصيدة منظومة أسمها (الشكوك والالحاد)، وقد أخترت منها هذه الأبيات:-
وعندما يتناول سورَ التنزيلِ فإنّه كمنْ يشتغلُ بالتفسيرِ والتأويلِ، يقول من قصيدته المسماة (أقرا)
وله في الحكمةِ والنصيحةِ نصيب، فيقول في (أحذر قطارك مسرع)
أمّا في الاحتفال بلغتهِ الامّ التي يُعظّمُ قدرَها وهو المتحدّث منذ عقودٍ بلغةِ الأجنبي اضطرارًا، فانّه يقولُ في قصيدةٍ اسْمها (لهفي على العربي يترك أمّه): -
وحيث يتّخذُ الدينَ وشاحًا والقرانَ دليلًا فإنّه يستقي حكمتَه ومعانيه النبيلة منهما، فتراه في الحثِّ على التخفيفِ من أمر التعلقِ بالدنيا، يستفتحُ قصيده بآيةٍ من القران الكريمِ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) و (اولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَاهُمْ يُنْصَرُونَ) ثم ينشدُ واعظًا: -
و لذا فأنّي لا أعدّ الوائلي شاعرًا صوفيًا كما قد يظنُّ البعض، إنّما هو شاعر إسلامي متكامل، واسع، متعددُ الأغراضِ، كثيرُ الأهدافِ، محورها الدفاع عن الدينِ الحنيفِ وقيمه، أنظرْ إلى قوله في قصيدة (رجعية الدين )، حيث يردُّ على المنسلخين من دينهم إرضاءً لأعدائهم أو ادّعاءً للتحضّر:-
وقال في المشاعرِ الإنسانيةِ النبيلةِ واصفًا (حنان الامومة) وهو اسم القصيدة، والّتي أخترت منها هذه الأبيات:-
أمّا في نُصحهِ للمرأةِ المسلمةِ ودعمها لئلّا يُغّرر بها المتنطعون باسمِ الحريةِ كذبًا، فيقول مادحًا حجابَها:-
أمّا قصائده النبوية، وهو الشاعر المتفاني في حبِّ نبيهِ فهي لاتُعد، يقولُ عن إحداها: "بمناسبة ميلاد الرسول (ص) أنشر بعضَ الأبياتَ من قصيدتي الرسالة (خطوة لنهج البردة 240 بيتا) التي لم تنشر سابقًا. رزقكم الله شفاعته يوم الميعاد: - وقد قال يلخّصها
أما مطلعها فهو: -
ويقول فيها شاهدًا بالفضلِ لمن سبقه وبالتواضع على نفسه: -
ويضيف قائلاً: -
والسبب كما يبيّن: -
وفي التعليل يستطرد فيقولُ: -
وكنت أودُّ لو قال (يبري) بدلاً من (يحيي) لجهة وجود الألم.
وله قصائد مسجلة صوتيًا على اليوتيوب، سمعتُ بعضها، وأعجبتني منها (كبرياء التراب) يقولُ فيها:-
وفي مدحِ حبيبه وحبيبنا المصطفى يقول مرةً أخرى: -
وله قصائد نبوية أخرى من امثال (بذكر المصطفى):-
وعندما يتدبّرُ الوائلي في خلقِ اللهِ وآياته، فإنّه يعبّرُ عن انبهارهِ بكلماتٍ من وحي قرآنه جلّ وعلا، يقولُ في قصيدته (جمالُ النحل) الّتي يصفُ فيها بتفصيلٍ متمكنٍ معْجزةَ النحلةِ، الّتي خصّص لها القرآن الكريم سورة باسمها
وكتبَ عن الفايروس كورونا مرةً بنفسهِ الشعري القدري المتّعظ، فقال في قصيدة طاف الوباء: -
ومرةً كطبيبٍ مختصِ، رأى رفاقَه يتساقطون ضحايا لإنقاذ إخوانهم من بني البشر، في رسالتهِم الإنسانيةِ العظيمةِ، فوصفَ المرضَ وذمّه ومدحَ زملاءَه، ورثاهم، وأرّخ لتلك الأحداث قائلًا في قصيدته: -
وعن رمضان والصيام في زمن الوباء، فله قصيدة منها هذه الأبيات: -
وفي الزهدِ في الدنيا، يقولُ الوائلي من قصيدة طويلة اسمها (البحر)
وعن قصتهِ مع الحرفِ الشريفِ، والقصيدِ النبيل، يخبرنا بقصيدة أخترتُ منها: -
ولذا فإنّه يلومُ الشعراءَ، ويحاججهم، في إنّ الشعر يمكن له أنْ ينجح ويفلح دون الانجرار لأغراضه التي اعتاد على تشجيعها الناس، فيقول في إحدى قصائدهِ: -
وأخيرا فإنّ نوري الوائلي شاعر الالتزام، فهو الذي يقول: -
و في الختام فأنّي أرى إنّ الشاعر، وقد أكرمه اللهُ بهذه النعمةِ، نعمة الهدايةِ والطاعةِ والالتزامِ، حتّى أنّ له من أسمه نصيبٌ فهو (نوري سراج الوائلي) نورٌ وسراج، أقولُ إنّ شاعرنا بإذن الله هو ليس من الشعراءِ الّذين يتّبعهم الغاوون ، ولا من الذين في كلّ وادٍ يهيمون ، ولا من الذين يقولون ما لا يفعلون، هو من الذين آمنوا و عملوا الصالحات، بل – ولا نزكيه على اللهِ، وإنْ شاء ربّي كرمًا فإنّه وأيّانا من الناجين.
أبهى الشفاه شفاهٌ تنطقُ القيما = وأزينُ الأذن اذنٌ تسمعُ الحكما
واكرمُ العين عينٌ فاضَ محجرُها = عند السجودِ بقلبٍ يكتوي ندما
أرقى المعارف علمٌ فيه منتفع ٌ= واصدقُ القولِ فعلٌ يتبعُ الكلما
اسألْ عن الخلقِ الجميلِ فإنّه = خيرُ الضمانِ بدايةً وختاما
لا تعحبنّ من الجمالِ فإنّه = آياتُ ربّك تبهرُ الأعلاما
أسعى لسحرك يا مليحُ هياما = وأصوغُ مِنْ أوصافك الأنغاما
كحلاءُ ما صبغ الرموشَ تكحّلٌ = كالليلِ أطبقَ والسَّوادُ ترامى
نجلاءُ ما عرفَ الحسابُ مدادَها = فالكون ضمّته الجفونُ تماما
خضراءُ كالورق الطويل ربيعه = واللونُ زهواً فاضلَ الآجاما
وطَفُ الجفونِ إلى الحواجبِ آيةٌ = مثل النخيلِ على الضفافِ تنامى
فيها الجمالُ مفاتنٌ قد زانها = حسنُ الطباعِ وداعةً ووئاما
تعلو بها الأخلاقُ كلّ جميلةٍ = وحجابُها زادَ البهاءَ قواما
لا خيرَ في حسنٍ بدونِ تخلّقٍ = حتّى وإنْ ملكَ القلوبَ لزاما
أهلُ الجهالةِ لم يعوا التفسيرا = وتوهّموا في شكِّهمْ تبريرا
تاهوا بملتاحِ الشكوكِ كأنّهم = في فدْفدٍ يتوسّمون غديرا
فإذا بهمْ شربوا كغسلين اللظى = ماءَ الظنونِ مرارةً وسعيرا
يتخيّلون وجودَنا في وسعهِ = من صدفةٍ جاءتْ به تحويرا
لو كانَ بدءُ الكونِ قام بصدفةٍ = مَنْ أنشأ الأولى لها تسخيرا
كم صدفةٍ يحتاجُ خلقُ خليّةٍ = قد حيّرت في خلقِها التفكيرا
كيف الجمال وسحره قد أُوجدا = من صدفةٍ لا تملك التدبيرا
أوحى إليه كتابًا معجزًا حكمًا = للعدلِ يدعو وللتوحيدِ والقيمِ
أقرأْ هي الكلمُ الأولى وخاتمةٌ = لمنهجٍ مع روحِ العقلِ مُنسجمِ
منْ كلّ شيءٍ حوى ذكراً ومعرفةً =منْ كلّ آتٍ ومجهولٍ ومنصرمِ
أهلُ الفصاحةِ لم يأتوا له مثلاً =ولا سطوراً من الآياتِ والحِكمِ
لا ريبَ فيه ولا بهتانَ مُدّعيٍّ = ولا اختلافاً به في القولِ والنُظمِ
ما كانَ شعراً بما صاغتْ بلاغتُه = أو كانَ أضْغاثَ أحلامٍ لمُحتلمِ
مثلُ القطارِ هي الدنيا وأسفارُ= تسوقُها في ضبابِ الدهرِ أقدارُ
عند المحطاتِ تُرسينا مصائرُنا= ونتركُ الركْبَ والآمالُ أبكارُ
الناسُ موتى ودنياهمْ قبورهمُ= والصالحونَ بها أحياءُ أنوارُ
ما فازَ مَنْ يعشقُ الدنيا ويعبدُها= بلْ مَنْ يُطلّقها والدينَ يختارُ
إنْ ترجُ ربّك لا تقنطْ لنائبةٍ=للعسرِ يسران والرحمنُ ستّارُ
لا تعجبنّ إذا ما الله مُبتلِيٌ= إنّ البلاءَ إلى الإيمانِ معيارُ
لو صابك الفقْرُ لا تجزعْ لمعضلةٍ= إنّ المصائبَ للميزانِ إدخارُ
لغتي وهلْ في القولِ منها أجملُ؟ = أو في الكتابةِ والمعاني أكملُ؟
وإذا اللغاتُ كما النجوم تلألأت = لغتي المجرة نورها لا يأفلُ
كالتاجِ احرفها زهتْ ونقاطها = دررٌ لأركانِ الحروفِ تُجمّلُ
للشعر بحرٌ لا يحدّ مدادُه = وإلى البلاغةِ موردٌ لا يبخلُ
مَنْ بدّل الضادَ الجليل بغيره = فكمن شرى العالي بما هو أنزلُ
لهفي على العربي يتركُ أمَّه =عجبًا أمن لغة النبوّة يخجلُ
عربيةٌ لغتي وفخري إنّني = بالضادِ أنطقُ عاشقًا وأرتّلُ
أتأمَنَنّ لدنيا غدرها عمَمُ= والخيرُ فيها جوادٌ ما له قدمُ
لم تعطِ إلّا لمنْ بالذلِّ يصحُبها= حتّى إذا تمّم البنيانَ ينهدمُ
مثل العروسِ بهاء في تزيّنها= والروحُ سوءٌ بها والنكْثُ والعقمُ
الناسُ فيها سكارى والردى يقَظٌ = والذكرياتُ شجونٌ والصبا حُلمُ
العمرُ كدّ لمجهولٍ وأمنية = والشيبُ ضرٌّ وتنبيهٌ ومُختتمُ
كالخصبِ بغْرٌ سقاهُ والربيعُ زها= تُبنى الأماني ويَجني ريعَها عرمُ
قد قايضوا الدين بالدنيا فما ربحوا = وكيفَ يربحُ مَنْ في فمهِ الطُعمُ
لصاحبِ الحقِّ لم يقفوا وإنْ فقهوا= وللعتاةِ همُ الخدّامُ والحشمُ
داعي التقدّمِ قال الدينُ منكفئٌ= بالجهلِ يبني ظلاماً حيثما انْتشَرا
لا يصلح الدينُ، قد نادوا، لمجتمعٍ = بالعلمِ قامَ وبالحرِّيّة ازْدهَرا
للخلقِ صاغوا قوانيناً بما اعتقدوا = فكان جوهرهُا للعدلِ مُفتقرا
حرّيّة الفسقِ والأهواءِ قد نشروا = واستعبدوا الرأيَ والانسانَ والقدَرا
جعلوا التدين عذراً كلّما سقطوا = والعيبُ فيهم وفي أفكارهم نخَرا
الدينُ عدلٌ وإحياءٌ ومعْتقدٌ = والعقلُ فيه دليلٌ يقتفي الأثرا
مَن بات مدّعِياً بالدين منقصة = يوقظْ بنورِ كمالِ الدين منبهرا
ومَنْ يفتّشْ بدين الله عن خللٍ = يرْجعْ حسيراً وبالخُفّينِ مُنكسرا
في الدار طيفك شقَ الليلَ اسحارا = وألبسَ الياسَ آمالا وأوطارا
ولملمَ الشملَ حين الدهرُ فرّقه = كالطيرِ لمّ لحا الأعوادِ اوكارا
بدعوةِ الامِّ ما ردّ الكريمُ يدا = ولم يؤخرْ لكشفِ العسرِ إيسارا
ما كنتُ أرْثيك والموتُ العجولُ رمَى = فقدْ حملتُكِ في الخفّاقِ تذكارا
إنّ اليتيمَ يتيمُ الأمِّ لو فُقدت = ليفقدُ القلبُ حُبّاً كانَ أقدارا
رأيتكِ أروعَ من أروعِ = بلبسِ حجابِ التقى الأرفعِ
تنيري كبدرٍ وكلُّ النجومِ = بضوئكِ غابتْ ولم تسطعِ
يُحيْطك حُصناً وحصناً لمن = تتوقُ إلى شرفٍ أمنعِ
مناراً يطولُ فيرقى الوقارُ = جلالاً إلى عالمٍ أوسعِ
سُموّكِ سِحْرٌ وزادكِ زهواً = حَياءٌ بغيركِ لم يفْرعِ
عليكِ الحجابُ ربيْعٌ وأنت= نماءٌ تسامى على الأينعِ
أرَادو التحرّرَ زوْراً سُفوْراً = فعرّين جسماً إلى الأضْلعِ
ولكنْ لباس الحجابِ العفافُ = ونبضُ الشهامةِ للمدّعي
وحكمُ السماءِ لتحيا النساءَ = حياةَ الكرامةِ من مرْضعِ
ماذا أقولُ وشوقي فاقني أدباً = وقبـــله ابـنُ سعيدٍ أثـرَ بالنظـــمِ
لكنّني جئت استجدي الحبيب يدا = مُدّتْ إلى الخلقِ جـوداً دون منحرمِ
عذراً إليك وعذري مَنْ رجا سمحا = فالشعرُ قصّر وانتابَ القصورُ فمي
هل الربيع بشيرًا بالهدى العلمِ = والكونُ عرسًا زها في سؤددٍ سنمِ
من قاسَ شعري بشعرِ المادحين كمنْ = قاسَ السرابَ بنبعٍ صافيٍ شبمِ
لم تأنسِ الروحَ كلُّ الفاتنات ولا = شغلنَ قلبي بما فيهنّ من وسمِ
حبُّ الرسولِ وأهلِ البيتِ ملّكني = عواطفًا غيرَ ذاك الوجدِ لم ترمِ
سهمُ الأحبة يردي بالأذى شغفًا = وسهمُ احمد يُحيي القلبَ من المِ
العقلُ خرّ إلى جلالكِ ساجدا = وأناخَ مذلولًا لقربك قاصدا
فوق الترابِ لقد اراحَ جبينه = فسما بذاك إلى رحابك وافدا
يا صاحبَ القبّة الخضراءِ شاهقة = عبرَ الزمان مع الافلاكِ تتّحدُ
فردٌ من الخلقِ لم يُولدْ له كفُؤٌ = ولا النساءُ شبيها بعدهُ تَلدُ
بأجملِ الخَلْقِ موْصوْف ومتّصفٌ = وبالأمانةِ والأخلاقِ مُنفردُ
هذا المديح ُمن الأشواقِ منبعه = وفي الجوارح، فاقبلْ حينما أفدُ
إليك جئتُ أبا الزهراءِ معتذراً = عمّا قدمت، وعفواً حين اجتَهدُ
بذكرِ المصطفى عَظمُ الثوابُ = وراقَ النطقُ واكـتملَ الخِطابُ
وهلّلَ في مسامعِنا أبْـتهاجٌ = وعانقَ في النفوسِ لـه انْجذابُ
إذا ظَمِـئٌ على المبعوثِ صلّى = يزخّ الغيثُ ما حملَ السحابُ
وإذْ صلّى على طه عليلٌ = يُشافى والصلاةُ له الطبابُ
فصلّوا فالجزاءُ بكـلِّ نطقٍ = عظيمٌ لا يحدّدهُ الحسابُ
بها تـُمْحى المـآثمُ والخطايا = وباليُمْنى بها يُعطى الكتابُ
إذا تبـْغي الإنابةَ منْ ذنوبٍ = لك الصلواتُ للغفرانِ بابُ
أفنيتُ عمري في رباكِ رحالا = وطرحتُ فكري في عطاكِ سؤالا
وجمعتُ من كلِّ العلومِ لأرتوي = ممّا ملكتِ عجائباً وخِصالا
وطرقتُ أبواباً لكنْهكِ باحِثاً = عمّا احتويت وكيف صغْت كمالا
فرأيتك الحبُلى بما يروي الصّدى = نهلاً، ويجري فاهُك الأعسالا
وسجدتُ مذهولاً لخالقِ نحلةٍ = قد أوجدَ الأكوانَ والآجالا
يا خيرَ معجزةٍ وآية خالقٍ= مَلأَ الوجودَ معاجزاً وتعالى
طافَ الوباءُ بقاع الأرضِ يستلبُ = ويُهلكُ الناسَ أفواجًا ويحتجبُ
ضاقت به الأرضُ لم يأمنْ بها أحدٌ = حتّى الملوك ومَنْ في السّلطةِ ارتعبوا
مَنْ بات تُبهرُه الدنيا بزُخْرفِها = قد أيقنَ الصبحَ إنّ الأرضَ تضطربُ
مَنْ ظنّ دهراً بإنّ الخُلد مكمنُه = قد أيقنَ اليوم إنّ البعثَ يقتربُ
هذي العواصمُ أشباحٌ مُكدرةٌ = والحجْرُ فيها سجونٌ حولها الوصبُ
طالَ الوباءُ كنارٍ كلَّ عاصمةٍ = وقد تعالى على بنيانها الخشبُ
أين المفرّ وهذا الداءُ يسبقُهم = لأيّ ركن لقاهم حيثما انقلبوا
كوفيدُ رفقاً ما لسيفك ينْحرُ= جُلَّ الرقابِ وبالقصيبةِ ينخرُ
فرّقتَ جمعَ العالمين كأنّهمْ= حمرٌ مُطارَدةٌ وأنت القسْورُ
فأتاكَ بالأكفانِ جيشٌ أبيضٌ= فيه البواسلُ لا تُضامُ وتُقهرُ
فاختارَ منهمْ للممات كواكبا ً= رغم الأفولِ بها الورى تتنوّرُ
يبقى جهادهمُ كغيثِ غمائمٍ = يجري مداداً والغمائمُ تكبرُ
رمضانُ أقبلَ والوباءُ عصيبُ = كوفيدُ يوقدُ والفؤادُ لهيبُ
والناسُ لا تدري أتحيا صومَه = أم للردى قد ساقها المكتوبُ
والمسلمون عن المساجدِ أبْعدوا= لم يبقَ فيها عابدٌ وخطيبُ
حتّى عن البيتِ العتيقِ تفرّقوا = فإذا الطوافُ عن الورى محجوبُ
أضحتْ مساكنهم سجوناً كُدّرت = فكأنّها عند الشروقِ غروبُ
الموتُ أسرفَ والعزاءُ يقيمه = في كلّ بيتٍ نائحٌ ونحيبُ
الوقتُ أصبحَ أموالاً فما مُلئت = منها العيون ولا طابت بها الدارُ
لن تقنعَ النفسُ مهما طال مكسبها = حتّى تعيشَ بجدبِ البيدِ أزهارُ
يا جامعَ التبرِ لا تفرحْ بناطحةٍ = فما استدام لأهلِ الأرضِ إعمارُ
حسبي الفُتات وخيطُ الصوف يسترني = والخوْصُ سقفي وطولُ الدار أمتارُ
لن يلجمَ النفسَ والأطماعُ صهوتها= إلّا التراب وفوق الجسمِ أحجارُ
جاهدْتُ دهْري للحروفِ وصولا= وقرأتُ كي أسْتكشفَ المجهولا
وكتبتُ نفسي بالحروفِ مفصّلاً= للشاهدينَ عقائداً وميولا
وقضيتُ عمْري باحثاً ومفكّراً = وركبتُ أمواجَ الكلامِ سجولا
اسألْ إذا شئْت العلومَ وطبّها = ستُريك اسمي كالنجومِ جليلا
فملكتُ رأسَ الشعرِ حين بدأته = وتركتُ ندّي في الذيولِ نزيلا
ما لي أرى الشعرَ قد ضاعتْ به الحكمُ = وقد تهاوتْ به الأخلاقُ والقيمُ
دارَ الوجوه عن الأحداثِ مُنزوياً = مع الحياِة كأنّ الشعرَ مُختصمُ
لم يبلغ الشعرُ إلّا جسمَ غانيةٍ = فالخدُ يُشغله والخصرُ والقدمُ
ياليتهم للحجابِ الشعرَ قد نظموا= وكيف فيه وقارُ البنتِ يرتسمُ
وللأمومةِ برّاً ليتهم كتبوا = وكيف يُحيي عطاها الحبُ والألمُ
ما أعظم الشعر لو تسمو مبادئه = تقفو نداءاته الأحداثُ والأممُ
قالوا بإنّ الشعر ليس قوافيا = أو وزن بيتٍ قد أجادَ معانيا
إنْ لم يكن فيه خيالٌ آخذٌ = يغوي المنافقَ والجهولَ وغاويا
فأقولُ كلّا فالقصائدُ إنّما = حكمٌ بأوزانٍ تضمُّ قوافيا
الشعُر قافيةٌ ووزنُ محكمٌ = وحكيمُ قول لن يضيّعَ ساعيا