رذاذ الشمس وقلق البراكين المفجوعة
قراءة في (متحف منتصف الليل)
رواية باسم القطراني
عبد الزهرة لازم شباري
ما الذي يستطيع الناقد أن يستخلص من تجربة القاص باسم القطراني عندما يتجلى لروايته الموسومة بالاسم الذي أختاره لها عبر متاهات الروح وخلجاتها وهي تعربد في أحلام اليقظة المضطربة مع القلق الذي يغلف أرواحنا عندما تخفي تلك الهموم وذاك الوجع في زوايا الذكريات التي ترقد فوق رفوف مكاتبنا !
( متحف منتصف الليل ) أنموذج معاصر أكد فيه القاص الروائي باسم خروج الرواية من نمطية معظم الروايات التي قرأناها في السنين الماضية ، والتي أخذ بها طريقاً على ما يبدو لي غير الطريق الذي سلكه قبله من كتاب الرواية والرواد منهم خصوصاً ، والذي لا أحسب إني أطلعت على نتاجهم جميعاً ، حيث أرى بنظري القاصر اندفاعه بالسلوك الذي سلكه في تصويب قوسه المتلهف لاصطياد فريسته التي أبت ألاَ تراوغ سريان سهمه الصائب لاصطيادها .
وبهذا أراه أخذ طفرة جديدة للرواية التي أراها حسب نظري تفند معظم الأصوات التي تهمس بمثل هذا الخصوص من الروايات المطروحة على الأرصفة .
تجربة متماسكة أحكمت بعناصرها قدرته على توليد المعاني الجديدة والدخول الخطابي إلى معترك تلك الآفاق الجمالية التي تحرك شجون القارئ المتلمس للأحداث التي ذهب القطراني إليها ، وأخذ يحرك خيوطها أمام الجمهور ليظهر بالتالي جمالية مداعبة تلك الشخوص في إشكالية الصراع مع الذات فيما يختلج في بداهة الزمن الأجوف الذي يعيش ويعيش به شعبه المظلوم ضمن تلك الأحداث الأليمة التي رسمها الكاتب في روايته ( متحف منتصف الليل ) !
الملاحظ في هذا النموذج الذي أمامنا رغبة القاص على تحقيق الفعل الحضاري الذي يؤمه العالم في عصرنا الحالي كي يغير مسلك العصور الفانية التي مرَت به وشعبه وهو يلوك ذكرياتها بصعوبة ويرصف شوارد ذهنه ، ويعبئ الكلمات فوق الكلمات ليبني عمارة أفكاره بين مدلولات غريبة حيث الشرود الذي أنتابه وهو يحرك خيوط مداعبة تماثيله فوق منصة أحلامه ، وينزوي شارد الفكر نحو ما يدور في مكتبة صابر النائية التي ورثها عن خاله ، متابعاً أصوات الضجة التي تنبعث من الغرفة المجاورة لغرفته ، ألاً أنه بعد جهد ليس بالبسيط يرى أشكالاً غريبة تداعب نفسها وتصطدم مع بعضها لتفعل الضجة العارمة التي أربكته وجعلت منه جثة هامدة يحركها الجيران وزوجته حيث لا حراك سوى برودة جسده الهامد !
هذه المدلولات التي ينظمها القطراني في سمط مسبحته التي لا تفارق يده ما هي إلاً حوادث جمة تسطرت في صفحات كتب قديمة وحديثة أراد كتابها وشعرائها أن تنتظم في سطور وحوادث وحكايات غابرة مع السنين التي طوتها تلك الكتب في مدلولاتها التي بقيت خالدة إلى يومنا هذا !
يقول : (( أعداد لا حصر لها على هيئة بشر وحيوانات تذوب في المجهول وتخلف هلعاً في دواخله )) ص 12
وهذا فعلاً ما يحدث عند قراءة أي قصة أو رواية عندما يغط قارئها مع الأحداث ، حيث يرى ما رآه صابر تلك الليلة وهو يستمع ويرى إلى هذه الأشكال وهي في صراعها الدائم في ملكوت نفسه !
أخيراً دس عينيه بين هياكل كتبه التي أخذت من شبابه وعمره السنين وراح يقلب صفحاتها علَه يجد شيئاً مما رآه فيها قبل لحظة ، لكنه لم ير شيئاً يذكر ، وهو يبحث عن عشبة الأبداع السحرية التي يطول بها رهط المبدعين في طريق ملكوت الكتابة المبدعة في زماننا الذي تشبع في حكايات وقصص المتقدمين ولا يزال يحبو نحو ما نسميه بالحداثة !
أراد القطراني بإزميله الذي ينقر به على الصخور الصلدة ، أن يؤسس له طريقاً جديداً في كتابة القصة والرواية ، وأن يعرض بضاعته وكنوزه على المتلهفين لشرائها .
بهذه التحولات الجميلة والهجرة في عوالم الوجود وربما الهروب من النهج الذي سلكه غيره من الكتَاب نحو جمالية النص أو فوبيا مثيرة للعجب نحو ربط أحداث الماضي بالحاضر والنزوع نحو الأشكال المتقدمة التي تؤجج المشاعر وتجعل المتتبع السفر في خلجات النص الروائي الذي يشكل عند القطراني كما أرى النزعة الجنوبية الحالمة نحو ما يحدث على ارض مدينته التي أكلتها الحروب اللاشرعية في زمن الدكتاتورية الباغية وزمن التسلط المرعب على أرضه وشعبه !
فراح يخط هذه النزعات بفكر شارد نحو ما هو معلوم في ذاكرة الأجيال من روايات وأحداث لا يستطيع المرء نسيانها مهما تكالبت عليه السنون ممثلاً تلك الأحداث بأشكالها البشرية الصغيرة وهي تحاوره ربما وتبعث فيه الروح الإنسانية حتَى لا يطغى عليها ِويؤثر في مزاجها وأشكالها فيقول : (( نحن هنا ... حاذر أن تدوسنا بقدميك )) ص 15
ويستمر في حديثه معهم قائلاً : (( من أنتم ؟ )) يسمع جواباً يقول : (( نحن أبطال روايتك الهاربون )) ص 16
ويظل مخاطباً أشكال تلك الصور الصغيرة التي تشكل أنموذج روايته بروح متلهفة للوصول من خلالها إلى الهدف الذي بنى عليه تلك الهياكل الكونكريتية لبناء مدينته الجميلة في متحف منتصف الليل شارداً بروحه الضاجة نحو أحداث ملئت شوارع ومدن وطنه العراق ، متذكراً بغاء وعنترية حكام زمانهم ومن سار في شوارد أفكارهم وطغيانهم اللامحدود على أرض السلالات والقيم الإنسانية !
وعليه تفنن القطراني بعملية دمج الأحداث وربطها مع الحاضر المر الذي نعيشه ، إذ ْ راح يتوغل برفع الجدار الجرثومي عن وطنية أزلام السلطة وهم يجوبون الأرض بنشر سمومهم على موارد الحياة في الوطن !
بشوارد فكره الحالم أسس للقارئ عملية ربط بين هذه النوعيات من البشر وما تكتمه من بغض وحقد على الأمة ، إذ ْ راح يبين عمليات الأجرام والقتل من لدن المتمرسين بها وغربلة اسرارهم وهم يخفون الجريمة بين طيات قلوبهم الخبيثة ضد شعبهم ، ويمارسون أبشع أنواع القتل والخطف ومساومة ذويهم بالمال ، ولم تمنعهم أخلاقهم القذرة على التلون بألوان عديدة لإخفاء ما يضمرونه عن الناس ، كيف لا وهم حتى في موتهم يبدلون الأموات بالأحياء والأحياء بالأموات ، وما عملية موت النقيب( فرهاد محمد خان ) الذي ذكره الكاتب في روايته بالآخر المقبور (عافت عجيل ) الذي يشبهه خلقاً إلا َ مداهنة وإيهام الآخرين بموته ليتسنى له الانخراط بسلك الإرهاب وهذا ما خطط له من قبل القاعدة ، وهذا ما بينه القطراني : عندما ألتقى المجرم (حردان ) بصاحبه (فرهاد) عند خطفه من قبل عصابة خطف وقتل مع أصحابه على طريق بغداد المتوجه إلى البصرة .
يقول : (( أنت فرهاد محمد خان ؟ )) يرد عليه (( وأنت حردان أليس كذلك ؟ نعم حردان الذي دفنك بيديه قبل أكثر من خمسة وعشرين سنة )) ص 77 .
ويستمر بقوله : (( ولكن كيف عدت إلى الحياة وقد دفنتك بيدي هاتين ؟ )) ص 89 .
وتستمر الرواية بالتفصيل : (( لأن الذي دفنته أنت الملازم الأول عافت عجيل )) ص 90 !!
هذه العملية التي ركب تفاصيلها المبدع باسم ما هي إلاَ ربط للأحداث الدامية التي ارتكبتها عصابة تسلطت على شعبنا وانتهكت حقوقه لسنين عديدة وما عادت أن تنجلي غمتها عن شعبنا بعد ، إذ ْ ما زال عهدها موجوداً ولكن بجلد آخر ولون آخر ، هذه المرة عصابات تدميرية وتفجير وقتل النساء والأطفال العزل ، وما نشاهده يومياً على أرض الواقع !!
هذا ما أراد الكاتب تبينه للقارئ وهذا لعمري قمة الأبداع لأن التفنن في عملية بيان الأحداث وربطها بالماضي يؤكد حقيقة ، إن ما حدث في الواقع القريب هو سليل عصر لقيط ما زالت سمومه تنتشر على مواقع الحياة !
وهكذا في جميع حواريات وأحداث هذه الرواية الجميلة ، وفك ألغاز ما نقرأه في ( متحف منتصف الليل ) البهيم الذي يغط به شعبنا وما تمنحه هذه السطور من تجليات وبراهين تجعل القارئ الأقرب إلى كشف الأستار التي أسرج الكاتب فرسه الجموح نحو الهدف المطلوب !
فعبر هذا السفر التصويري كتب لنا الروائي مراثيه وما ينوء به فكره الشارد وراء الأحداث الدامية التي تحدث على أهله ووطنه حاملاً وجعه الخبيء بين ثنايا قلبه مستنجداً بقلمه على حمل ما لا يستطيع حمله وما يراه يومياً على أرض الواقع المر !
فالتمظهرات التي سكبها لنا القطراني بذاكرته المشوشة والتي تحولت بالتالي إلى فوبيا مثيرة للرعب حيث رأى بطل روايته ما في بطون الكتب التي قرأها تخرج بأبطالها الورقية إلى حيز الوجود وتعمل ضجة صاخبة على أرض غرفة المكتبة ، وكلها تحولت إلى حيوانات وبشر بأحجام صغيرة وغريبة الطباع يكلم بعضها بعضاً مما شكل عنده حالة من الخوف والرعب ، شكل بالتالي هذا البوح الذي أمامنا بمظهره الذي نقرأه في هذه السطور ، ولعل سفر القطراني بهذه التمفصلات التي حوت عليها روايته (( متحف منتصف الليل )) يأخذنا بأنشداده إلى عالم مليء بالرعب والخوف والدمار ، بحثاً عن الحلول الدالة على الخلاص الذي يتلمس مجسات الحياة الجديدة وغربلة الماضي الحزين وطمر الأمكنة الموبوءة التي تنبعث منها عفونة الخبث والتفرقة في وطننا الجريح !!