قراءة في كتاب "قبس من نور المسيرة .. الشيخ المجاهد بسام السعدي يتذكر"
هذا كتاب يرصد سيرة الشيخ المجاهد بسام السعدي ، سليل أسرة فلسطينية مجاهدة ، من أشهر أبنائها الشيخ فرحان السعدي ، قسيم الشيخ عز الدين في تفجير ثورة 1936 الفلسطينية الكبرى . وكانت الأسرة تقيم في قرية المزار التي هجرت منها إلى جنين بعد حرب 1948 حيث ما زالت تقيم في مخيمها الذي سمي في البداية " مخيم العودة " تفاؤلا وأملا بالعودة إلى الوطن الذي اغتصب ، و " مخيم المحطة " لقربه من محطة القطار العثماني . ولد بسام في 23 ديسمبر 1960 ، وحصل بعد الثانوية العامة على دبلوم محاسبة من الأردن . ومثل أي فتى فلسطيني ، تفتحت عيناه ووعيه على مآسي شعبه وبطولاته الفذة المقاومة والمصادمة لاحتلال استيطاني استئصالي لا روادع إنسانية أو قانونية لجرائمه . وتأثر بسام بالانتفاضة الأولى تأثرا شديدا ، وشارك فيها مثل لِداته من الفتيان والشبان الفلسطينيين الذين نسبت تلك الانتفاضة إليهم ، وإلى وسائلهم فيها ، فسميت " انتفاضة أطفال الحجارة " . وانتهى به مطاف قناعاته إلى الانتماء إلى حركة الجهاد الإسلامي التي انطلقت في مايو من عام الانتفاضة الأولى 1987 ، وانبهر بثلاثية نظريتها التربوية الجهادية " الإيمان والوعي والثورة ، وطرحها القضية الفلسطينية قضية مركزية للأمتين العربية والإسلامية . واتصف بحبه الحماسي الجاد للقراءة ، فكان يقرأ أحيانا عشر ساعات في اليوم ، وأحيانا خمسا . وترأس جمعية " الإيمان " الخيرية التي كانت تقدم المعونات لأسر الشهداء والأسرى والمطاردين وسواها من الأسر الفقيرة . ولم تخف نشاطاته الجهادية والاجتماعية عن عيون مخابرات العدو ، فقبضت عليه ، وعذبته ، وتميز بصبره وقوة تحمله لقسوة تعذيبها رافضا الإقرار بنشاطاته في مقاومة الاحتلال . إنه القائل صادقا عن نفسه : " الخوف رحل من حياتي مبكرا بعد التكرار والممارسة " ، وتميز في كل مواقف الخطر والشدة بالهدوء والتحكم في ردات فعله . وهو من الذين أبعدتهم إسرائيل إلى لبنان في 1992 واستقروا في مرج الزهور ؛ في جنوبه . وشهدت معركة مخيم جنين في 2022 ذروة دوره الجهادي . ولمع اسمه في قدرته الفريدة على التوفيق بين المتخالفين من عناصر الفصائل الفلسطينية في السجون التي دخلها ، وفي خارجها ، وكان لا يظهر أي تحيز تعصبي للحركة التي ينتمي تنظيميا إليها . كان طائرا يحوم متفحصا ما تحته ، ويحط على نقطة الوفاق المضيئة بين أولئك المتخالفين ، فيرضى الجميع بحكمه اطمئنانا لحكمته وثقة في طهارة نيته من أيما شائبة تحيز ، ولم " يسلم " حتى العدو من الإعجاب بنصاعة خلقه ونقاء نزاهته . قال أحد إداريي سجن عوفر الذي كان من بين عدة سجون أدخل إليها : " والله إننا نخجل منه ونحن أعداؤه . " . واشتهر ببراعته في التخفي خلال مطاردات قوات الاحتلال ومخابراته التي دامت 15 عاما ، وكثيرا ما نجا من القبض عليه أو من قتله ، ويمتدح ضابط مخبرات كنيته اسمه التمويهي " فيصل " تلك البراعة ، فيقول : " لقد مر علينا الكثير من المطاردين ، لكن لم نرِ أذكى وأشطر منك ، فهل تذوب كالملح ؟ " . وبلغت سنوات سجنه التي تخللها الإفراج عنه 13 سنه . وفي سنوات المطاردة والاعتقال استشهد ولداه التوأم إبراهيم وعبد الكريم ، وسجنت زوجته عامين . وفاجأ كل أقاربه وأصدقائه ومحبيه بتقبله لاستشهاد ولديه بصلابة لم يسكب فيها دمعة على أي منهما احتسابا لهما عند الله _ تعالى _ ورجاء أن يكونا بين الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا . وفي مخالفة صارخة لصبره على استشهاد ولديه ؛ بكى فياض الدمع على استشهاد فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الذي اغتاله اثنان من عملاء الموساد في مالطا في 26 أكتوبر 1995 . وفي الكتاب أن أحد القاتلين التهمه تمساح في مالطا ، والثاني سحقته سيارة في تل أبيب ، ومعروف مآل رئيس الوزراء رابين الذي أمر باغتيال الشقاقي انتقاما لعملية بيت ليد التي قام بها الاستشهاديان أنور سكر وصلاح شاكر ، من غزة ، في 22 يناير 1995 ، وقتل فيها 19 جنديا إسرائيليا ، وجرح 62. وللشيخ المجاهد مواقف صدام وتحدٍ لمخابرات العدو ، يستبين منها ذكاؤه وسخريته وسعة ثقافته . قال له ضابط مخابرات إسرائيلي لحظة إطلاق سراحه من إحدى سجناته : " إن شاء الله يعم السلام ، وآتي لزيارتك في جنين ! " ، فرد : " إذا قدمت إلى جنين فإنك ستكون سببا في تحرير نصف الأسرى ! " ، ولمح الضابط ما في رده من توعد ، ونظر إليه مغيظا متكدرا . وفي يوم قال له ضابط مخابرات كنيته " أبو شريف " : " أربع حروب مع الجيوش العربية لم تكن مثل ما يحدث الآن . لا يستطيع أحد من مواطنينا أن يدخل سوبرماركت ، أو يركب الحافلة ، أو يذهب إلى مطعم . " ، وفي كلامه بيان جلي لخطورة انتفاضات الفلسطينيين ومقاومتهم على سير الحياة في الكيان الغاصب المبيد لكل ما هو فلسطيني . وتأثيرات انتفاضة الضفة الحالية عليه شاهد على هذه الخطورة التي أرغمته على الدفع بنصف جيشه لمواجهتها مثلما صرح وزير الدفاع بني غانتس . وفي الكتاب آيات روائع ل "جنون " قدرة الفلسطيني على التحمل . المجاهد العضو في حماس ، جمال أبو الهيجا أحد أبطال معركة جنين ، تقطع إحدي يديه بشظية ، فيحملها ويذهب إلى المستشفى ، والزوجة حنان أبو الرب يدهمها المخاض وتنزف ، ويعرض عليها ضابط إسرائيلي تعويض دمها النازف ، فترفض ، وتواجه عدة نسوة من قريباتها وجاراتها الأهوال والموت لنقلها إلى المستشفى . وفي الكتاب صور من براعة الفلسطيني للإفلات من مخالب المصاعب والمصائب التي تنقض عليه انقضاض الصواعق المواحق دون توقف ليلتقط أنفاسه ، وفيه أفانين للاختفاء الشخصي وإخفاء السلاح . هذا المجاهد الشهيد إياد أبو الليل يخفي سلاحه في حفره ، ويغطيه بالبصل حتى لا تشم كلاب الإسرائيليين المدربة رائحته . وكان كلب ألماني من الفصيلة الذئبية يعوي عواء الذئاب متى جاءت القوات الإسرائيلية ، فيتهيأ المجاهدون لمقاومتها ، واكتشف الإسرائيليون دوره التحذيري للمجاهدين فأعدموه .
وتفاجأ ضابط بسعة اطلاع الشيخ بسام على سير قادة إسرائيل ، وسأله عن أعقلهم في رأيه ، فاقترح شمعون بيريز . وفي الكتاب أن جولدا مائير كانت تمقت بيريز مقتا متطرفا ، وتقول عنه إنه ليس في قلبه مكان للرب . ونقرأ متمهلين متألمين ما ينقله الكتاب على لسان شارون في مذكراته ، وكل قادة إسرائيل لهم مذكرات فيها دروس وعبر لمستوطنيهم ، يقول : " كنا ننتصر عندما تتوقف الجيوش العربية عن حربنا بعد أن نكون على وشك الهزيمة ، فتتحول هزيمتنا إلى نصر . " . ومعلوم أن إسرائيل اعتقلت الشيخ بسام في مايو الماضي ، ومازال معتقلا ، وتسبب اعتقاله في معركة الأيام الثلاثة مع حركة الجهاد التي سمتها " معركة وحدة الساحات " الكتاب في أحد عشر فصلا ، في 236 صفحة ، واستهل بمقدمتين كتب أولاهما محمد جرادات ، وكتبت ثانيتهما وليد الهودلي ، وختم بملحق توثيقي من الصور عن حياة صاحب السيرة ، وحرره عصري فياض بأسلوب ممتع أخاذ روائي السمات تمازجت فيه الأحداث والأفكار والأشخاص في تيار متدفق يحفز القارىء على متابعة قراءته مستمتعا بكل سطر فيه . أصدرت الكتاب منذ أيام مؤسسة " مهجة القدس للشهداء والأسرى والجرحى " في غزة .
وسوم: العدد 1012