مقدمة ( على محاجر الأمل )
هل هناك ضرورة لمثل هذه المقدمة ؟
كنتُ أسأل نفسي هذا السؤال ــ دوما ــ عندما أقرأ ديوان شعر أو رواية أو مجموعة قصصية ، وكانت قناعتي أن الأثرَ الأدبي ، بخصائصه ومميزاته يقدم نفسَه للقارئ ، وهو الذي يستطيع أن يفتح الآفاق أمام القارئ ليعيش تجربة الأديب والشاعر ، ويتفاعل معها ، ويرى مافيها من إبداعات وإضاءات . وأما المقدمات فإنها ــ في بعض الأحيان ــ تصبغ الأثر الأدبي بلون ما ، وقد ينجح مقدمه وقد لاينجح ، هذا إذا كان صاحب الأثر الأدبي يقدم لأول مرة على نشر إنتاجه ضمن كتاب مطبوع ، فكيف إذا كان شاعرنا صاحب هذا الديوان ( على محاجر الأمل ) له أكثر من عشرة دواوين مطبوعة ، وأخرى أكثر منها مخطوطة ، ومجموعات للأطفال ، ومسرحيات شعرية ، وعشرات القصائد والمقالات المنشورة في المجلات والصحف الإسلامية المعروفة ؟ (1) . فحينها تصبح المقدمة نافلة بالنسبة للشاعر وديوانه الجديد . وإني أعدُّ هذا التقديم نوعا من التكريم لي ، ومجالا لإبداء بعض الانطباعات والملاحظات في مجال الشعر الإسلامي المعاصر . لأن الديوان جدير بتقديم نفسِه ، ومخاطبة القارئ بصوت مسموع يغني عن المقدمة والتقديم ، ولأن الشاعر بما يمتلك من شاعرية أصيلة متدفقة ، وتجربة أدبية طويلة غنيٌّ عن مثل هذه المقدمات .
لقد شاعتْ في العقود الأخيرة من هذا العصر عباراتٌ و مصطلحاتٌ في مجال النقد الأدبي ، حتى أصبحت لكثرة تردادها ولا سيما في كتابات بعض الأدباء الإسلاميين ، كأنها حقائق لاتقبل النقاش أو الجدل بله الرفض والنقض . وأصبح عددٌ من الدارسين يحكم على الشعر العربي ــ بعامة ــ والإسلامي بخاصة على ضوء هذه المصطلحات والمقاييس الجديدة و وصل الأمرُ إلى الحكم على الشعر الإسلامي كله منذ عهد رسول الله r ، وإلى اليوم بالضَّعفِ والهبوط ، لأنها لم تتفقْ في صورِها و طريقتها مع الأساليب الغربية الحديثة ، التي دفعت بعضهم إلى تفسيرات غريبة للأدب الإسلامي ، والقيم الإسلامية ، والتَّصوُّر الإسلامي : (( فالعبادة في هذا التفسير هي حركاتٌ تعبيريةٌ عن التأمل )) . وأصبح التعبير عن الشكر بضروب من الفنون : (( لاتعدو أن تكون حمدا وتسبيحا )) ، وأن المبدعين يستطيعون أن يصلوا إلى الصورة المبتغاة إذا تجاوزوا الواقع الذي سار عليه الشعر الإسلامي منذ فجر الإسلام حتى اليوم . والسبيل في نظرهم هو في تجاوز الحاجز الذي يحول دون أخذهم من الغرب وآدابه ، بل يقبلون بنهم لايعرف شبعًا ولا ارتواءً على كل ماهو أدبي ممَّـا يصدر في شرق أو غرب . وعدم الأخذ من أدب الغرب يحرم هؤلاء من الرؤية التي تمنحهم إياها هذه الآداب التي تتسم : (( بالعمق والشفافية والنفاذ ، وتعطيهم زادا عزيزا يمكنهم من مواصلة طريق الإبداع )) .
وإذا وقف الأدباء الإسلاميون موقف المتريث المستريب من الأدب الغربي: (( فسوف ينتهون إلى ردم منابع التجدد والعطاء في نفوسهم ، والانحدار صوب المباشرة والتقرير ، أو تسطيح التجربة على أقل تقدير )) . بل قرنَ هؤلاء بين الإجادة الأدبية ، وبين البعد عن خطب الجُمُعة : (( إننا إذا أردنا ألا يكون أُدباؤُنا خطباء جمعة ، فعلينا أن نلزمهم من خلال مؤسساتنا وندواتنا بأن ينهلوا من الأدب العالمي ، ويتابعوا معطياته شهرا بشهر ويوما بيوم )) (2) .
هذه العبارات وأمثالها ... التي تنظر إلى العبادة ــ الصَّلاة ــ على أنها حركات تعبيرية ، وتربط بين الإبداعِ والأخذ بنهم من الأدب الغربي ، بل متابعته يوم بيوم ، وشهرا بشهر ، أكثر من متابعة المسلم لكتاب ربِّه ، هذه العبارات أصبحت تتردد ــ مع الأسف ــ في كتب عدد من المبدعين والأدباء ( والمنظرين ) ، مع ترداد عدد من المصطلحات التي ينظرون إليها نظرة سلبية ، ويرون أنها علامات ضعف الشعر ، وأسباب لعدم تطوره نحو الأفضل ، ومن هذه المصطلحات : الخطابيَّة ، والتقريرية ، والمباشرة ، والوعظية ، والتسطح ... وهذه المصطلحات ــ كما سنرى ــ حديثة ، ترددت على ألسنة أُدباء الحداثة ونقَّادِها ، وعَدُّوها عيوبا وسماتٍ على تخلف الشعر الإسلامي ، و دَعَوا إلى لغة جديدة للشعر ، وسمات جديدة له ، ورفض كلِّ الأُطر القديمة . وإذا تردَّدت هذه المصطلحات في كتابات الرافضين للأدب الإسلامي مصطلحا وفكرة ومضمونا وإبداعا و وجودا ، فذلك أمر غير مستغرب ، ولكن انتقال هذه المقولات والمصطلحات إلى بعضِ دعاة الأدب الإسلامي هو الأمر الغريب حقا . وهو الخطر على هذا الأدب و دعاته ، والأمر الذي ينبغي معرفته أن دعاة الحداثة لن يقبلوا من دعاة الأدب الإسلامي هذا الموقف أو غيره ، لأنهم يرون الإلحادَ ، ورفضَ أيِّ نصٍّ ثابت ، وأيِّ قيمة ثابتة ... بدايةَ تحرر الإنسان و ولادته ، الإنسان الذي يريدونه عدوًّا لله وملائكته ورسله وعباده المؤمنين ، فكيف يقبلون من مسلم قولا أو فعلا ؟! .
ولهذا فإن هذه المصطلحات التي يرددونها صورة من صور الرفض لأيِّ شيءٍ يتصل بالإسلام ، مهما كان نوعه ، ومهما كان أُسلوبه ، هم يرفضون أن يقبل الإنسان شيئا خارجا عنه ، بل يضعون أنفسهم موضع الخالق ذاته ــ سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علوا كبيرا ــ يقول كبيرُهم : ( لايمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن نهدم صورة العالم الراهن ، وقتل الله نفسه ، مبدأ هذه الصورة . هو الذي يسمح لنا بخلق عالم آخر ، ذلك أن الإنسان لايقدر أن يخلق إلا إذا كانت له سلطته الكاملة ، ولا تكون له هذه السلطة إلا إذا قتل هذا الكائن الذي سلبه إياها ، أعني الله ) . (3) فهل هناك أكثر صراحة و وضوحا من هذا الذي يريده الحداثيون ؟؟ وهل هناك عذر لأديب مسلم أن يقبل أيَّ مصطلح من مصطلحاتهم التي يريدونها هدما للتوحيد وللإيمان وللإسلام ، ولكلِّ القيم الفاضلة . وهاهم يقولون : ( ومن هنا كان رفض التقاليد : شرائع كانت أم عادات ، شكلا من أشكال الأمل بنظام آخر ، ينتفي فيه القمع بشتَّى أنواعه ، وفي مثل هذه اللحظات تكون سيادة الفوضى هنا إنما هي سيادة لقانون الحرية الفطرية على قانون الحرية الوضعيَّة ) . ( 4 )
وترديد هذه المصطلحات في كتابات بعضهم ليست إلا صورة من صور التأثر بالأدب الغربي ، والهزيمة أمام أمواج المادية القاهرة ، لأن هذا الأدب بقيمه وجمالياته وأساليبه بعيد كلَّ البعدِ عن حياة المسلم والمجتمع الإسلامي ، وبعيد كل البعد عن منهج الله عزَّ وجلَّ الذي جعله دستورا شاملا متكاملا ، وبيَّنــه في كتابه الكريم . والغربيُّ الذي كفر ــ عمليا ــ بما عند الله عزَّ وجلَّ ، كفر به إلها قادرا مهيمنا عليما حكيما ، وربًّـا معبودا له الأمر وبيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير ، وأبقى على صورة ساخرة بالمعبود محنطة في الكنائس والأديرة ، وهؤلاء الذين يعيشون بهذه الصورة لايعرفون معنى الإيمان وطعم الإيمان ، ولا يعرفون حلاوة اليقين و روحانية الطمأنينة والثقة بالله ، والسمو والكرامة التي يمتلكهما المسلم من إيمانه وصلته بالله عزَّ وجلَّ ، فهم محرومون من تذوُّقِ أيِّ شيءٍ يعبر عن هذه الحياة الإسلامية الإيمانية ، وهذا المنهج الرباني الدائم . إنهم يعيشون حياة القلق والتشاؤم والتردد والحيرة ، حياة بائسة لاتعرف الطمأنينة ولا الاستقرار ، حياة تُقاس بالأرقام والحسابات ، تتأرجح بين الشهوات الحيوانية ، والمتطلبات الحياتية ، ولذلك تراهم يبحثون عن كل جديد ، يريدون كسرَ كلِّ قاعدة ، والانتقال من حالة لأخرى ، وتجريب كل غريب و شاذ ، لعلهم يجدون طمأنينة واستقرارا و سعادة ، وكلما جربوا لونا شعروا بالخيبة والخواء ، وراحوا يبحثون عن لون آخر ... حياة ملؤُها القلق والتعاسة والاضطرابات ، واللهاث وراء الحاجات الضرورية وغير الضرورية ، لأنهم يفتقدون الطمأنينة التي تنبعثُ من الإيمان واليقين . ركضوا إلى ملذات الدنيا ، وغرقوا في الشهوات والترف والتَّبذل والعربدة ، واستباحة كل المحرمات ، والخوض في كل الآثام ، واجتراح كل الرذائل والأمور الشاذة ، ومع ذلك بقيت حياتهم الداخلية في خواء ، وبقيت تعاستهم تسكن أرواحَهم ، وتحفر في أدمغتهم ، وتطفح بالتصرفات الشاذة في سلوكهم وأعمالهم . بحثوا عن كل شيءٍ يسدُّ هذا الفراغ الفكري والروحي الذي يعيشون فيه ، عادوا للماضي ، للأوثان والأساطير ، وساروا وراء كل ناعق ، وقبلوا بالشعوذات والخرافات ، وخاضوا في الظلمات ، وضربوا في التيه ، ولكنهم لم يصلوا إلى الطمأنينة والسعادة التي يحلمون بها .
من أجل ذلك أصبح الغموض والشذوذ والخروج على كل قاعدة ، والاجتراء على الأخلاق والقيم هدفا ، فابتعدوا عن المألوف والمعروف ، واستخدموا الألغاز بصور شتَّى ، وألبسوا هذه الوثنيات شخوصا و حياة ، وتوهموا أنها نوع من التحديث والتطوير . ومن أجل ذلك حاربوا عالَمَ المسلم بكل صوره وأساليبه وأفكاره وإبداعاته وجمالياته ، وحاربوا المسلم طائعا كان أو عاصيا ، مادام ينتسب إلى عالم القيم ، عالم الإيمان بالله الواحد الأحد العليم القدير الخبير ، وحاربوا كل شيءٍ له علاقة بالإسلام من آداب وعلوم وفنون ... وادَّعوا أن الإسلام لاعلاقة له بالأدب . وعندما عجزوا عن إقناع الناس بهذه الفرية راحوا يطلقون الأحكام الشائنة على هذا الأدب ، واستطاعوا عن طريق هيمنتهم على منابر الثقافة والأدب في المحافل والجامعات ... تطبيق مقاييسهم وآرائهم وفرض مناهجهم وأذواقهم وإصدار الأحكام على الأدب الإسلامي ، ورميه بالجمود والتخلف والبساطة والارتجال وفقدان الجمال ، والبعد عن الإبداع ، والوقوع في الخطابية والتقريرية و ... واخترعوا لذلك منظومة من المصطلحات التي تنزُّ بالحقد ، وتوحي بالعداء لكل ماهو إسلامي ، وتسيءُ إلى الكثير من قيمنا و عباداتنا. و وقع بعضُ الأدباء الإسلاميين في شِراك هؤلاء الخبثاء ، متأثرين بأذواقهم وآرائهم ، ومردِّدين لأحكامهم ومقولاتهم .
وإذا توقفنا عند بعض هذه المصطلحات تبيَّنَ لنا أنها تتناقض مع حقيقة الأدب و واقعه ، وتتناقض مع خصائص الشعر بعامة والعربي بخاصة ، لأن الشعر مهما كان لونه وعصره : فنٌّ جماهيري يعيش ويزدهر مع تجاوب الناس معه ، وانفعالهم لخطابه وصوره وأفكاره وأسلوبه ، ولذلك لابدَّ أن يسلك مسلك الأسلوب الخطابي المباشر ، كما لابدَّ أن يسلك مسلك التصوير الموحي ، والصورة الطريفة حسبما يقتضي الموقف والأسلوب . ومثل هذا ينسحب على بقية المصطلحات والخصائص الأسلوبية التي يذكرونها في مجال الإساءة والذم لشِعرِنا العربي . وهذا ناتج عن نظرتهم للشعر ، وجعله وحيا وكتابا للبشرية . يقول أدونيس : ( الشعر في الجاهلية فاعلية أولى في مستوى العمل والحلم والدين ، أي في مستوى الطبيعة والغريزة ، فهو حدس أساسي في المعرفة ، بل هو الحدس الأكمل ، غير أن النبوة في الإسلام هي الحدس الوحيد ، والمعرفة كلها تصدر عن هذا الحدس ، وهكذا حلَّت النبوة محل الشعر ، وتراجع الشعرُ إلى مستوى الفاعلية الثانية ... صار أداة لخدمة الدين ، ينشره ويدافع عنه و يمجده ، وهذا يعني أن الإسلام ألغى الشعر من حيثُ أنه مصدر للمعرفة ، أو من حيثُ أنه طريقة أصيلة في استبطان العالم ، والكشف عنه ومعرفته ) . (5) ولذلك فإنه لابدَّ من تهديم الدين ليعود للشعر مكانته في تصوُّرِ هؤلاء ، وهذا ما تفعله الحداثة ، وهذا ناتج عن نظرتهم للإنسان بأنه مكان الله عزَّ وجلَّ : ( إنَّ جوهر الإنسان ليس في كونه مشروطا ، بل في كونه يفلت من الشروط كلها ، ليس في كونه مخلوقا بل في كونه خالقا ، فجوهر الإنسان هو في أنه كائن خلاق مغيِّر ، وجوهر الثقافة في التالي هو إذن في الإبداع المغيِّر ) . (6) .
إنَّ هذه الدعوات والمصطلحات جزءٌ من مؤامرة كبرى على هذا الدين وأهله ، وعلى المجتمعات الإسلامية ، بكل قيمها ومقوماتها ولغاتها وأذواقها ومعارفها ، ولإفساد اللغة وتفجيرها ، وإخراجها من دلالاتها ، وتمزيق بنيتها ، والخروج بالتالي عن جمالياتها، وعن المذاق العربي ، و وضع معايير للجمال والمعرفة ، والفنون تخضع لشهواتهم ، وتقطع الصلة بين هذه المجتمعات و دينها . وحين يستطيعون إفساد الذوق الأدبي ، وجماليات اللغة وإبداعاتها الأسلوبية ، وبلبلة الأفكار ، وتحطيم المعتقدات ، وبث الشكوك وإثارة الشبهات ، و دفع الأجيال للقبول في هذه المصطلحات يصلون إلى أغراضهم ، ويستخدمون في ذلك الغرائز والشهوات ، ويثيرون لدى الناشئة كلَّ الدوافع الحيوانية ، ويمجدون كلَّ انحرافاتهم ، ويطلقون عليها صفات الإبداع والعبقرية ، ليستخدموهم في هدم القيم و اللغة والدين ، ويشجعوهم على الخروج من قيمهم ، والاجتراء على دينهم ومعتقداتهم . ولذلك يدعون صراحة إلى خرقِ كل الثوابت لهذه الأمة في لغتها وعقيدتها وقيمها : ( وما نحتاج إليه هو إذن خرق هذا الحجاب ، ولا يتحقق هذا الخرقُ إلا بلغة تخرق تلك اللغة العامة المشتركة ) . ويصف هذه اللغة بأنها : ( لاتقدم الشيءَ بوصفه يقينا ، بل تقدمه بوصفه احتمالا ) ... وتصبح الأشياء : ( إشارات وعلامات أو آثارا غير مادية ) . (7) فهم لا يريدون أن يكون للإنسان مرجعية إلا نفسه وشهواته ، وعليه أن ينكر الله والدين والقيم ، وكل ما أنتجته البشرية من تراث جميل ، وقواعد وأصول وثوابت ترجع إليها . ويدعون إلى تغيير الذائقة العربية وإلى تكوين ذائقة مبنية على رؤية تتنكرُ لكل القيم ، وتدعو إلى الإلحاد ، وتأليه الإنسان : ( الإنسان هنا ــ لا الله ــ هو مقياس الأشياء ) . (8) وحين يدعون إلى ذلك يفتخرون ، ويعدون ذلك دعوة للإنسانية الصحيحة : ( فتجاوُزُ الوحيِ هو إذن تجاوز لإنسان الوحي، أي الإنسان المؤمن بربه ، والمصدق بما يوحي به إلى أنبيائه و رسله ، أي تجاوز الَّلإنسان إلى الإنسان الحقيقي ، إنسان العقل ، فالإلحاد لذلك ثورة حقيقية تهدف إلى تهديم سلطة يمارسها الإنسان باسم الوحي على الإنسان ، أو يمارسها باسم الغيب على الواقع ، إنه تهديم للبشرية وتجسيداتها الاجتماعية والسياسية ... الإلحاد توكيد على إرادة الإنسان الخاصة بحيثُ يكون عقله شريعتَه وقوته ، المقدس بالنسبة إلى الإلحاد هو الإنسان نفسه ، إنسان العقل ، ولا شيء أعظم من هذا الإنسان ، إنه يحل العقل محل الوحي ، والإنسان محل الله ، ومن هنا كان الإلحاد نواة لحياة المستقبل ، وفكر المستقبل مقابل التديُّن ) . (9) .
هذه الفقرات وغيرها ممَّـأ صرَّحَ به زعماء الحداثة واضحة في مراميها و أهدافها ، ولا حجة لأحد في قبول أيِّ صورة تدعو إلى الحداثة ، أو استعارة أي مصطلح من مصطلحاتهم ، لأنها منبثقة عن عقيدة إلحادية كافرة ، تحطم كل القيم الإنسانية ، لأنها تحترم العقل لا الإنسان ذاته ، فلو اختار العقلُ الإيمان بالله ، و وصل إلى يقين وطمأنينة لمنهج الله عزَّ وجلَّ يخرج من مفهومهم عن العقل وعن الإنسان . العقل هو الوحي ــ هو الله ــ والإنسان هو كلُّ شيءٍ ، أما إذا كان غير ذلك انتفت إنسانيتُه ، وهذا هو الكفرُ والحقد والطيش والشذوذ الذي توحي به الشياطين ، وتدعو إليه الحداثة والحداثيون .
هذه الخواطر تجعلنا ندعو الأدباء والشعراء والنقادالإسلاميين إلى تجديد هُويتهم ومناهجهم على هديِ هذا الدين ، و وفق منهج الله عزَّ و جلَّ وشريعته ، واستخلاص مصطلحاتهم وأساليبهم من التراث الأدبي المستند إلى كتاب الله عزَّ و جلَّ وسُنَّةِ رسوله r ، والتخلص من التردد والخوف والتزلف إلى تيارات الحداثة المختلفة ودعاتها المتلونين بكل وسيلة و طريقة . وشعرنا الإسلامي المعاصر مدعو لتجاوز مراتعه الحاضرة إلى استشراف آفاق الغد المأمول في حمل القيم الإسلامية . وحمل قضايا الإنسان المكرم من الله عزَّ و جلَّ ، المعذَّب بيد الجلادين باسم العصر والعولمة والتقنية والتقدم المادي . إنه مدعو لطَرْقِ شتى الموضوعات بجدِّية وأصالة وجمال . وعدم الانكفاء على صور محدودة ، وتعابير مكررة ، مع الحفاظ على الثوابت والأصول والقواعد التي ترسخت لهذا الفن . وأصبحت من أسرار الجمال لهذه اللغة الجميلة ، إنه مدعو لتجاوز قصائد المناسبات و وصف الأحداث ، والتباكي على الماضي ، لاستشراف المستقبل وكشف الزيف وبعث الهمم وإحياء الكرامة وتحويل الهموم إلى جهود واعية منظمة هادفة ، وجهاد عملي على صعيد الكلمة الطيبة ، والعمل الصالح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والفدائية في سبيل الله لكشف الزيف الذي يجلل المدنيات الحديثة المتألهة ، والقوى المادية الفاجرة ، والصور المأساوية للإنسانية والطبيعة في ظل النُّظُمِ التي خرجت عن شرع الله ، وراحت تحارب ناموس الحياة بجبروت متمرِّدٍ ، لا بدَّ وأن يتحطم ولو بعد حين . ومجال هذا الشعر ودنياه وموضوعاته واسعة ومتعددة و رحبة ، وآفاقه وعطاؤه بعيد ... بعيد ... وممتد .
أما شاعرنا ــ شريف قاسم ــ الذي كان له الفضل في إثارة هذه الخواطر بما أبدع و نظَمَ ، فهو من هؤلاء الشعراء الذين يحاولون أن يتمردوا على هذا التيار المنحرف الجارف ، ويقفوا بصبر و ثبات أمام هذه الدعوات المضللة ، وكانت قصائده جولات في عالم الإسلام ، تُصوِّرُ وتُسجِّلُ وتدعو للأمل ، وتحزن للواقع ، وتبعث العزم والثقة ، وتفضح الزيفَ والدجل والتآمر ، وتحاول أن ترسم للمسلم طريق الخلاص والفلاح ، يقول :
تفنى القرونُ ، ويبقى سِفرُ دعوتِنا |
|
للعالمين مدى الأيامِ تبيانا |
وهو في شعره يرافق الأحداثَ ، وينفعل معها ، ويعبرعن مشاعر المسلم الصَّادق نحو ما يجري هنا وهناك . في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك وفي الشيشان ، وفي كل بقعة من عالم الإسلام . ويبقى ــ في كل قصائده ــ شاعرا إسلاميًّـا ، عاش لدعوته ، ومضى واثقا من نصر ربِّه ، إذا صدقت النيات والعزمات ، ولذلك ظلَّ يردد مخاطبا قلبَه :
فامضِ يا قلبُ ، ولا تركنْ ألى |
عبثٍ يهفو إلى الخالين ســـلوى |
والديوان زاخرٌ بالمعاني والصور ، وهو يحمل هموم شاعرنا في رحلة الحياة ، ويعبر عن فنِّه ، ولذا فإن الوقتَ حان لأترك القارئَ مع هذا الديوان الحافل بشتى الصور ، والذي يحمل سمات الشاعر ، فلقد خرجت عن طريقة التقديم لتسجيل هذه الخواطر ، ولكنني اعتذرتُ منذ البدءِ ، وحسبي أنني وقفتُ على شاطئ هذا الشعر فرحا معجبا ، أدعو القرَّاءَ للخوضِ والسِّباحةِ في عبابه ، والتعرف على مافيه من لآلئ ومحارات ، ففي ذوقِ القارئ وفهمِه ما يمكنه من التعرف على مكانة هذا الديوان . والله الموفق .
الهوامش :
- انظر مؤلفات الشاعر في آخر هذا الديوان .
- كتاب ( مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي ) .
- (( الثابت والمتحول )) لأدونيس 2/113
- المصدر السابق ــ2/114
- المصدر السابق نفسه ــ 3/235
- المصدر السابق ــ 3/248
- جريدة الحياة ــ العدد 11928 ص20 تاريخ 25/جمادى الأولى 1416 هـ
- مقدمة في الشعر العربي 25
- الثابت والمتحول ــ 1/89
* نُشرت بمجلة البلاغ الكويتية ــ العدد 1710 ــ في 10/8/1427هـ
وسوم: العدد 1021