في "يسمعون حسيسها" اللغة فارسة الرواية

في "يسمعون حسيسها" اللغة فارسة الرواية

د. نجوى الصافي

عندما يكتب شاعر كأيمن العتوم رواية، يدخل إليها وهو يتأبط ذراع لغة حسناء زاهية .. فخوراً متباهياً بهاً، يقف هناك مصطهلاً منسجماً يعزف على أوتارها المترفة، يرفع يداً، فنحلق في فضاءاتها الفسيحة و خيالاتها الرحبة، يخفض يداً .. فيرينا عوالم مظلمة كئيبةً من الظلم و المعاناة الإنسانية متوترة متحفزة هنا، هادئة رتيبة هناك، صارخة زاعقة هنا، رزينة راقية هناك.

 لغة أيمن العتوم في هذه الرواية لغة فصيحة أنيقة، تجمع بين الشاعرية الراقية، وبين الواقعية التفصيلية، وقد استطاع أيمن العتوم الجمع بين هاتين الخصيصتين باقتدار، وفنية عالية، مع التحكم ببراعة بمستويات اللغة ومقاماتها، سواء في السرد الوصفي أو في الحوار.فقد جعلنا نبلع مرارة ما تضمنته هذه الرواية من قبح الفعل الإنساني، بجمال تشكيلاته اللغوية و سلاسة أسلوبه، و براعته في التصوير، و الشاعرية المرهفة التي تحيط بالنص، وتلفه بحنان فائق.

لغة السرد

 لقد جاءت الرواية على لسان الراوي الذي هو بطل الرواية الطبيب " إياد سعد " بصيغة المتكلم. وقد وزع الكاتب السرد بين الوصف و التداعي الحر و المنولوجات و الأحلام التي استخدمها بكثرة -بالذات في القسم الأول من الرواية- فنجد اللوحات الوصفية هي العمود الفقري للرواية تتخللها صور تداعي النفس حيث إنه في السجن ليس للإنسان سوى نفسه التي يستطيع أن يركن إليها، ويبثها همومه دون أن تشي به وتسجل ما يقول.

 أهم ما يميز لغة الرواية هي تلك الشعرية الرائعة التي تسري في مفاصل النص، و تتحكم بإيقاعه و موسيقاه؛ فعندما تكون الحياة حاضرة -حتى ولو كانت حلما- نجد الجمل تتراقص، و تضج بفرح الحياة "طفلة تقطف زهرة ... طفل يلهو بكرة ...شاة تثغو تحت شجرة ...نحلة تحط على بتلة زهرة تهم بأن تفتح ذراعيها للنور ...و أغنية تسافر في الفضاء تنثر الفرح على العابرين ...هذه هي الحياة .. نحب الحياة. خلقنا لمباهجها ... سأشرب من كأسها حتى الثمالة .سأرقص في ساحاتها حتى أدوخ ...سأعوض الحرمان الذي لف كل خلية من جسدي إلى عطاء دائم ..سأتسلق كل الأشجار التي لم أتسلقها من قبل .. .. سأركض في المسافات حتى تأكل الأرض من قدمي .. سأفتح ذراعي للشمس حتى تسقط بينهما " [1]

 وعندما يجثم الموت على صدر المشهد، نجد الكلمات ثقيلة ، و الجمل التي تعطي انطباعا بالجمود و السكون المخيف " و في لحظة خرساء . سكت الجميع . و انقطعت الأنفاس .و جمدت حركة الكون .و تخلى البشر عن كينونتهم لصالح الموت . طاف شبحه بالمكان .أعرف أنه موجود من رائحته. رائحته باردة ثقيلة و نفاذة ، و لونها الأزرق الجامد يغطي كل مساحة مرئية ممكنة "[2]

 عندما تكون المعاناة هي سيدة الموقف نجد الجمل لاهثة تعبة، تنوء بما تحمل من معانٍ ثقال "وعلت في المكان هيعة لم يسبق لها مثيل ... و ارتجت، وماجت الأجساد، و سقطت الأرجل، وسالت دماء كثيرة غطت الساحة بكاملها، وعلت صيحات لها رائحة لم أشم مثلها من قبل، رائحة تخترق الجسد إلى القلب فتدور فيه كأنها تجرفه تجريفا، رائحة متراقصة كمقصلة، صامتة كقنبلة، قادمة لا محالة كالقدر"[3] ... جمل حائرة متسائلة لا تريد ان تصدق و لا تريد أن تعي ما تقول، ولكنها الحقيقة المرة و يجب أن تقال و تسجل :"أكان السجن تأجيلاً لزمن ليس لنا؟!! أكان السجن غابة دخلناها سهواً فيما أعدت لغيرنا؟! أكان قلعة بنيت على أساس الوهم ووجدنا فيها أنفسنا ذات حلم ؟!"[4]

 وقد يحلق الكاتب في شعريته بعيداً، فنلمحه شيخاً صوفياً يلبس طاقية

 بيضاء و يطوح برأسه منتشياً مطروباً بالذكر و التسبيح و التهليل : "الله أكبر .... ألله أكبر إنها الكلمات التي تملأ الروح بشجن التائقين إلى السماء، الهائمين إلى الورد، الهاربين إلى الله، الملقين عن كواهلهم أوزار الحياة، الذائبين في عشق الحبيب الأعلى و الأجل، الناذرين أعمارهم لواهبها الأكرم، العاجلين إلى منعمهم الأول ليرضى، اللاجئين إلى حبيبهم ليرقى ....." [5]

 لغة "يسمعون حسيسها" لغة تتنفس قرآناً، بتلك التناصات المبهرة، والتضمينات الجميلة التي يوزعها أيمن العتوم بأسلوب يخدم الفكرة و يناسب العرض؛ فقد تعانقت التضمينات القرآنية مع البنية اللغوية، وتداخلت بسلاسة وانسجام دون إقحام أو اصطناع " بدأنا نركض، يمكن وصفنا (حمر مستنفرة )، أم (إبل هيم)، أم (مهطعين إلى الداع ) . برز عشرون وحشاً من الزاوية. ركضوا خلفنا كمفترسين، وركضنا أمامهم كطرائد مذعورة، و انغرزت أنياب السياط المغموسة بالماء المالح في جلودنا . و أكلت من لحمنا "[6] . وقد استعمل الكاتب هذه التضمينات لوصف أحوال هؤلاء التعساء، و كأنه وجد أن لغة البشر قد قصرت عن وصفها، وبما يوضح تماما أن العتوم يريد أن يتمثل لغة القرآن إلى أقصى الحدود فهو يستخدمها كصور بيانية و كعناوين لمقاطع الرواية : "و لا تحسبن الذين قتلوا.." تدمر كل شيء بأمر ربها " و "إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها " " يأتيكما طعام ترزقانه " "هارون أخي " "ثم إنكم بعد ذلك لميتون " "الذي علمهم السحر" .

 هذا بالإضافة إلى النماذج البديعة للتناص القرآني الذي ينتشر في الرواية كما يوزع النور في اللوحات الكئيبة ليضئ جوانبها المظلمة، و يعطيها جمالاً ساحراً على الرغم من قبح معناها ... " هل للجلادين ضمير ؟! هل يخزهم هذا الضمير إذا خلوا إلى أنفسهم ، و نكسوا على رؤوسهم ؟!أليسوا بشراً تجري في عروقهم دماء ؟!أما هالهم منظر الساقطين من السماء شهباً معلقةً على ألواح و دسر ؟!"[7] ، و هذا التناص البديع " و صاح هذا الشرطي البغيض بشتائمه المتتابعة أن ادخلوا إلى مساكنكم ، و كنا نملأ سهل السحق، و لم تكن من نملة واحدة قادرة على أن تفهم الجلادين لغتها لكي ندخل مساكننا بأمان، و لكي نلج مقابرنا دون أن تسحقنا أقدام العابرين من ذوي الرتب الواطئة ... كنا أقل من ذلك " [8] . وهكذا فقد شربت لغة الرواية من ألفاظ القرآن و مصطلحاته حتى ارتوت و تشبعت. وكأن أيمن العتوم يخاف على قارئه " المس " من شياطين روايته و عفاريتها، فيهدأ من روعه و يرقيه بكلمات القرآن و آياته و أسلوبه و فكره ...

لغة الحوار

 الحوار في هذه الرواية له خصوصيته البالغة، و قد أعطي مساحة أصغر من السرد. و هذا حق.. لأن السجن لا يتيح للأفواه أن تعبر عما في داخلها؛ ولذلك فليس هناك فائدة كبيرة من الحوار الذي يحكمه الخوف، فالذي يتكلم هناك هي السلطة و القوة ، حيث الصوت الواحد الذي يخرس الجميع و ليس من منطق إلا منطقها .

" دخل الرقيب يبحث عن اسم بيننا . ظل يبحث عنه دون جدوى. قال العميد :

_ ليس في مهجعنا ... ربما في مهجع آخر ..

_ كول خرا ولا .... أنا قلت بمهجعكن ..

_ تفضل دور اذا بتريد ..

_ ماني فاضي ... طلعلي ياه ..

_ مانو هون

_كيف ؟!... شو ...؟! بدكن تخلقوه مثل ما الله خلقكن ..

_ استغفر الله ( بصوت لا يكاد يسمع )

لم يكد ينهيها حتى سقط على الأرض من شدة الركلة التي وجهها الرقيب لبطنه :

_ قوم ولا ... قوم ... هات أي واحد من هالشرا.... بالناقص واحد يا أخوات الفلتا... " [9]

عندما يكون السجان هو من يحاور نلاحظ المستوى المنحط للغة، وقد حاول الكاتب أن ينأى بلغة روايته عن النزول إلى درك المفردات النابية، بأن دل عليها بالجزء الأول من الكلمة التي اضطر إلى تضمينها في الحوار على ألسنة الجلادين للدلالة على انحطاط مستواهم الخلقي .

 لقد زاوج العتوم بين اللغة الفصحى و العامية في الحوار و استعمل اللهجة الشامية و ألمح قليلا إلى اللهجة العلوية، عندما استعمل كلمة ( قرد ) بكثرة في قاموس الشتائم الكبير الذي كان يأتي على لسان السجانين

" _ كم قرد عندك و لا حيوان ؟!

_ 129 سيدي

_ خلي هالقرد يركب على هالحيوان ( و اشار لي أنا بالقرد و لأخر بالحيوان )

_ حاضر سيدي " [10]

 كما راعى أيمن العتوم الفرق بين المستويات البيئية و الاجتماعية في الحوار؛ جاءت الرواية بمقامات مختلفة أيضا حسب الحالة النفسية للشخصيات، فالحوار و النقاش وقت الهدوء يختلف عن مستوى الحوار وقت الغضب. فعندما اختلف السجناء في الرأي حول قضية دينية.. في البداية عندما كان التعقل سيد الموقف نجد الحوار يدور باللغة الفصحى و بألفاظ مهذبة رصينة "

_ لم فعلتم ذلك ؟!

_لم يرد عن الصحابة أن فعلوا ما فعلتم .(رد أحدهم)

_ و لم يرد عنهم أن فعلوا ما فعلتم !!(قال مرتجى)

_ لكم دينكم و لنا دين . " [11]

أما عندما يحمى الوطيس بين الفريقين، و تشتد وتيرة العصبية نجد كلاماً آخر وألفاظا ًمختلفة غير محسوبة انفعالية و غير متزنة تصدر من نفس الأفواه "

_ انتو كان لازم تؤمنوا بنبيكم الجديد الي راح فطيس، لأنو هالدين المؤمنين بيه من عند هيك أنبياء !!

_ ولك انتا ابن حرام تاتحكي هالحكي ." [12]

الزمان و المكان

 في السجن حيث الزمان مقيد في المكان و المكان يعتقل الجسد نجد اللغة في هذه الرواية مهرة أصيلة حرة رشيقة الخطوات، تتنقل بطلاقة و خفة بين قناطر الزمان و المكان و الجسد المعلق بينهم، تنقل لنا أدق الأحاسيس و المشاعر، و تصور لنا بصدق و إحساس عالٍ تشف معه جدران السجن أمامنا فنرى هذه المأساة المريعة بأدق تفاصيلها، حيث " كانت الشمس تهبط في الأفق لتأذن لليل بالقدوم، و كنا نهبط معها؛ بل كنا نهوي معها ، عفوا كانت الشمس تهرب من منظرنا التراجيدي، لتسارع في إسدال الليل ستاره على الفضيحة الإنسانية التي تمثل أمامها. .... ظل الليل يسكننا حتى نسينا من نحن، و ظل يغلف قلوبنا حتى ظننا أن النهار لا يطلع إلا في الحياة الآخرة "[13]

 لقد استطاع الكاتب أن يشعرنا بوطأة الزمن الشديدة، وهو يعد الأيام و الأشهر و يحفر بأظافره أعداد الأيام و السنوات في داخل دماغ القارئ، كما حفرها زياد على جدران سجنه فلا تفوته إشارة زمنية إلا و يسميها كعام الجوع و عام الرمادة، ولا يترك مفارقة زمنية إلا ويذكرها، مثل أغنية فيروز ( على الطاحونة شفتك على الطاحونة ) والتي كان يوم إذاعتها يوم الإعدامات في تدمر ... فالزمن يمر كسلحفاة ثقيلة الخطى " كيف يمكن تعريف الزمن هنا؟! الزمن خارج من نفسه.... كتلته المتحركة تتأخر عنه وهو يراوح مكانه ... الزمن استطال على الجانبين .بعج قلوبنا. بطيء جدا. أقدامه تدور كمغزل في مواضعها ....... نمضغ ماسة الوقت، وندرك تماما أنها أصلد من كل عداها !!"[14]

رغم أن الكاتب يصف المكان بأبعاده الواقعية ؛ ولكنه يتعامل معه بإنكار فهو يشكك باحتمال وجوده طوال الرواية " أين يقع هذا المكان ؟ّ! .....هل هذا المكان حقيقي أم من صنع الخيال ؟! " [15]

حتى العناصر الطبيعية التي تشكل المكان داخل السجن لا يعترف أنها نفسها خارجه: "الظلال هنا التي تشكلها جدران العنابر و المهاجع ليست تلك الظلال التي تشكلها هناك أشجار الحور على ضفاف الجداول ..... السماء التي تبدو لمسترقي النظر من خلال الشراقة هنا ليست السماء التي

تبدو لمستلق على بساط أخضر و يرسل طرفه في الأعالي " [16]

 و كلما ازداد عمر الزمان اشدت ضراوته، وزاد فتكه، حتى كسر العظمة التي كان يحفر فيها بطل الرواية "إياد "أعداد الأيام، و امتلأ المكان بإشارات الزمن و ازدحمت على جدرانه ...

 ثم ضاقت حلقات الزمان و المكان على الجسد المنهك المتعب حتى استحكمت عليه وعصرته ثم عجنته عجنا حتى صارت معه كتلة واحدة : " غابت عني الوجوه في العتمات الكثيفة، بل غابت الحياة نفسها.... الظلمة تغشي كل شيء و تغشى نفسها؛ فتتداخل الظلمات في دوائر تتوسع كصدى حجر في بحيرة ..يصنع عددا لا نهائياً من هذه الدوائر، تحولت أصابعي إلى عيون، وأقدامي إلى مآق، و جسدي إلى مقل محدقة في الأديم الأسود. كان علي أن أضيف حاسة البصر إلى حاسة اللمس حتى أقتنع بوجودي في اللاوجود"[17]........

               

[1] رواية" يسمعون حسيسها " ص208

[2] الرواية ص288

[3] الرواية ص332-333

[4]الرواية ص262

[5] الرواية 344

[6] الرواية ص184

[7] الرواية ص125

[8] الرواية ص104

[9] الرواية ص150

[10] الرواية ص285

[11] الرواية ص336

[12] الرواية ص337

[13] الرواية ص94

[14] الرواية ص149

[15] الرواية ص92

[16] الرواية ص209

[17] الرواية ص349