القضية الفلسطينية في شعر صالح محمد جرّار

جاء في مقدّمة ديوان ـ رحلة الأيام ـ للشّاعر ـ صالح محمد جرّار ـ كاتب هذه السّيرة :" وإن الشاعر المسلم ،يُجدّد بشعره الهمم ، ويثبت العزائم ، ويحث على المكرمات ، ويدفع إلى الجهاد ،

والذّب عن المقدّسات ، فهو يؤمن بأدب القوّة ،وخاصّة إذا غزيت الأمّة في عقر دارها ، وهُتِكت محارمها ، وديست كرامتها ، ودُنِّست مقدّساتها .

ولهذا كلّه ، جئتكم ، يا إخوة الإسلام ،بمساهمتي هذه الشّعريّة المتواضعة ،لعلّها تلتقي مع مثيلاتها المخلصة ، فتُكَوّن نهراً دفاقا يصبّ في بحر الإيمان ، فيُحطّم موجه الغلاّب ـ بإذن الله ـ كلّ مركب لأعداء الإسلام ، وعندها ، يصدق فينا قوله ـ تعالى ـ : " وقل جاء الحقّ ،وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ."

وجاء في إهداء الجزء الثّاني من ديوان رحلة الأيام ـ جهاد وشهادة ـ :

إلى الطّير الأبابيل الّتي ترمي عدوّ الله بحجارة من سجّيل ، إلى الّذين أنعم الله عليهم من النبيين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين ، إلى الّذين جاهدوا في سبيل الله حقّ جهاده بأيّة وسيلة من وسائل الجهاد، إليهم جميعا ً، أهدي مجموعتي الشّعريّة ، ـ جهاد وشهادة .

     درب المجاهد شائكٌ وطويلُ          لا يرتضيه العاجز المهزولُ

       بل يرتضيه مجاهدٌ حمل اللوا         والحسنيـان خياره المقبولُ

                                               ــــــــــــــ

من تلك الكلمات الصّادقة المخلصة ، الّتي تشعّ نوراً هاديا ، وناراً ملتهبة ، نعلم توجّه الشّاعر الواضح الّذي يرفع راية الجهاد بيدٍ ، ويرفع راية الوطن الوطن والمقدّسات ،وجهاد العدوّ في اليد الأخرى !!  

وليس هذا غريباً من شاعر وُلد سنة 1931م فوجد وطنه تحتله أقوى دولة استعماريّة ، بل استخرابية ، وهي بريطانيا المجرمة ،بعد أن انهارت دولة الخلافة العثمانية الإسلامية ، وقد جاءت تلك القوّة الغاشمة لتُؤسّس لشذاذ الآفاق دولةً على أرض الإسراء والمعراج ، على أرض فلسطين الّتي روّى ثراها دم الشّهداء من آبائنا وأجدادنا وسادتنا من الصّحابة والتّابعين

وسمع الشّاعر ،وهو يافع ، هتاف المجاهدين ،وتلبية الثائرين على المحتل ،وردّد مع زملائه الطّلاب ألأناشيد الوطنية الّتي نظمها شعراء فلسطين الصّادقون ،ومنها نشيد ـ موطني ـ للشّاعر إبراهيم طوقان :

         موطني، الشّباب لن يكلّ           همّه أن يستقلّ أو يبيدْ

         نســــــتقي مـــن الرّدى           ولن نكون للعدا كالعبيدْ

.........الخ

ورأى الشّاعر أساليب القمع والبطش في الشّعب الفلسطيني ، وعرف خطط الاستعمار والصّهيونية لتهويد فلسطين ،وطرْد أهلها بشتّى وسائل الإجرام. رأى ذلك كلّه ، ووعاه في قلبه وذاكرته ،حتّى إذا شبّ ، وانطلق الشّعر على لسانه ،راح يترجم مشاعره ، وأحاسيسه بشعر ملتهب، فما إن تقع عينه على مشهد صارخ من مشاهد بطولة هذا الشّعب،ومقاومته العدوّ المحتلّ ، أو مشهد من مشاهد البطش والتّنكيل بهذا الشّعب الأبيّ ، أو مشهد من مشاهد التّخاذل والنّذالة من الزّعامات العربية والإسلاميّة، أو مشهد خائن ٍ عميل لعدوّ الله والوطن ،فيسجّل كلّ ذلك لحناً ملتهباً ، تردّده المشاعر والأحاسيس.

فلْنسر مع الشّاعر في ديوانه ـ رحلة الأيّام ـ لنرى مشاهد عاشها ، وآفاقاً حلّق فيها ، وهو يبثّ فينا هوى فلسطين وأساها ، ويُعطّرنا بعطر دماء الشّهداء الأبرار من أهل فلسطين الصّابرين ، ويُمجّد انتفاضة الشّعب الأسير ، ويكوي العملاء والخائنين ،والمنافقين والمتقاعسين ، يكويهم بلهيب شِعره، وسياط كلماته ونبراته،ويُصبّر إخوانه وأبناء شعبه على ما يلقى من مآس ٍ ونكبات على أيدي الأعداء المجرمين , ولا يسمح المجال بذكر الأمثلة الشّعريّة لذلك كلّه ، ولكن نكتفي بأمثلة يسيرة لبعض تلك المواقف .

فيقول من قصيدة بعنوان ـ البطل الشّهيد ـ يصف فيها مصرع البطل الشّهيد ـ فتحي عيسى قانوح ـ في 24 /3/ 1982م بأيدي قوّات حرس الحدود الإسرائيلي المجرمين، وقد شاهد الشّاعر مصرع ـ فتحي ـ عن كَثَب ، وهو يهوي بسكّينه على أجسام الجنود :

   نفض الجناحَ ، وراح مُنْقضّا             بالنّصْل يُنْهي للعدا نبْضا

   لم يخشَ أسلحة تُصَوّب نحوَهُ             عزْم الشباب أشدّ بل أمضى

روح الشّبــاب أبــــيّة جبّــارة           تهوى المنونَ وتمنع العِرضا

ودم الشّبــاب لهيـب ثأر حارقٍ         يصلي العِدا ويُحَرّر الأرضا

     قد هبّ ـ فتحي ـ وانتضى سكّينه   لِيُــقاومَ الرّشّاش أو يُقْــضَى

       ........

إلى أن أقول :

ورأيتـــه ليــثاَ يــخرّ مجَنــْدلا         حُمّ القضاءُ ، فلا ترى نقْضا

وهذا شابّ شهيدٌ ، رفع الأذان لصلاة الفجر في مسجد ـ واد برقين ـ جنين ـ في 18/4/1978م،ثمّ حمل الزّجاجاتِ الحارقة ليقذف بها الصّهاينة في مدينة جنين ،وما إن أتمّ ذلك ،حتّى أمطروه بوابل من الرّصاص ،فخرّ شهيداً ,إنّه البطل ـ سامي محمود شعبان ـ

فاقرأ قول الشّاعر من قصيدة في رثاء ـ سامي ـ :

أعلى الأذان لفجٍــرٍ ظـلّ يرقبــه     ثمّ انثنى يشتري بالرّوح أُخراهُ

لبّـــى النــّداءَ وكان الله داعيــَهُ       وأرخص العمر حين الحقّ ناداه

ما مات سامي ولكن قد مضى بطلاً وهل يمــوت وقــول الله زكّـاه؟!

إنّ الشّـهيـد لحيّ عنــــد بارئــــه   مـكـرَّمٌ بـنـعيــمٍ كـان يــهواهُ

ويقول :

لمّا رأى الحقّ سامي ليس ينصرُهُ       إلاّ الكـفـاحُ وظِـلّ الله يغشـاه

أعطى الشّبابَ دروساً ليس يعرفها       إلاّ الّذي ارتــفعــت لله يُمْناهُ

ويقول :

لو كان مثلك يا سامي الشّبابُ لما     تجرّع العُرْبُ ذلاًّ أنت تأباهُ

واقْرأ تمجيده الانتفاضة ، والشّبابَ الثّائرين ،ووصف بطولتهم ، وتعنيف المتقاعسين الجبناء من الزّعامات العربية والإسلاميّة :

تلفـّت الدّهرُ في زهوٍ فحيّاني       أنا المدافع عن ديني وأوطاني

   وراح ينظر في سِفر الخلود فما     تبـيّن الدّهـرُ فيـهِ غيـرَعنـواني

   عنـوانيَ القـمّة الشّمّـاء تعشقها     كلُّ النّسور! فمن يرضى بقيعانِ ؟!

ويقول :

هـذي فلسطيـنُ ،نارُالبـغي تحرقها   أمـا لهـا نـجـدةٌ من غيث عدنان  

عـاد التـتـارُ ،ولـكـن لا أرى قطُزاً         هل أقـفـرالعُرْبُ من راعٍ لأوطاني؟!

ولقد شاهد الشّاعرشباب الإيمان المؤمنين بالله وقضيّتهم الفلسطينيّة ، شاهدهم يؤدّون فرضهم في المسجد ، ثمّ يخرجون ليؤدّوا فرض الجهاد ،متسلّحين بالحجر والسّكين والزّجاجات الحارقة ،رآهم أسوداً ونسوراً ،غير عابئين بسلاح عدوّهم الفتّاك ، فتلهب مشاعره ،فيقول من قصيدة بعنوان ـومن المساجد ينبع الظّفَر ـ :

       هجم الفتى ، وبكفه الحجرُ       لا الخوفُ يثنيه ولا الخطرُ  

       ومضى يردّد آية نـزلـت         إمّا الشـهـادةُ ثَـمّ أو ظـفـَرُ

       ومـضى يُكَبـّر ربّهُ قـدُماً         وتـثيـرهُ الآيـاتُ والــذِّكَـَرُ

ويقول فيها :

         يا إخْـوَةَ الإيمان هل عُمُرٌ         يزكو بغير جهاد مَن كفروا ؟!

       لا، لن نذلَّ ،وذي حجارتنا         رمـز الإبـاء وإنّـهـا نُـذ ر

ويقول :

       ربّاهُ ، باسْمكَ مُطْلِقٌ حجري   فـا قـْتُـلْ به مَن أزّه البطَرُ      

       يا إخـوتي ، صبـْراً فـليس لنا     إلاّ الثـّبـاتُ ويُسْفِرُ القَدَرُ    

        

وهكذا تأثرتُ بقضية فلسطين ، قضية الإسلام الكبرى ، قضية الأقصى وأولى القبلتين ، قضية أرض الإسراء والمعراج . قضية تمتد جذورها وأصولها منذ عهد الرّوم ، مروراً بالحَمَلات الصّليبية وغزو التّتار ،واحتلال بريطانيا والصّهيونية وطني المبارك حتّى اليوم

وكيف يحيا امْرُؤٌ من غيرموطنه ؟!   هل يزْدهي زَهَرٌ إلاّ على غُصُنِ ؟!

وليس عجيباً أن يتّقِد القلبُ بهذه المشاعر وقد وُلِدتُ بين أنياب الاحتلال البريطاني وبراثنه، وعشتُ ولهب الثّورة الفلسطينية ما خمد وما استكان ، فثورات متلاحقة ، وانتفاضات متتابعة ، وقوافل الشهداء تترى ، وعويل المآسي يفتّتُ الأكباد ، ويحطّم القلوب . ومع ذلك فإننا لماضون حتّى النّصر ـ إن شاء الله تعالى ـ

وأنا فلسطيني ، ملأ حبُّ فلسطين قلبي ، وملك عليّ مشاعري وإحساسي وفكري ، فتوهّج الشعور

شعرا لاهباً يحرق المحتلين والمتآمرين والسّاقطين

   فالظّلم فجّر بركاني وأطلقه     كيف السّكوتُ على تحطيم أركاني ؟!

هذي فلسطين نار البغي تحرقها   أما لـها نـجـدة مـن غيـث عـدنـان

يا لـيـت مـعتـصـمـاً بـالله تبلـغهُ     هذي الـنّـداءاتُ مـن أمٍ وفـتـيـانِ

يا ليت فينا صلاحَ الدّين ممتطياً   خـيلَ الـجهـاد لفكّ المسجد العاني

وأخيراً ،فإنّ شاعر النيل يقول :

إذا تصفحْتَ ديواني لتقرأني   وجدت شعر المراثي نصف ديواني

أمّا أنا فأقول :

إذا تصفحت ديواني لتقرأني     وجدت حبّ الحمى روحاً لديواني

وسوم: العدد 1099