الرواية القصيرة جدا موجبات الولادة، وأشتراطات التجنيس

sdsd11041.jpgsdsd11042.jpg

الفن والأدب والتطور الاجتماعي :-

الأبداع الأدبي مرتبط إرتباطا وثيقا بحياة الأنسان، ومنذ أقدم العصور، كحاجة روحية تعيد للأنسان توازنه، وحتى قبل أن يعرف الكتابة، كان يرسم ويقرأ مدلولات صوره على الأحجار وفي داخل الكهوف وعلى جذوع الأشجار، حيث يبدو الفن في طفولة البشرية كوسيلة سحرية لتلبية حاجات مادية وروحية أنسانية، ترتبط بالطبيعة وفيما ورائها. وقد كان الشعر أي الكلام الممغنط والمموسق المتلائم مع ما تفرزه الطبيعة من أصوات المطر والرياح والشلالات وخرير المياه، وتلاطم أمواج البحر، وحفيف أوراق الأشجار بالأضافة الى أصوات الطيور والحيوانات…
وقد إرتبط تطور الآداب مع تطور حياة الناس، إنتقالا من حياة القطيع والصيد والألتقاط، الى الزراعة وأكتشاف النار، الى صناعة الأدوات الحجرية البدائية، وأكتشاف المعادن كالحديد والنحاس… التطور من مرحلة المشاعية البدائية الى مرحلة الأقطاع وتشكيلاته الى عصر النهضة وهيمنة البرجوازية من خلال الثورة الصناعية في عصر النهضة، وهيمنة البرجوازية على السلطة والثقافة، فقد تطورت الفنون كافة من حال الى حال، وتطور الرسم من الأنطباعية الى التجريد والسريالية والدادائية، والشعر من الوزن والقافية الى التفعلية فالنص النثري والومضة والهايكو( البناء الثقافي رغم أنه بصورة عامة إنعكاس للبناء الأساسي المادي في المجتمع، فأنه ليس انعكاسا آليا وليس تعبيرا سلبيا – فالعلاقة بين اأثنين علاقة تأثير وتأثر دائبة، قانونها التفاعل والتداخل ))الدكتور عبد المنعم تليمة – مقدمة في الادب ص9..

والسرد من الملحمة الى الرواية وهي بيت القصيد هنا حيث تمثل فيشكلا متطورا من التفاهم البشري مع ذاته ومع الأنسان الآخر ومع الآلهة، معبرا عن هذه الرغبة للتواصل مرة بالحركة والايماءة والرقص، ومرة بالصورة، وفي مرحلة متأخرة ومتطورة باللغة والكتابة، ففي البدء كانت الرواية الخيالية وحكايا الجن والآلهة والملاحم الى الرومانسية ثم الرواية الواقعية بمختلف أهدافها، وكل هذا يرافق ظروف الحياة الأنسانية المعاشة في كل مرحلة وكل أسلوب أنتاج وعلاقات أنتاج، وطبيعة العمل في هذه المرحلة من التطور ف(( الفكر العلمي يرجع بالامرين معا – الاقتصادي والثقافي – الى أصل واحد ، هو العمل – باعتبار أن العمل هو النشاط البشري الذي يحول موارد الطبيعة الى ثروة، وتتحول خلاله العلاقات الى ثقافة .. أن الثقافة ذات طبيعة أجتماعية لأنها راجعة الى العمل كعملية اجتماعية فهو مصدرها ومفسرها ) هذا هو القانون الشامل )) المصدر تفسه ص 10

وحسب متطلبات وحاجات وثقافة كل طبقة أجتماعية…
فالرواية كما هو معلوم هي ملحمة البرجوازية بأمتياز، هي الطبقة التي عاشت في بحبوحة من الرفاهية والتمتع بوقت فائض، حيث تعتاش وتعتصر جهد وفكر ووقت الطبقات الكادحة من العمال والمهندسين المهرة، فهذا الوقت الفائض بحاجة الى مايشغله فكانت الرواية أحدى هذه الوسائل. وقد كتبت بإسهاب كبير بحيث تجاوزت عشرات الآلاف من الكلمات والمئات من الصفحات، فمثلا رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست 1200000 كلمة ، تناولت زمن انعزال الشعوب عن بعضها البعض، مما أدى الى عدم معرفة تفاصيل حياة وثقافة كل منها، و أختلاف المعمار بين مختلف القوميات والشعوب والطبقات الاجتماعية، مما يستدعي من الروائي الإسهاب في ذكر أدق التفاصيل حول الشخصية الروائية كالبطل والشخصيات الثانوية من حيث الشكل العام للجسد ولون البشرة والعيون والطول والقصر وقوة أو هزال البنية العضلية، طبيعة الحركات والسكنات للشخصية وما يميزها عن غيرها، بل وشكل الملابس وموديلاتها لكل طبقة وفئة اجتماعية وما يميز كل طبقة عن غيرها وكل قومية عن سواه...


الاجناس الادبية – الولادة والتطور، الثبات والتحول-


لم تأت الاجناس الادبية منزلة من السماء، ولم تولد مرة واحدة في حضن المبدع الانسان، انما هي كانت منذ البدء مرادفة الى احساسات وهواجس الأنسان ضمن فترة زمنية معينة، متناسبة مع ظروف اقتصادية واجتماعية محددة، حيث يجد الانسان انه بحاجة الى التعبير عن افكاره وأحلامه وطوماحاته بهذه الطريق أو تلك ولاشك انها كانت عبارة عن حركات وإلتواءات واهتزازات للجسد، تتوسل او تغري او تخيف، وحسب علاقة الانسان بالمخاطب.
لا نريد ان نسهب في عرض تأريخ الاداب والفنون، ولكننا نريد ان نوضح عملية التطور لهذه الاداب والأجناس من جنس الى اخر: الشعر، والحكاية والرواية، قصيدة العمود والحر والنثر والنص المفتوح، القصة الطويلة، القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا والومضة.
وهنا لايمكن ان تختلف الرواية – هذا الفن المديني بامتياز – عن بقية الاجناس الادبية، فالرواية ولدت بإحجام وأساليب مختلفة، وكتبت وفق مدارس ادبية وفنية متنوعة. فهناك الرواية الطويلة جدا والمؤلفة من عدة اجزاء، والرواية الطويلة المؤلفة من عدة مجلدات، الرواية المتوسطة، الرواية القصيرة وهنا فلا غرابة ولا شذوذ ان يولدنوع من جنس روائي يحمل اسم الرواية القصيرة جدا.
ففي بداية كتابة الرواية التي رافقت عصر التنوير ونهوض البرجوازية الاوربية، وشغفها الكبير في اكتشاف المجهول والبحث في ادق التفاصيل، سواء في الطبيعة ومتطلبات السيطرة عليها عبر تملك ادق التفاصيل عن مكوناتها، من مياه وبحار ونباتات وحيوانات، ومكونات التربة واكتشاف المعادن المختلفة وخصائص كل منها.

ان الضرورة الملحة لكي يمد الرأسمال نفوذه في كل ارجاء المعمورة، تطلب دراسة اساليب حياة البشر وعاداتهم: مسكنهم، مأكولاتهم، درجة تعليمهم، ما يحبون وما يكرهون، دراسة تفصيلية لنفسياتهم، كمن يكتشف خواص احد المعادن لغرض تطويعه واستخدامه في مختلف الاغراض الصناعية والزراعية والحربية.
ان الحاجة للإيغال في التفاصيل انعكست بشكل كبير على الادب، وقد استجابت له استجابة كبيرة واشبعت فضوله الرواية الطويلة، التي لم تترك شاردة ولا واردة، صغيرة او كبيرة إلا ذكرتها بخصوص اسلوب حياة الشخصيات وعاداتهم: ملبسهم، مأكلهم، معمار البيوت والمدن التي يسكنوننها …. الخ. فمن يقرأ احدى هذه الروايات يستطيع ان يكوّن صورة شبه كاملة عن احوال الناس – موضوع الرواية – ومعرفة ادق تفاصيل حياتهم بما فيه شكل افرشتهم وغرف نومهم وأثاث بيوتهم، حركاتهم وسكناتهم وطريقة حديثهم، بما يميزهم عن غيرهم وتكون لدى القارئ صورة شبه كاملة التوصيف في مخيلته. كان الكاتب يضطر للسفر الى هذه الاماكن مهما بلغت من البعد والاختلاف عن بيئته، يعبر البحار ويقطع القفار؛ ليكون صورة واضحة عن ابطاله لتكون كاملة مكتملة امام انظار القارئ، فلم تكن وسائل الاتصالات متطورة بما فيه الكفاية ولم تكن الفضائيات ووسائل نقل الصورة كما هي في عصرنا الراهن، حيث اعطتنا ادق التفاصيل حول كل ما ذكرناه انفا. تتميز الرواية الطويلة بنت الوقت الفائض، بنت التلقين للمتلقي والتي لاتترك له حتى أن يلتفت الى ما حوله، المتسيدة التي لاتدع المتلقي يتخيل الحدث، يتخيل الشخصية، وشكل المكان، ولا تسمح أن ينفذ القاريء بقدرته الذاتية وحنكته على استنطاق الشخصية وفهم سلوكياتها، بل عليه أن يتلقى كل شيء من الراوي فهو كفيل أن يصف له كل شيء كل شاردة وواردة من سلوكية الشخصية((الراوي العليم والراوي كلي العلم))، ماتحب وماتكره، المكان طبيعته ومواصفاته، القمر هل كان بدرا او هلالا، تفاصيل أثاث الغرف لون الجدران واشكال الثريات، مائدة الطعام والصحون والملاعق والصواني والأباريق وووو..
أنها تشبه خطيب مهيب يعتلي منبر متعالي يلقي خطابه ومواعظه ويروي مايشاء وما يتخيل وما يتصور ليسكبه في دماغ المتلقي الذي يجلس صامتا تحت منبره ليس له أن يضيف أو يتخيل أو يشطب ما يقتنع به بل يهز رأسه بالقبول والأستماع لما يقول سيده الراوي العليم والراوي كلي العلم، وربما تطول هذه الخطبة وهذا القبول والأستماع أياما وليالي وربما أسابيع حتى ينتهي من قراءة رواية من أربع أجزاء أو أكثر بالآف الصفحات.فالقول ماقاله هوغو والقول ماقاله ديستوفسكي والقول ماقاله تولستوي وخير ما قالوا…
الراوي في الرواية التقليدية يفرض ما يريد على القاريء المتلقي دون ان يكون له حق في الأعتراض.هذا كان في بداية نهوض البرجوازية وعدم تطور وسائل الانتاج ووسائل النقل والمواصلات بين القارات وبين الشعوب، وصعوبة التواصل حتى بين مناطق ومقاطعات البلد الواحد.وما أن اشتد ساعد البرجوازية وتمكنت من طرح المزيد من المنتجات الجديدة والمتطورة، حتى أخذت تبحث عن الأسواق الخارجية لتصريف الفائض وللحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة، فكان الأستعمار وأحتلال البلدان، مما تطلب تطور وسائل النقل والتواصل كالبواخر والقطارات والسيارات، فوفر للفرد في هذه البلدان مزيدا من المعلومات عن الآخر في قارة أخرى وشعب آخر وبلد آخر غير بلده وقومية غير قوميته، مثلا ان تعرف معلومات عن الشرقي العربي والمسلم والزنجي الأفريقي والهندي الأحمر والصيني والياباني..الخ، كما أطلع على شكل معمار السكن والعمران والطرق وما اليه من عادات وتقاليد… وبذلك إنتفت الحاجة أو تضاءلت بالنسبة للروائي للأسهاب في ذكر هذه التفاصيل كما وصفها أول من شاهدها وكتب عنها من تعريف وتوصيف للأشخاص والأماكن، فالقاريء والمتلقي قد استبطنها مسبقا، وبذلك تطلب الواقع إختزال الكثير من حجم الرواية حيث تطورت وسائل النقل والمزيد من وسائل التواصل بين القارات والشعوب، مما وضع الأديب والفنان أمام خيار لابد منه الا وهو الأبتعاد عن الأسهاب المفرط، فكانت الرواية القصيرة هي المعبر عن مثل هذا العصر حيث تتراوح صفحاتها بين اقل من 100 صفحة الى 200 صفحة وعدد كلماتها قد لاتزيد عن 20000كلمة. حيث توفرت وسائل النقل متوسطة السرعة وانتشار التلفزيونات والسينما والسفن البخارية والسيارات، وإمكانيات السفر التي تستغرق أياما أو أسابيع أحيانا… رافق كل هذا ما أفرزته الحياة من متطلبات حياتية متواضعة نسبياً لاتشغل أعظم وقت الأنسان الأعتيادي، وعدم هيمنة ثقافة الأستهلاك والتسليع كما سيكون عليه الحال لاحقاً، مما أتاح للمثقف والأنسان من الطبقة المتوسطة وبعض طبقة العمال المهرة الوقت لساعات للأهتمام بالغذاء الروحي متوسط الحجم والكلفة كالرواية مثلا، التي أتت بحجم يتلائم تماما مع وقته المتاح.

التكثيف والاختزال من متطلبات عصر العولمة:-


أما في عصرنا الحالي حيث الآلاف من الفضائيات التي تبث عن طريق الأقمار الصناعية والتي تغطي كل الكرة الأرضية، والتوصيف والتعريف بأدق تفاصيل عادات الشعوب والقوميات وتقاليدها وشكل معمارها وحتى نوعية المأكل والملبس لكل منها، وحتى شكل غرف الضيافة وغرف النوم والحدائق والمتنزهات والشوارع والساحات، والثورة الهائلة التي أحدثها الانترنيت وسهل التواصل بين شرق الأرض وغربها خلال ثوان معدودة، وبث الملايين من اليوتيوبات التي تتناول أشكال وعادات وطرق حياة كل شعب من شعوب العالم من الاسكيمو الى اقصى غابات أفريقيا
كذلك تميز عصرنا الحالي عصر العولمة الرأسمالية بهيمنة ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شيء، مما خلق حاجات متزايدة في حياة الانسان اليومية، يعمل توفيرها كنار تلتهم وقت الانسان المعاصر للوصول الى الحد الأدنى منها.
هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكل فعالية إنسانية، في عالم لاهث راكض، يعتمد السرعة في كل شيء، في العمل والأكل والحديث والتمتع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للأنسان كالافلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للأنسان الراكض دوما في مسيرة الحياة، وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعا شديد الاختزال من الرواية وما اسميناه بـ (الرواية القصيرة جدا)وهو نوع جديد من أنواع جنس الرواية.
حيث وفر الواقع العلمي والثقافي للروائي المزيد من أمكانية الحذف والاختزال لما اصبح شائعا ومعروفا ومتداولا بين الناس من شكل الملابس وتوصيف المساكن وأثاثها، وتوصيف شخصية البطل بأقل الكلمات، وعدم وجود حاجة الى الأسهاب في سرد الحوار المضمر الداخلي للفرد الذي يعبر عن مشاعره وهواجسه وتطلعاته، فقد أصبح الانسان في العالم الرأسمالي معلوم الهواجس للمثقف وللعامل والرأسمالي والطالب والرجل والمرأة، وكذلك في العالم الثالث أو مايسمى بعالم الأطراف، فإختزال هذا الكم الهائل من الأشكال والمشاعر والتصورات التي إستبطنها القاريء المتلقي من خلال وسائل التواصل الأجتماعي والفضائيات واسعة الأنتشار دعا الروائي الى الاستغناء عن عرضها أمام أنظار القاريء، نعم لاحاجة لما تعرضه لي أنا الأسيوي عما يشرب ويلبس ويسكن ويفكر صديقي من فرنسا الذي ألتقيه كل يوم عبر الصورة والصوت بواسطة الأنترنيت وربما أعرف أدق التفاصيل حول حياته الشخصية وحتى حياة عائلته.
فحينما يذكر الروائي برج ايفل أو الساحة الحمراء أو نصب الحرية في العراق أو ناطحات السحاب أو مسرح البولشوي، سرعان ما تظهر بكل وضوح كل تفاصيلها في مخيلة المتلقي لأنَّه يعرفها أما من خلال سفره الذي اصبح ميسرا لأغلبية الناس أو من خلال الفضائيات، وكذلك عند ذكر اسم أحد الأعلام في السياسة أو الأدب أو الفلسفة في العالم مثل جيفارا أو ماركس أو جورج واشنطن أو بوتين أو ماكرون أو بايدن أو نيرودا و أراغون وكذلك مشاهير الرياضيين تحضر كل تفاصيل وتأريخ هذه الشخصية في مخيلة القاريء والمتلقي لأنه شاهدها ربما آلاف المرات في التلفاز وفي وسائل التواصل الأجتماعي. حيث أصبح كل بيت في العالم لايخلو من جهاز التلفاز وتوفر شبكة الانترنيت وأمتلاكه لجهاز نقال ينقل له كل شيء…
فعندما يتحدث الروائي في عصرنا الراهن حول عمارة سكنية مثلا ليس بحاجة الى توصيف وعرض محتوياتها وتأثيثها ولكنه يكتفي بعرض (الماكيت) أي النموذج المصغر للعمارة دون الدخول في تفاصيل محتوياتها من حيث السلالم والتأثيث ووسائل الإنارة والتبريد والستائر… الخ كما كان يسرده بأدق التفاصيل الروائي في العصور السابقة للعولمة، حيث أن المتلقي قد استبطنها مسبقا من وسائل التواصل الحديثة أو عن طريق السفر المتيسر.. فلاحاجة الى توصيف الشخصية والاكتفاء بذكر علاماتها الفارقة…


وبذلك فالرواية القصيرة جدا بحجمها المختزل كثيرا الى كتيب أو كراس جيب صغير لاتحتاج أكثر من وقت الجلوس في قطار سريع متنقل بين المدن أو زمن سفرة تمتد لساعة أو اكثر من بلد الى أخر أو سيارة على خط سريع، هذا الوقت المتاح للأنسان في عصر العولمة الحاضر، هذه الرواية التي لاتزيد كلماتها على 5000 كلمة ولاتزيد صفحاتها كما نرى على 50 صفحة وقد تكون اقل من ذلك بكثيرفمثلا رواية هذيان محموم بحجم كتيب 14 سم عرض و 16 سم طول وبعدد صفحات 86 صفحة بقدر الكف مع المقدمة لاتزيد عن 22 صفحة أي فور                             sdsd11043.jpg

فالأنسان في عصرنا الحالي مشغول دوما بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لاتترك له مشاغله اليومية إلا حيزاً محدوداً جدا من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموما. مما جعل الرواية القصيرة جدًا من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير ما يمكن من الغذاء الروحي للانسان، وحمايته من الوحدة والتوحد وجفاف الروح وتصحر المشاعر وغلاظة السلوك.

نوع الرواية القصيرة جدا تتيح للمتلقي المشاركة في تصور وتخيل إنفعالات الشخصية ومستقبل تطورها وان لايخرج عن الخط العام للرواية وحياكة خيوطها ولكنه قد يستعمل خيوطا مختلفة عن خيوط الراوي وعن طريقة حياكته، وهذه الأمكانية قد منحتها الرواية القصيرة جدا للمتلقي وللقاريء بحيث يحاور ويناقش ليكون مشاركا للروائي في بناء وكتابة رواية موازية في مخيلته، مما يولد الشعور لدى القاريء باهميته ووجوده الفاعل وليس المتلقي السلبي الملقن في الرواية الطويلة والرواية المتوسطة…كما ان الرواية القصيرة جدا تختزل الزمن بما لايقاس بالنسبة للرواية الطويلة عبر الأختزال والومض وليس الفرض، التلميح والترميز وليس الاسهاب في التشريح والتوضيح تاركة هذه المهمة لعقل وثقافة المتلقي. ولا شك أن اختزال الزمن أمر في غاية الأهمية في عصرنا الراهن، حيث تمتص اسفنجة الأستهلاك والأحتياجات اليومية للأنسان في عصر العولمة كل وقت الأنسان ولا تترك له الا زمنا ضيقا جدا يقاس بقدر مساماتهما ليستمتع بالقراءة وتغذية روحه من الفن الروائي والموسيقى والغناء والتأمل الحر، ونرى أن هذا الخطيب وهذا الواعظ وهذا القاص قد سحب الزمن العجول الملول المتسارع المتسائل منه كرسي الهيمنة والسيادة مفتشا عن بديل يشاركه السرد والصورة ولايفرض عليه جبروته كلي القدرة فكانت الرواية القصيرة جدا خير بديل كما نرى.
فالرواية القصيرة جدا: كتيب الجيب الصغير المتواضع والغني بالصورة الأبداعية والخيال الباذخ دون تضخم ودون ثقل ودون كلفة لا بالمال ولا بالحيز ولا بالزمن.
كل هذا وغيره يجعلنا نقول أن الرواية القصيرة جدا هي رواية الحاضر والمستقبل بإمتياز، طبعا أنها مهرة ليست سهلة الامتطاء والترويض وانما تحتاج الى فارس يمتلك الخبرة والقدرة وأسلوب الترويض والكفاءة الكاملة لحياكة خيوطها غير متناسيا شريكه القاريء والمتلقي..
الرواية القصيرة جدا: هي غذاء الروح وهي زمن قصير مسروق من وقت الهم اليومي للأنسان الذي يسابق الزمن من أجل تأمين متطلباته الحياتية في زمن العولمة الرأسمالية…
الرواية القصيرة جدا: سرد وجيز يؤشر رؤوس أسطر لأحداث إنسانية، وتترك للمتلقي سرد التفاصيل مما إستبطنه عبر ثقافته الذاتية.
الرواية القصيرة جدا: وليد جديد جاء من رحم الواقع الأنساني الحاضر، مولود ألقي في بحر أمواج الثقافة والأبداع المتلاطمة، مطلوب منه إجادة السباحة للوصول الى شاطيءن الأمان والرسوخ كلون جديد من جنس الرواية.
الرواية القصيرة جدا: وليد أفرزه رحم الواقع المعاش. هناك من يعتبره مولودا متكاملا، أو من يرى أنَّه وليد خديج بحاجة الى أن يوضع في حاضنة ليكتمل نموه، وهناك من يرى أنَّه ولد ميتا، حاله حال أي نوع أدبي جديد ولد وإندثر.


الرواية القصيرة جدا: اختزال وتكثيف في اختيار المفردة والجملة السردية بعيدا عن الاسهاب في التوصيف والتعريف وتفاصيل يستبطنها المتلقي من خلال حياته المعاشة، على الرغم من كل ذلك فهي تحتفظ باشتراطات الجنس الأبداعي الأم، الرواية فهي نوع جديد من أنواع جنس الرواية وليس جنسا جديدا.


فالرواية القصيرة جدا هي رواية وامضة وليست قابضة يكون السائد فيها التلميح وليس الأسهاب والتصريح، شخصياتها الثانوية خفيفة الظل مختزلة الكلام ومؤقتة المقام أثناء تواجدها في متن الرواية، تقول ما عندها بما قل ودل وترحل مسرعة حتى لايفوتها قطار السرد فائق السرعة ولايتضايق منها القاريء المتلقي. وهي لاتمسك بالقاريء لوقت طويل لساعات طويلة وربما لأيام كما في الرواية الطويلة والرواية القصيرة..
وهنا تكمن بالضبط الصعوبة بالنسبة لكاتب الرواية القصيرة جداً إذ تفوق صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا بكثير، فيجب أن يمتلك الروائي الحنكة والتجربة وقوة المفردة الموحية الجذابة حتى لايسهب مراعياً شروط الرواية المعروفة كتعدد الشخصيات، وتحولات الأحداث ـ وتحولات الزمان والمكان، على الرغم من الألتزام بالاختزال الشديد والتكثيف، مع عدم التفريط بالمضمون العام للرواية، أي أن يتمكن الروائي من تقديم وجبة غذاء روحية غنية بالمضمون وبالشعرية اللغوية بأقل عدد ممكن من الصحون والمقبلات.
وبذلك فنوع الرواية القصيرة جدا ينطوي على رشاقة لاتعني الهزال، ومضمون يستدعي سعة الخيال وحبكة لاتفرط باشتراطات جنس الرواية.
من مميزات الرواية القصيرة جدا اختزال صفات الشخصية من حيث الملابس وطريقة العيش لأنها أصبحت معروفة عن طريق صور الفضائيات والنيت واسع الانتشار….كذلك الحاجة إلى توصيف العمارات والبيوت والفلل في مختلف البلدان فالمتلقي حينما تقول امريكي يعرف طريقة عيشه ولبسه وعمران بيته حسب طبقته الأجتماعية وعرقه…استخدام الترميز والأيحاء وإشراك المتلقي في رسم المشهد في مخيلته دون الحاجة الى سرده بكل تفاصيله كما في الروايات الطويلة وحتى في الروايات القصيرة…عدم الخوض في الحزئيات التي لا تؤثر على مضمون استخدام اللغة الشعرية الرشيقة…المحافظة على تعدد الشخصيات وإختزال الحوارات الطويلة…إعتمادالأشارات المكانية والزمانية الرشيقة…الحاجة إلى سرد الحوار الداخلي للشخصية بالتلميح وترك التفاصيل للقاريء حسب فهمه للنص والشخصية وثقافته السائدة في بلده. واعطاء فرصة لأكثر من أستنتاج لما يمور في دواخل الشخصية تختلف من قاريء الى آخر وحسب فهمه وتحليله للنص الروائي، وبذلك يتحرر المتلقي من وصاية الراوي في فرض مايراه هو حول مايدور في نفس الشخصية، وكأننا نقترب هنا من النص الشعري النثري الذي يعطي للمتلقي حرية التأويل والتحليل لصوره الشعرية فتجاوز بذلك واحدية الصورة في القصيدة العمودية التقليدية.
اعود وأقول أن:-

الرواية القصيرة جدا رفيقتك في القطار والطائرة والسيارة.
الرواية القصيرة جدا محفظتها جيبك فلا تضايقك وهي بنت الاختزال في الحجم والحيز مع تأدية كافة شروط الرواية بمختلف انواعها، ولنا في جهاز الموبايل الذي بين أيدينا كيف دمج بين اجهزة مختلفة في جهاز واحد خفيف الحمل متعدد النشاطات فهو الراديو والتلفزيون والتلفون والمكتبة والجريدة والكاميرا والمنبه ومدير الاعمال… هكذا اراد عصر العولمة والتكثيف والاختزال، وبذلك فالرواية القصيرة جدا تعطيك وتغنيك وتمتعك دون أن تضنيك وتتعبك، ولكنها تختلف عن جهاز الموبايل حيث يختزن كل هذه الاغراض في ذاكرته فالرواية القصيرة جدا تحيل الكثير من التفاصيل التي كانت تسهب في ذكرها الرواية الطويلة الى ذاكرة القاريء ومايستبطنه المتلقي من إطلاع ومعرفة…
الرواية القصيرة جدا مصطلح وعنوان نوع جديد من جنس الرواية، بالتأكيد كتبه الكثيرين من الروائيين ولكن لم يعلموه بعنوان (رواية قصيرة جدا) كما أزعم أنا حيث كتبته في عام 2010 و2013 فكانت لي رواية أرض الزعفران ورواية القداحة الحمراء التي نشرت الكترونيا من قبل دار حروف منثورة المصرية، وقد فازت ارض الزعفران بالجائزة الثانية في مسابقة على نطاق الوطن العربي… ولم اعلمها بالرواية القصيرة جدا حينها

ولكني عندما كتبت روايات اخرى بنفس الاسلوب والحجم رأيت انها اقصر من رواية قصيرة كما هو مألوف كتابتها من قبل الروائيين العرب والأجانب، وعرضت لي القصة القصيرة جدا فسألت نفسي لماذا لاتكون هناك رواية قصيرة جدا بكلمات لانزيد على 5000 كلمة وقد تتكون من عدة وريقات فقط… حيث الاختزال والتكثيف والترميز مع بقاء التزامها بشروط الرواية من حيث تعدد الشخصيات وتعدد الأمكنة والزمن والثيمة. فكان ذلك حيث نظرت لها ونشرت هذا التنظير في جريدة الزمان بمقال ((قول في الرواية القصيرة جدا) في 15\3\2015 ونشر في موقع الحوار المتمدن في موقعي الفرعي بتاريخ 17-3-2015… ثم طبعت كتيب ضم اربع روايات قصيرة جدا هي المقايضة وأرض الزعفران والقداحة الحمراء والمجهول بتاريخ 2019 مودع في دار الكتب والوثائق ببغداد (1962) 2019 من قبل دار ومطبعة حوض الفرات في النجف،
اذ كتبت رواية خامسة بعنوان مذكرات كلب في عام 2023 نشرت في عدد من الصحف العراقية وراية سادسة بعنوان (هذيان محموم ) ، ومن المعلوم أن الاسم لايطلق على الوليد إلا بعد ولادته ..
وما زلت أمارس هذا النوع من الكتابة….
الخلاصة اني نشرت وطبعت الرواية القصيرة جدا في عام 2019 ونظرت لها في عام 2015 كما منشور في الف ياء جريدة الزمان العراقية السنة السابعة عشرة العدد 5051 الاثنين 16 أذار 2015 م.
في الكتيب الذي بين ايديكم نصوص رواياتي القصيرة جدا علما انها منشورة في اغلب الجرائد والمواقع الادبية والثقافية / وقدم عدد من النقاد دراسات نقدية حولها كالناقد المرحوم احمد فاضل والناقد يوسف عبود جويعد والناقد علوان السلمان والروائي والناقد حسن الموسوي والناقد هادي المياح من البصرة والناقد ظاهر حبيب الكلابي والناقد المغترب جمعة عبد الله والناقد طالب عمران المعموري والناقدة عزة الخزرجي من تونس والروائي والناقد عبد الستار نور علي والناقد والشاعر هاتف بشبوش، والاستاذ الدكتور حسين المناصرة من الاردن ، والروائي والناقد ابراهيم رسول والروائي والباحث عبد الله الميالي وغيرهم

الرواية القصيرة والرواية القصيرة جداً

أوجه التشابه والاختلاف    

الرواية فن الحياة وتحولاتها في زمن اهتمام الإنسان بتوثيق خياله وتطلعاته وأحلامه، أفراحه وأتراحه، فن سرد تجاوز زمن الملحمة الفن النثري القديم، يذكر أن أول رواية كتبت ونشرت في العالم هي رواية الحمار الذهبي للكاتب الأمازيغي (لوكيوس أبوليوس) في القرن الثاني الميلادي.

في حين كانت أول رواية أوربية هي للروائي الأسباني (دون كيخوتي دي لامانتشا) نشر الجزء الأول عام 1605 بعنوان (العبقري النبيل) من دون كيخوتي دي لامانتشا، بينما ظهر الجزء الثاني عام 1615 تحت عنوان العبقري الفارس دون كيخوتي ديلامانتشا.

بيمنا يتفق أغلب النقاد وموثقي الأدب العربي أن محمد حسين هيكل هو أول من نشر رواية بعنوان (زينب) عام 1913.

في حين كانت رواية (جلال خالد) أول رواية عراقية لمحمود أحمد السيد نشرت عام 1928.

كما كتبت الرواية القصيرة التي كانت أحدى متطلبات عصرها في التكثيف والاختزال وعدم الإسهاب في السرد الروائي، حيث كتبت أول رواية قصيرة بعنوان DECAMERON للروائي الأيطالي جيوفاني بوكاشيو عام1353، أي بعد 1200 مئة عام من الزمان على ولادة أول رواية في القرن الثاني الميلادي.

ولو حسبنا الفترة من عام 1353 ولغاية العام الحالي 2024 ، يكون الفرق بينهما 671 عاماً، ولاشك أن العالم شهد تطورات كبرى بما لا يقاس مع تطورات عام 1353 حينما تطلب العصر ولادة الرواية القصيرة، فعالم اليوم عالم السرعة الفائقة، عالم انشغال الإنسان بتوفير متطلبات حياته اليومية في عصر العولمة الرأسمالية، بحيث أضطر أنْ يتناول غذائه وهو يمشي أو واقفاً من خلال الوجبات السريعة واسعة الانتشار في المدن الصناعية الكبرى، السرعة الفائقة لوسائل النقل البرية والبحرية والجوية، مشاغل الإنسان في العمل والعلم والبحث والابتكار لم تترك له إلا حيزاً ضيقاً جداً من الوقت من أجل الاهتمام باحتياجاته الروحية كالرياضة والرقص والغناء والقراءة، فكانت ميوله نحو الرشيق الخفيف المختزل السريع ومن ضمنها الرواية، فلم يعد وقته يتسع حتى للرواية القصيرة التي لا تقل صفحاتها عن 50 صفحة إلى أكثر من 100 صفحة بقليل.

فأقصر رواية قصيرة هي رواية (رجل عجوز بجناحين كبيرين) لغابريل غارسيا ماركيز بواقع 32 صفحة فقط عام 1972، هذه الرواية التي تقع ضمن متطلبات عصر العولمة للرواية القصيرة جداً ولكن الكبير غارسيا ماركيز لم يصنف روايته برواية قصيرة جداً كما تم التنظير والتقعيد لها.

كُتبت وطبعت ونُشرت أول مجموعة رواية قصيرة جداً أربع روايات قصيرة جدا للأديب العراقي حميد الحريزي عام 2019 ، صدرت عن دار حوض الفرات في النجف للطباعة والنشر، ومودعة في دار الوثائق والكتب في بغداد برقم 1962 لعام 2019، كما تمت طباعة ونشر الطبعة الثانية بزيادة رواية جديدة لتكون خمس روايات صادرة عن دار رؤى للطباعة والنشر موثقة في دار الكتب والوثائق الوطنية ببغداد (2276) لسنة 2024 ورقم دولي 81390563ح495 الحريزي حميد، وطبعت ونشرت رواية (هذيان محموم ) منفردة في كتيب جيب صغير عن دار رؤى للطباعة والنشر والمودعة في دار الوثائق والكتب برقم \2024\3107.

وبحسب ما قمنا به من بحث وتقصي لم نعثر على أي مطبوع روائي مجنس برواية قصيرة جداً لا في العراق ولا في الوطن العربي ولا حتى في العالم، ولكننا نجزم بأن هناك من كتب الرواية ضمن تنظيراتنا للرواية القصيرة جداً كما هو الروائي الكبير ماركيز، حيث ارتأينا أنْ لا تزيد صفحات الرواية القصيرة جداً على 40 صفحة، وبما لا يزيد على 8000 كلمة ولا تصل إلى 10000 كلمة حيث الرواية القصيرة .

*الرواية القصيرة والرواية القصيرة جداً تشترك في الاختزال والتكثيف في التوصيف والتعريف وسرد الحدث، مع حفاظها على تعدد الشخصيات وتعدد الحوارات والحفاظ على الانتقالات الزمانية والمكانية، أي الاحتفاظ باشتراطات الرواية والتميز عن القصة الطويلة والقصة القصيرة مع أنها قد تشاركها في القفلة والنهاية الصادمة ولكنها ليست من شروطها .

لكن الرواية القصيرة جداً تمتاز بمشاركة المتلقي والقارئ في تخيل وتصور وتأويل أحداثها، فهي رواية وامضة تؤشر ولا تفسر فتترك التخييل والتفسير ورسم الصورة بتفاصيل الشخصية والمكان لما يستبطنه القارئ في حافظته الفكرية لها، حيث قدم عالم الأنترنيت المذهل مواصفات ومميزات وتاريخ أعلام الفكر والأدب والهندسة والسياسة والعمران والحواضر الإنسانية لكل إنسان في أقصى بقعة من العالم فلا حاجة للروائي أن يعيد مواصفاتها على المتلقي مما يستنزف وقته إنْ كان لديه وقت في عصرنا الراهن ويثير لديه الملل من التكرار غير المبرر لتوصيفات وتعريفات هو يعرفها مقدماً، فالروائي مثلاً ليس بحاجة إلى أن يوصف لي شكل صديقي من حيث الطول والقصر ولون الشعر والعيون، وهل هو أبيض أم أسمر أم أشقر؟ وحتى مزاجه وحركاته لأني بها عليم، والاكتفاء بذكر الميزات والمواصفات وحتى السلوكيات التي يتميز بها الشخص دون غيره...

*كاتب الرواية القصيرة جداً لا يسرف كثيراً في نصه السردي، فيعرض المونولوج الحواري الداخلي للشخصية وغالباً ما يترك للمتلقي تصور بواطن الشخص من خلال سياقات الرواية وتحولات أحداثها وثقافة الشخص وبيئته المعاشة، وكما قلنا الرواية القصيرة جداً تومض ولا تفرض كما في الرواية الطويلة ونسبياً في الرواية القصيرة. ربما سيكون اهتمام كاتب الرواية القصيرة جداً منصباً على التحولات النفسية لإنسان العولمة المعقد ودائم التغير والتبدل، مما يترك قلقاً نفسياً كبيراً لدى الإنسان وهو يتفكر واقعه ومستقبله ...

لاشك أنّ كل الزملاء الأدباء يعلمون إنّ النوع أو الجنس الأدبي الجديد لا يولد كاملاً مكملاً بل يكتمل خلال الممارسة ومن خلال إبداعات الأدباء ممن يتبنونه ويمارسون كتابته، ومن خلال اهتمامات النقاد وملاحظاتهم، وبالتأكيد سيكتب الأدباء روايات أكمل وأجمل وأغنى مما كتبه الرواد، حتى تنظيراتنا وتنظيرات غيرنا ليست نصوصاً مقدسة ولا جامدة، فلا ثابت إلا المتغير، وخلال المراس والتجريب المتكرر تستجد الكثير من الأمور وتظهر الكثير من المبادرات تغني هذا النوع الوليد وتشد من عوده ليكون له مكانه الخاص بين الأجناس والأنواع الأدبية..

نتفهم تماماً دهشة بعض الأدباء في الوسط الأدبي، وردة فعلهم ورفضهم لكل ما هو جديد وغير معتاد وغير تقليدي وغير مألوف، وهم يعيشون في مجتمع راكد يعيش فترة سبات على مختلف المستويات، والذي نرجوه أن لا تصدر الأحكام إلا بعد القراءة المتأنية للتنظيرات والقراءة الموضوعية الجادة للنصوص الموصوفة برواية قصيرة جداً وحسب ما يتيسر تحت نظر الناقد والأديب والمهتم بالأدب، وحسب علمنا أنّ هناك العديد من الأدباء في العراق وفي الوطن العربي قدموا منتجهم الإبداعي بالرواية القصيرة جداً لدور الطباعة والنشر وسترى النور قريباً، بالإضافة إلى ما هو موجود فعلا ً ومنذ أكثر من خمس سنوات كما أسلفنا سابقاً ...

نتمنى على أصدقائنا وزملائنا الأدباء عدم استكثار مثل هذه المبادرة الإبداعية على الأديب العراقي، فالأدباء في العراق لهم السبق والباع الطويل في التجديد والابتكار والتطوير في كل مجالات الفن والمنتج الأدبي الإبداعي، وفي المقدمة منها الشعر كما فعل السياب ونازك الملائكة وحسين مردان ولميعة عباس عمارة، وفي القصة القصيرة جداً حيث أصدر القاص والروائي إبراهيم أحمد أول مجموعة قصصية عراقية وعربية مطبوعة تحت مصطلح (قصص قصيرة جداً) في عام 1977.

ولو راجعنا موروثنا العراقي السردي لوجدنا أن الراحل الأديب الكبير جعفر الخليلي كتب روايتان بعنوان (في قرى الجن) و(الضايع) في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين وطبعت في عام 1948. وهي لاشك لا تقع ضمن مقاسات الرواية القصيرة جداً حسب التنظيرات الحالية لهذا النوع من الرواية ولكنها تقترب منها كثيرا .

.

                    

المؤلف الأول والمؤلف الثاني

         تقاسم الأدوار وتبادل الحوار في الرواية القصيرة جداً

كما يعلم الجميع أن أهم مميزات الرواية القصيرة جداً هو الاختزال والتكثيف والترميز، وكما ذكرنا في أكثر من مقالة أن الرواية القصيرة جداً هي رواية وامضة وليست قابضة ولا فارضة، وقد يتساءل بعض الذين لديهم اشتغالات سردية أو نقدية معترضاً أن من مستلزمات السرد الروائي هو التوصيف والتعريف وذكر أدق العلامات والميزات والتوصيفات للأشخاص والأماكن والشوارع والمدن ...الخ. أفلا يخل هذا الاختزال والتكثيف في بنية الرواية ولا يستجيب لأهم مميزاتها؟ وذلك بترك الروائي المؤلف الأول فراغات كثيرة في نسيج السرد فيبدو بذلك النسيج السردي والحكائي مهلهلاً للوهلة الأولى! فبماذا تجيب الرواية القصيرة جداً على هذا السؤال؟.

نقول أنّ الرواية القصيرة جداً هي وليدة رحم عصر العولمة، عصر التكنولوجيا المتطورة بما يفوق الخيال، عصر بحر المعلومات الهائل الذي تتهادى أمواجه المعرفية أمام أنظار المتلقي من خلال القنوات الفضائية الناطقة بالصورة والصوت وبكل لغات العالم وفي كل بقعة من بقاع العالم، وكذلك من خلال أجهزة النقال والتي تحولت بفضل تطور مهامها إلى بنك معرفي صوري وصوتي هائل وسهل المنال وتحت يد أغلب سكان الأرض حتى الأطفال، ناهيك بنزعة إنسان العصر الحالي للسفر لتيسر تكاليفه وسرعة وسائل المواصلات بشكل مذهل، مما وفر لأغلب سكان الأرض كم هائل من المعرفة بطبيعة الثقافات لمختلف البلدان والشعوب ناهيك عن المعرفة الدقيقة للشخصيات العامة من رؤساء بلدان أو سياسيين بارزين وكتاب وممثلين، وحتى طبيعة وشكل وزي الإنسان العادي في الصين أو أمريكا أو اليابان أو الروس أو الهند، وامتلاك الإنسان لصور وتصورات غاية في الدقة عن أهم ملامح وشواهد العمارة والحضارة والثقافة والآثار في العالم، مثل برج إيفل في باريس والساحة الحمراء في موسكو وتمثال الحرية في نيويورك ومسرح البولشوي في موسكو والأهرامات في القاهرة ونصب الحرية في بغداد وبرج خليفة في دبي وتاج محل في الهند ... ألخ. وأن احتاج معلومة ما أو توصيف ما، حضر محرك البحث (الكوكل) و الـ(يو تيوب) بين يديه قائلاً: (شبيك لبيك أنا عبدك بين يديك، سأحضر لك كل ما تطلب وما تشاء ليكون أمام عينيك).

وبذلك وكي لا يسبب المؤلف الأول الملل لدى المتلقي (المؤلف الثاني) حينما يعرف له المعرف ويوصف له الموصوف لديه والذي ما أن يومض به المؤلف الأول حتى ترتسم له صورة واضحة المعالم والصفات في مخيلة المؤلف الثاني، وإنْ تختلف هذه الصورة من متلقي إلى آخر حسب درجة ثقافته وسعة اطلاعه وفطنته وتجربته الحياتية، وهنا تسجل الرواية القصيرة جداً أكثر من علامة ايجابية لصالحها، ألا وهي اختزال حجم الرواية والتخفيف عن كاهل المتلقي المزيد من الوقت لقراءة رواية طويلة فكما وفرت له الوجبات الغذائية السريعة (أنت وماشي) غذاءً جسدياً سريعاً، ستوفر وتسد له الرواية القصيرة جداً حيزاً مهماً من حاجته إلى وجبة غذاء روحي تخفف له من ضنك الحياة العملية الضاجة بالرتابة والروتين، كما أنها كسبت ود ورضا المتلقي بإعطائه حرية التخيل والتصور حسب تجربته في إكمال صيغة السرد مساهماً بخيوطه في سد فراغات النسج واكمال معناه ومبناه بطريقته الخاصة وبألوانه المفضلة المتوافقة مع ذائقته الجمالية وثقافته ، وبذلك تشارك الرواية القصيرة جداً قصيدة النثر في أشراك المتلقي في تصور وتأويل وتحليل صورها مما يضفي على القارئ المتلقي المؤلف الثاني البهجة والشعور بالأهمية والمتعة وتنشيط ذاكرته وبعث الخيال وتحفيز المخيال لديه.

نرى بحق أن الرواية القصيرة جداً تمكنت بميزتها هذه التخلص من أسلوب التلقين والتدجين والاستقبال السلبي للمتلقي الشبه محايد في تلقي سيل الصور والتوصيفات وحسب ذائقة ومزاج وثقافة المؤلف الأول الروائي، إلى متلقي وقارئ يلعب دور المؤلف الثاني من خلال ما تركه له المؤلف الأول من فراغات تتطلب إكمال نسجها بطريقته وبخيوطه الخاصة وبحسب ثقافته ومعرفته، طبعاً مع الحفاظ على السياق العام لأحداث الرواية وشخصياتها الرئيسة والثانوية وتحولاتها الزمنية ومضامينها الفكرية عبر علاقة جدلية تكاملية جمالية بين المؤلف الأول والمؤلف الثاني.

كذلك فإن إدخال الرمز والترميز في السرد الروائي من قبل المؤلف الأول ونظراً لما يفيض به الرمز من أشعاع معرفي ودلالي مختزن في داخله، سيوفر للمتلقي المؤلف الثاني فرصة تنشيط ذاكرته في تصور وتخيل خزين الرمز وسعة إشعاعه من معنى ومبنى تزيد من رصانة وعمق مضمون الرواية وسعة تأويل أحداثها، تضفي المزيد من المعنى والعمق والربط الجدلي بين الحاضر والماضي بكل ما يستبطنه المؤلف الثاني من سعة معرفة وثقافة شخصية للرمز وتحليل شفراته وارتباطه بما أورده المؤلف الأول.

من خلال كل ما سبق فالرواية القصيرة جداً توفر للمتلقي القارئ حرية تأليف وتخيل نص ثان مواز للنص المسطور على الورق ولكنه هذه المرة مسطور ومرسوم ومجسد في خيال المتلقي المؤلف الثاني المستمتع بخياله ومضمون وشكل نصه الثاني كمشارك في الخلق وليس متلق سلبي فقط ، وقد يدخل في منافسة ومقارنة مع متلقي وقارئ آخر أو أكثر وكل يفاخر في نصه الخاص ضمن رواية واحدة.

هل ولادة الرواية القصيرة جدا ، اعلان موت الرواية الطويلة والقصيرة ؟؟

بأختصار شديد نقول أن ولادة الرواية القصيرة جدا في عصرنا الراهن هي توفر خيارا للانسان المنهمك بهمه اليومي لتوفير مستلزمات الحياة المادية اليومية فرصة لتناول طبقا من الغذاء الروحي خلال فنرة استراحته المحدودة جدا فتخلصه من حالة التصحر والجفاف الروحي في زمن السرعة الفائقة،وتخليصه من تلقي ما لاحاجة له به كالاسهاب في التوصيف والتعريف مما استبطنه في حياته اليومية من خلال الميديا واليو تيوب والسينما والتلفزيون ، والأهتمام فقط بما هو متميز ومتفرد ، مع زيادة الاهتمام بالوضع النفسي للانسان في ظل واقع معقد يلقي بضلاله الثقيلة على الذات البشرية .

ولكن الرواية الطويلة والرواية القصيرة تبقى على طاولة الكثير من الناس في العالم وعلى وجه الخصوص لذوي الوقت والزمن الفائض من المتقاعدين والعاجزين عن العمل وسكنة دور العجزة ، ونماذج بشريةأخرى مازالت تمتلك المزيد من الزمن الفائض لقراءة الروايات الطويلة ومشاهدة الافلام الطويلة والمسرح ومن يتمتعون بعطلات طويلة ... حيث يبقى وقع الحياة المعاش يلقي بمتطلباته على الأنسان ، وحيث يبقى الادب والفن ضرورة لايمكن التخلي عنها بالنسبة للانسان للاحتفاظ بانسانيته وطراوة روحه

               الاختزال والتكثيف في الرواية القصيرة جداً

         القدرة على سرد ما قل ودل وليس عجزاً في التعبير

                 (( تجويع اللفظ وإشباع المعنى ))، الجرجاني

"التكثيف كمصطلح أدبى فهو خصيصة جوهرية من خصائص الشعر, ويكون على المستوين البنائى والدلالى فالتكثيف البنائي هو الاقتصاد اللغوي وعدم تحميل النص بكلمات زائدة عن حاجاته, وتكثيف دلالي وهو تحميل الكلمات وشحنها بالدلالات المتعددة، ويشتبك التكثيف البنائي بالتكثيف الدلالي اشتباكاً لا انفصال فيه بحيث يتحقق الاقتصاد اللغوي القائم على إزالة الحشو والزيادات مع التكثيف الدلالي و تكثير وغزارة المعنى في آن واحد"

"الجدير بالإشارة أن التكثيف والاٍختزال ليسا مصطلحين مترادفين يحل كل منهما محل الآخر, فالاختزال يختلف عن التكثيف في أن الاختزال تكثيف شديد يستخدم في صياغة النصوص القصيرة جدا كالاٍبيجراما أو الومضة الشعرية، وهو بذلك يتناسب مع النص القصير الوامض الخاطف الذي يعبر عن لحظة أو مشهد خاطف وامض يصوغه الشاعر بأقل قدر ممكن من الكلمات وأكبر قدر ممكن من الحمولات الدلاليه" محمدعزب الانطلوجيا 9 شباط 2021 طامي الشمراني

https://makkahnewspaper.com/article/1557855/الرأي/الأدب-الوجيز-طفرة-أم-استجابة-لروح-العصر

أهتم الأدب الوجيز كالقصة والقصة القصيرة جدا وكذلك قصيدة النثر والهايكو، بالإيجاز والتكثيف في عملية السرد وتخليق النصوص السردية والشعرية، لتستوفي مبررات وجودها كجنس أو أجناس إبداعية تستجيب لروح العصر ومتطلباته للاختصار وعدم الإسهاب في التوصيف والتعريف والاكتفاء بما قل ودل من الكلمات والجمل، وقد أهتم العرب عبر تراثهم الأدبي والكتابي بهذا الأمر   حيث دعا عبد القادر الجرجاني إلى (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، وهذا التعبير أو هذه التوصية تستبطن الكثير من معنى ودلالة التكثيف والاختزال وهذه الوصية أو النصيحة الجرجانية الثمينة ربما تكون سابقة حتى لعصرها، في حين أصبحت ضرورة ملحة في عصرنا الراهن عصر العولمة، عصر السرعة، واقتصاد الزمن في واقع يستوجب السرعة والإيماء والرمز ولا يحتمل الإطالة والإسهاب، ومن مبررات ذلك انشغال الإنسان حد القهر بالعمل اليومي لتأمين متطلبات الحياة المتزايدة دوماً. الإنسان في عصر الأنترنيت وتطور شبكات التواصل والفضائيات واسعة الانتشار أصبح يستبطن الكثير من المعلومات التي كانت عصية عليه في القرون الماضية، وبذلك أصبح يفهم ويدرك الكثير من الأمور والصفات والتعريفات بالإشارة ولا داعي للإسهاب والإطالة والإعادة المملة للكثير مما يعرفه ويضمره المتلقي في ذاكرته وتجربته الحياتية، وكأن المتلقي يتوسلك: يا أخي لا تعيد علي ما أعرفه اخبرني بالجديد المتفرد للشيء الموصوف من قبلك، فأنا أعرف تفاصيل برج إيفل وتاريخ إنشائه ومهندسه، لا داعي أنْ تصف لي وتعرف طوله ومساحته وتفرعاته، اذكر لي أذا استجد شيء في هذا البرج لم أعرفه، أخي صاحب المطعم أعطني وجبة غذاء أتناولها وأنا أسير حتى لا يفوتني القطار أو الطائرة لا وقت لدي للجلوس وتناول الطعام المتنوع والمقبلات وووو في مطعم فاخر ...

وأنت يا أخي الروائي العزيز وقتي محسوب ببعض ساعات قد أقضيها في قطار أو طائرة أو باص نقل، أو فترة استراحة بين دوريتي عمل في معمل أو مصنع، وأنا بالتأكيد بحاجة إلى وجبة غذاء روحي كالرواية والشعر والقصة. شكرا لكاتب القصة القصيرة جداً وقد اختزل كثيراً، وقد فهمني كاتب قصيدة النثر والهايكو ... أما أنت أيها الروائي قدر وقتي ولا تحرمني من متعة قراءة الرواية أرجوك كثف كثف أختزل قلل أحذف كل الزوائد والمرادفات أختار كلمة واحدة ولا تكرر المرادفات، فكر في كتابة كل مفردة لتكون هي أفضل الكلمات تعبيراً عن المعنى وتخليق المبنى ... واستذكر مقولة الجرجاني: (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، كما أرجوك لا تعيد على ما استبطنه من معرفة عن المدن والبنايات وعمارة الدور وحتى التوصيف السائد لشكل وملابس الشخصيات الروائية، اذكر لي فقط العلامات الفارقة، أنا أعفيتك ضمن ما استبطنته من معلومات وفرتها ثقافة العصر الراهن أن لا تطيل وأن لات سهب فحينما تذكر مدينة لندن مثلاً، تتولد في مخيلتي كل صفات هذه المدينة وساحاتها وشوارعها ومتاحفها ومسارحها ومتنزهاتها ... فقط أعطني وصفي إنْ جد فيها جديد لم أعرفه.

من تجربتي الحياتية سألت أحد الأصدقاء حول صديق مشترك بيننا فقال:- نعم هو بخير، رأيته يرتدي بدلة زرقاء من قماش انكليزي، خاطها عند الخياط فلان، دفع له المبلغ الفلاني كأجرة خياطة، زوج أحد أولاده من أحد بنات خالته المعلمة في المدينة الفلانية وعمرها .... وظل يشرح ويفصل بإسهاب ممل لأمور أنا لا احتاجها وأخرى أنا اعرفها ... كل ما أردته منه أن يقول إني رايته وهو بخير، وكفى.

وهذا هو ما تريد أن تنتهجه الرواية القصيرة جداً في أسلوب سردها وحياكتها لأحداث الرواية القصيرة جداً لتفي بشروطها في الاختزال والتكثيف مع احتفاظها باشتراطات الرواية، وهذا يفرض على الروائي التفكير كثيراً قبل أن يكتب المفردة وصياغة الجملة بدون زوائد وان تعبر أحسن تعبير عن المعنى، مكتنزة المعنى من دون كرش وترهل رشيقة أنيقة معبرة، وهنا يجب أن يمتلك الروائي خزيناً لغوياً وثقافياً كبيراً يضخ له الكلمات والمفردات من مخازن ذاكرته الثرية بهذه المفردات والصور والكلمات، شرطها الأول هو كثرت القراءة والمطالعة وكما ذكر الأستاذ عبد الجبار الرفاعي ضمن مقال بعنوان (الكتابة بوصفها فن الحذف والاختزال) : (كما الاقتصاد سياسة مكثفة كذلك الكتابة مطالعة مكثفة).

لذلك ترى المتحدث أو المحاضر المكتنز للمعرفة يعبر عما يريد بأقل الكلمات وبأقصر الجمل، بينما نرى آخر قليل الاطلاع يظل يلف ويدور ويرغي ويهذر محاولا توصيل ما يريد إلى المتلقي من دون جدوى.

فالكتابة جزلة المعنى رشيقة القوام أمر في غاية الصعوبة وعلى وجه الخصوص في مجال كتابة الرواية القصيرة جداً، فقد قال أرنست همنغواي لمن يريد أن يصبح كاتباً، وبالتحديد روائياً: (عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أن الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل ويعرض هو على نفسه أن يكتب أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها سيكون لديه قصة شنقه بمثابة بداية).

هذا ما قاله همنغواي حول صعوبة الابتداء بكتابة رواية طويلة أو قصيرة وهو لم يكتب رواية قصيرة جداً تستدعي جهوداً أضعاف م اتتطلبه كتابة رواية طويلة أو رواية قصيرة لإيصال هذه الفكرة إلى المتلقي المستعصية بأسلوب مختزل مختصر مكثف أكثر صعوبة واستحالة. وكما قال الدكتور حسين المناصرة في مقال حول كتابة القصة القصيرة جداً: (وكان السؤال الأكثر إلحاحًا في مجال الكتابة عمومًا، والقصة القصيرة جدًا خاصة، هو: كيف أصبح قاصًا حقيقيًا؟! وكانت الإجابة الوحيدة : قبل أن نكتب علينا أن نقرأ ، ثم نقرأ ، ثم نقرأ في المدونة التي نريد أن نكون من كتابها؛ فمن وجد أنّ لديه ميولًا في كتابة القصة القصيرة جدًا؛ فعليه إن يقرأ ما لا يقل عن مئة مجموعة قصصية قصيرة جدًا؛ حتى يتمكن من أن يكون كاتبًا جيدًا في مجالها.
اقرأ المزيد على الرابط)) : https://iraqpalm.com/ar/a3112

كل هذه الصعوبة يواجهها من يريد أن يكتب قصة قصيرة جداً، وهي محدودة الشخصيات ربما شخصيتين لا أكثر، ومحدودة الحوارات، ومحدودة الزمن، ومحددة الهدف، فما أكبر وأصعب مهمة كاتب الرواية القصيرة جداً، متعددة الشخصيات الرئيسية والثانوية، وتعدد الحوارات، وانتقالات الزمكان، وتحديد الهدف المنشود بأقصر الجمل وأقل الكلمات، وارشق الحوارات، وبلوغ الهدف محافظة على اشتراطات أمها جنس الرواية.

فقد كتبت الرواية الطويلة بأقل قدر من التوتر والحذر من الانزلاق إلى جنس أو نوع أدبي مجاور، بينما كتبت الرواية القصيرة جداً وأنا في غاية التوتر والتركيز والحذر من الإسهاب حتى لا انزلق إلى الرواية القصيرة، ولا أن أوغل في الاختزال والتكثيف لانزلق صوب القصة القصيرة جداً، أو إلى النص الشعري النثري الحديث، والخوف الشديد من عدم القدرة على إيصال الفكرة ومضمون الثيمة الروائية إلى المتلقي بأقصر الجمل وأقل الكلمات، يجب أن تكون الرواية القصيرة جداً رشيقة القوام حد النحافة، مكتنزة المعنى والمبنى حد النشاط والحيوية وخفة الحركة المشوقة للمتلقي، تتحول الرواية القصيرة جداً إلى نص وامض متعدد الفجوات والفراغات، يتحول إلى دوائر متوالية متسعة دائماً في مخيلة المتلقي لتسد وتشغل كل الفجوات والفراغات التي تركها المؤلف لتكون من حصة المتلقي لسدها بطريقته الخاصة وما يختزنه من خبرة ومعلومات حول الشخص أو المكان أو الحدث الذي يبدو ناقصاً غير مكتمل المواصفات ضمن المتن الروائي، مما يوفر للمتلقي متعة المشاركة في كتابة النص، كما تتعدد المعاني والمباني للنص بتعدد القراءات بعدد القراء. وهنا تكمن الصعوبة التي يواجهها كاتب الرواية القصيرة فيما يقدمه للمتلقي وما يحجزه ليكون من حصته، على أن يكون الروائي متفهماً لبيعة هذا المتلقي وبيئته وما مقدار ما يستبطنه من معلومات متعلقة بثيمة الرواية حتى يتمكن من بناء نص ثان بدون فراغات مواز للنص الأول ...

فلذلك نقول لمن يتهم كاتب الرواية القصيرة جداً بأنه لجأ إلى كتابة هذا النوع الجديد من الرواية لأنه لا يمتلك من الخيال والخزين اللغوي لكتابة الرواية الطويلة والرواية القصيرة، أي أنَّه لا يمتلك هشاشة الهذر والاستغراق في التوصيف والتعريف والإكثار من المرادفات والإفراط في التشبيه والتزويق اللفظي ليقدم عملاً روائياً (مكروشاً) متخماً بما هو معروف ومعاد ومكرر يولد الملل والكلل من قبل المتلقي وهو المحاصر بالزمن المحدود ضمن كده الحياتي اليومي.

فكما أكد النقاد وأجمعوا على صعوبة كتابة القصة القصيرة جداً، هنا الجهد مضاعف والصعوبة كبيرة جداً في كتابة الرواية القصيرة جداً. وكتابتها ليست نزهة، وإنما هي عصارة فكر وجهد ومكابدة للقلم وللعقل. ومن لا يستطيع السباحة عليه أن لا يقترب من الساحل.

هل الرواية القصيرة جدا ضمن عائلة الأدب الوجيز ؟؟

الأدب الوجيز ((هو مصطلح أدبي بدأ يترشح حضوريا في العصر الحديث ، ويشير الى عمل يتميز بالايجاز الشديد ، وقد يشمل العنوان الفنون السردية والشعرية)) ويكبيديا

وكتب الناقد الدكتور محمد ياسين صبح مقالة بعنوان – الادب الوجيز أقصائية التسمية ومطب التجنيس)) جريدة القدس 3\يناير \ 2022:-

((مفهوم الايجاز، الكلام الموجز هو الكلام (المختصر) ، واوجز المتحدث في كلامه ، اختصره ، اذا المصطلح يعبر عن اختصار الكلام وإيجازه ، فهو وصف مطلوب كالكثير من الاجناس الادبية ( الشعر، والقصة القصيرة والقصيرة جدا ، وحتى الرواية ) فالعمل الادبي يجب أن لايشعرنا بالملل لطول الوصوفات غير الضرورية فيه ، لذلك فالايجازصفة السرد السريع )).

نلاحظ من خلال ماتقدم حيث يشمل التعريف الاول لويكبيديا الفنون السردية بالاضافة الى الفنون الشعرية ...

أما ما قاله الدكتور محمد ياسين صبح ، فقد قال وبعبارة واضحة ليشمل الرواية ضمن عائلة ومصطلح الادب الوجيز ،ومعرفا   الادب الوجيز بالكلام المختصر ، وداعيا أن لايكون العمل الادبي مملا ، وكأنه يتحدث حول الرواية القصيرةجدا ،الموصوفة بالأيجاز والتكثيف والأختزال ، حيث تترواح عدد صفحات الرواية القصيرة جدا بين ال15- 40 صفحة ولاتصل الى 50 صفحة ، وعدد كلماتها لاتصل الى 5000 كلمة كحد أعلى ، حيث لم تتجاوز عدد صفحات رواية ( هذيان محموم) القصيرة جدا ال20 صفحة 86 صفحة ربع أي فور، وكذا هو حجم بقية الروايات لحميد الحريزي ولغيره من كتاب الرواية القصيرة جدا ...

وضمن هذه المقدمات والمواصفات للرواية القصيرة جدا كل الحق أن تنتسب الى عائلة الأدب الوجيز ، فهي من التزم بقول ما قل ودل ، و (( تجويع النص وأشباع المعنى))، مع احتفاظها بكل شروط ومتطلبات الرواية من تعدد الشخصيات وتنوع الحورات والانتقالات الزمنية والمكانية ، ووضوح الفكرة وتجسد الثيمة مع تعدد الاراء والاحداث ،فهي كاسفنجة يقوم المتلقي القاريء بملء مساماتها وفراغاتها بما يستبطنه من صور ومعلومات تغني النص السردي في مخيلته ، دون أن يزيد من حجم هذه الاسفنجة ، ولو اعتصرتها فرضا لافاضة عليك بعصارة محملة بالمعنى والصور والاحداث والتواريخ والتوصيفات التي اضافها المتلقي وسد فيها مسمامات وفراغات السرد المكتوب ، وبذلك ينشط الفكر ويتجدد الخزين وتكتمل الصورة ويصل المعنى ويختزل الزمن ويقضى على الملل ... فالادب الوجيز هو من متطلبات وافرازات العصر الحديث عصر العولمة عصر السرعة الفائقة والتحولات الدائمة ، وقد تجسدت هذه الختزالات كما نمارسها في الفيس بوك ، فاخنزلت كلمة اعجبني بكف وابهام مفتوح نحو الاعلى والعس بابهام مقلوب ، والحب بصورة قلب ، والحزن بايقونة دامعة ، والفرح أيقونة ضاحكم أو غامزة ....الخ

 

 

الراوي العليم والروائي كلي العلم في الرواية القصيرة جدا

 

خلال السرد الروائي للاحداث والسلوكيات والتحولات يلجأ الروائي الى اسلوب الراوي العليم عبر ضمير الهو وهو تصيف للفعل والظاهرة والمكان الظاهرية المرئية حيث يتابعها الروائي للتوصيف والتعريف حتى للحوارات بين الشخصيات المختلفة خلال الحبطة الروائية ، وهذا السائد الاعم الاغلب وبذلك فالراوي هو الوسيط الناقل بين الحدث والشخصية وبين المتلقي لتمكينه من متابعة أحداث الرواية .

وأحيانا يتحث الراوي بضمير الانا العارف بذاته والمتحكم في الحدث وينقل للمتلقي لتكتمل عنده الصورة وتحولات الاحداث وهناياحكم الانا في اظهار أو اضمار مايريد للمتلقي القاريء

في عصر العولمة والمعلوماتية المتفقة الى خزين الانسان يكون لديه فيض معرفي كبير وفر على الروائي اختزال واضمار الكثير من المعلومات التي استبطنها المتلقي فلا داعي لاعادة سردها .

أن هذا العصر امتاز بكراهيته الشديدة للتلقين والقوامة والحديث والتحليل والتركيب من قبل عنصر خارجي عن طريق ما اصطلح عليه في عالم السرد بالراوي كلي العلم الذي يملي على المتلقي الاحساسات الداخلية المنولوج الداخلي لشخصيات الرواية الرئيسة والثانوية وينقلها الى القاريء والمتلقي ، بناء على رؤاه الشخصية المستبطنة من سير احداث الرواية ودور الروائي للوصول الى مسارات الرواية كما يريد متجاهلا تماما ما يختمر في مخيلة وحدس واستنتاج القاريء عبرمسارات السرد للانفعالات الداخلية والتنبوء بسلوكياتها والعوامل الدافعة او المعيقة لسلوك معين او لردة فعل محدد ربما تختلف تمام الاختلاف مع ما يذهب اليه وما يمليه الراوي كلي العلم على المتلقي ، فقد تأذ الرواية مسارات تختلف عما يريد رسمها الروائي لتلقينها للمتلقي ...

نرى أن هذه احد الميزات المهمة التي تتصف بها الرواية القصيرة جدا حيث لايسهب الروائي في تفعيل الراوي كلي العلم في كشف بواطن   الشخصية وحوارها مع الذات ، وبذلك يشرك المتلقي ويترك لها مساحة من الحرية في حياكة الاحداث وتطوراتها ، فينسج المؤلف الثاني نصا ثانيا موازيا في مخيلته قد تنسجم وقد تختلف مع ما حاكه النساج الاول او المؤلف الاول حتى في استخدام الوان خيوط السرد وصور نسيجه النهائي..

وسوم: العدد 1104