زيارة جديدة للحبيب الأعظم

إبراهيم عبد المجيد

sdfsgfg1119.jpg

أعرف الكاتب أحمد الدريني مبدعا رائعا، وإعلاميا له حضور فارق في كل عمل يتولاه، وآخرها مساهمته في تأسيس القناة الوثائقية المصرية. من كتبه المهمة «ثلاثية العرش»، ومن رواياته «قميص تكويه امرأتان». حاز جائزة «محمد حسنين هيكل للصحافة العربية» عام 2019 . ووصلت رواياته إلى القائمة النهائية في جوائز مهمة مثل جائزة ساويرس وجائزة الملتقى في الكويت، أو سرد الذهب في الإمارات.

صدر له هذا العام هذا الكتاب «الحبيب.. زيارة جديدة للسيرة النبوية» عن دار الشروق المصرية. قلت لنفسي ليس أجمل من قراءتي له والشهر الكريم رمضان يهل علينا. ليس أجمل من الحديث عن الرسول الكريم، فهو مهما باعدت الأيام بيننا وبينه، هادينا ومنقذنا من متاعب الزمن. أجل. الإيمان هو جواز المرور الأعظم في هذه الحياة الحافلة بالآلام والخطايا. لقد قرأت كثيرا في الفلسفة، ورغم ما يبدو من أسباب تبدو مقنعة عن الإلحاد، فكل ما أنتجه الإنسان في الحضارت القديمة من بناء، أو ملاحم، كان رحلة البحث عن الله، والصعود إليه يوم الحساب.

بدأت قراءاتي بشكل كبير في السيرة النبوية، حين عملت في المملكة العربية السعودية بين عامي 1978-1979. ليس لأنني كنت هناك، لكن لأني وجدت صدفة مكتبة للقراءة في مدينة تبوك التي كنت أعمل فيها، فرحت استعير منها كتبا أقاوم بها الفراغ، بعد انتهاء العمل، فلم يكن في ذلك الوقت في المملكة ما يبهج من مقاه أو سينمات أو مسارح. قرأت السيرة النبوية لابن هشام وغيرها، حلقت بي فوق فضاء الصحراء والفراغ. قلت لنفسي مع كتاب أحمد الدريني سأسافر إلى فضاء الإيمان ويزداد حنيني للصعود إلى السماء، الذي أشعر به مع كل أذان للصلاة. أول ما لفت انتباهي هو لفظ «الحبيب» الذي يتصدر صفحة عنوان الكتاب. طبعا الرسول الكريم هو الحبيب، لكن اللفظ بأداة التعريف يعني أنه الحبيب الأكبر والوحيد، وهو كذلك حقا. كذلك نجح مصمم الغلاف في أن يعبر عن ذلك.

تتصدر الكتاب مقدمة للكاتب عن كيف أسرته السيرة الشريفة للرسول الكريم، وكيف كانت جاذبة له منذ الصبا، وملهمة له في كل سلوكه. وكيف فاق الرسول الكريم كل من سبقه من أنبياء، في عقله وشرفه وفضله، حتى قال عنه البوصيري في بردته «فاق النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ .. ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ». يتحدث الدريني عن كتب غير السيرة قرأها للعقاد وطه حسين وغيرهما كانت ملهمة له، وكيف رغم عمله في الإعلام والكتابة في الأدب وغيره، أراد أن لا تنقطع الكتابة عن الرسول الكريم عن المكتبة المصرية، رغم أنه ليس أزهريا ولا ضالعا في العلوم التشريعية. ما لم يقله إنه مبدع حقيقي، وليس أجمل للمبدع من رحلات السماء، بعيدا عن الأفكار المسبقة، سلفية أو علمانية. فصول الكتاب أشبه بنفحات من العقل والروح لتجسد الحبيب أمامنا من أشياء فعلها أو قالها، تظل فارقة في مسيرة البشر.

يفتتح محاولته للتعرف على الرسول الكريم محمد بن عبد الله، بقول أنس بن مالك، رضي الله عنه، «خدمته عشر سنين، فوالله ما صحبته في حضر ولا سفر لأخدمه.. إلا كانت خدمته لي أكثر من خدمتي له، وما قال لي (أُفٍ) قط، ولا قال لشيء فعلته «لم فعلت هذا؟» ولا لشيء لم أفعله» ألا فعلت كذا؟» لهذا معنى خفي وهو أن الرسول كان يتمتع بقوة تجعله في غنى عن الاستعانة بأي أحد، لكن أيضا كانت حاجته الأكثر إلى أنيس لطيف، فينتقل إلينا المعنى الهادئ، أن يخدم المخدوم خادمه وليس العكس، وليكون شاهدا أكثر منه خادما. دعاؤه مع الاستيقاظ وقضاء الحاجة والطعام والخروج وكل تفصيلة، بالإضافة إلى مجالسه العامرة بالصحابة. كيف كان إذا زاره المرض يعامله معاملة تُعلمنا، فيأخذ بالأسباب مثل التداوي، وليس التسليم لله دون التداوي. ومن أقواله» تداووا عباد الله». كيف كان يخاطب كل قبيلة بلغتها فهناك خلافات في الحديث والنطق كثيرة بينها، وكيف أحاط بهذا كله. فاللغة وعاء التواصل والسلوك.

من ملامح شخصيته المعبرة كيف كان يستقبل الداخل إليه بوسادة ليجلس عليها، كأنه يميزه ويهدئ خاطره ويطيب روعه، لو جاء من بعيد أو كان غريبا. لقد نشأ في كنف جده عبد المطلب سيد قريش، وبعده عمه أبو طالب سيد قريش أيضا، رغم رقة حاله المادي، وفي بيتهم يتوافد الأكابر وعظماء القبائل، فكفل له ذلك أن يعيش في أكاديمية تعليمية في حد ذاتها. هذه البيئة التي تربي فيها ستجعله سيدا له أخلاق رفيعة نبيلة. لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها إلا أن تُنتهَك حرمات الله، وكان أشجع الناس وأسخاهم ما سئل شيئا وقال لا! والأمثلة على كل ذلك كثيرة، جاء في الكتب على لسان زوجاته، أو الصحابة عنه، مثل السيدة خديجة بنت خويلد زوجته الأولى التي شجعته على الاستمرار بعد هبوط الوحي عليه قائلة «أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا»، وكذلك السيدة عائشة أم المؤمنين التي قالت «والله ما غرت على امرأة كما غرت على خديجة» فكان الرسول يذكر خديجة دائما ولا ينساها، وتمتد رائحتها حتى إذا ذبح شاة بعث بجزء منها إلى أهلها وأصحابها.

كثير من الحديث عن الزوجات وصفحات رائعة عنه وعنهن، ومنها يتضح كيف كان يدرك ما أدركته البشرية في مسيرتها، أن الزوجة هي البيت وسعادته وخيمته. حديث رائع عن أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأخيرا أبو لهب. الود والعاطفة لهم. كذلك عن الصحابة، وأمثلة رائعة منها ما قالته عائشة، كيف مثلا حين جاءه زيد بن حارثة وقرع الباب نهض الرسول يجر ثوبه عريانا حتى اعتنقه وقبّله، ثم سأله عن سبب الزيارة، أيْ حب هذا حتى يخرج الرسول الكريم يجرجر ثيابه بما يستر جسده الشريف، ولا يطيق صبرا حتى يرتديها. أحاديث كثيرة عن الحب الفارق للصحابة، لكن يأتي فصل الموت شديد التأثير. لقد شهد الرسول الكريم أكبر عمليات موت لعائلته وأصحابه، وتنبأ ببعضها. لم يكن الموت عابرا، بل كان حاضرا مهيمنا، إلى حد لا يوصف، فكيف كانت شخصيته وهو يواجهه منذ طفولته. توفي أبوه عبد الله بينما أمه السيدة آمنة حاملا به، أو ولدته وكان ابن أشهر قليلة. ماتت أمه وهو ابن أربع سنوات. كفله جده عبد المطلب ومات وهو في الثامنة. وهو في الخمسين مات عمه أبو طالب وزوجته خديجة في أسبوع واحد. مات أولاده الذكور الثلاثة على عينه قبل البعثة، وهم القاسم وعبد الله والطاهر، ثم ماتت البنات الثلاث زينب وأم كلثوم ورقية. ولدت له ماريا القبطية إبراهيم فمات وهو في أشهره الأولى. فاطمة الزهراء فقط هي التي عاشت ولحقت به بعد ستة أشهر من موته. مات أمام عينه عمه حمزة ابن عبد المطلب وهو أحد أحب أهله إليه. تنبأ بموت معظم أو كل المقربين إليه، فقد أنبأ فاطمة في مرضه الأخير أنها ستكون أول من تلحق به، ولن يغيبا عن بعضهما. تنبأ بمقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعمّار بن ياسر، الذي قال له «تقتلك الفئة الباغية». تنبأ بمقتل الحسن والحسين حفيديه وروحه. أحاديث في الكتاب لهم جميعا، أو عنهم تؤكد ما قيل في ذلك. كيف جعلته الحكمة النبوية يتحمل كل هذا، ولا يؤثر في تلقي الوحي ولا نشر الديانة الخاتمة، وتعليم الناس وسَوْس أمورهم. يأتي بعد ذلك حديث عن الشعر واللغة والدعاء وتنتهي من الكتاب وروحك في برزخ بين السماء والأرض، متأثرا بالأحداث والأفعال والأقوال، لكن أيضا مدركا أهمية هذا البحث القصير الدافق بالروح في محبة الحبيب الرسول محمد بن عبد الله، التي هي أعظم ما يعيننا على الحياة.

وسوم: العدد 1119