الأقنعة الشفافة
في مجموعة (الشيخ والزعيم) القصصية
لمحمد حسن بريغش
محمد الحسناوي
رحمه الله(إلى روح الأخ بريغش، الذي غادر هذه الدار يوم 19/7/2003م ولم يلق نظرة على وطنه طوال ربع قرن...).
قد تكون مجموعة (الشيخ والزعيم) للأديب الراحل محمد حسن بريغش المجموعة الأولى والأخيرة في إنتاجه الوافر.
من مؤلفاته في النقد الأدبي: في الأدب الإسلامي المعاصر – أدب الأطفال – الأدب الإسلامي – في القصة الإسلامية – دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة.
ومن كتبه في تاريخ الأدب: ديوان هاشم الرفاعي (جمع وتحقيق) – من الشعر الإسلامي الحديث (مختارات).
ومن كتبه في التراجم: مصعب بن عمير – أبو بصير – ذات النطاقين – نسيبة بنت كعب – خالد بن سعيد بن العاص – حاضنة رسول الله (بركة بنت ثعلبة).
ومن كتبه الدعوية: المرأة المسلمة الداعية – الصحوة الإسلامية وآفاق التربية – تعليم المرأة المسلمة في المملكة العربية السعودية خلال مائة عام.
يضاف إلى ذلك عدد من الكتب المدرسية.
قصة (الشيخ الزعيم) – إحدى قصص المجموعة – تتحدث عن لقاء عالم شرعي متميز زائر مع زعيم سياسي في تركيا، وهي قصة تعدّ مفتاح شخصية المؤلف، بقدر ما هي مفتاح المجموعة التي تحمل اسمها، جاء فيها قول المؤلف: (ما أصغر السياسة! في كل الشوارع والحارات، وعلى قارعة الطرقات يبتاع الناس سياسة، لكن الدعوة، فتلك تجارة الأنبياء والصحابة، والمجاهدين، والدعاة المخلصين... وتلك لا ينالها إلا من يصدق في طلبها، ويبذل من أجلها....) (صفحة 184).
في هذه القصة (تقابل) بين شخصيتين: الشيخ الزاهد والزعيم الجماهيري، أي بين الداعية ورجل السياسة، وكان انحياز المؤلف لشخصية الداعية: وتضاءل الزعيم أمام نفسه، لم تعد الدنيا في عينيه إلا لعبة صغيرة، ولم تعد صورة الأتباع والمعجبين والجماهير التي تحتشد لسماع كلماته، أو الترحيب به والتأييد والتصفيق، لم تعد كل هذه الصور تشغله أو تقلقه. هذا الشيخ البسيط يتكلم من علوٍ شاهق شاهق...) ص 180.
وفي القصة التي تليها (الحلم والثعبان) نجد (النموذج الثيمة) نفسها أي (التقابل). الحلم مقابل الثعبان، ضوء السراج مقابل الشيطان، عبد الرحيم الداعية مقابل أبي فائق الانتهازي. فالحلم الذي يرادفه السراج الذي صنعه أو صنعهما الأستاذ عبد الرحيم، يقابل ذلك كله أبو فائق الذي يقتل الحلم ويطفيء السراج، حين يحل محل عبد الرحيم في الزعامة بعد وفاته، وهو لا يستحق ذلك، إنما يحتل مكان الصدارة بخطب عصماء، ودموع كاذبة سخاء، وأعوان له في كل الأنحاء، وبذلك يموت الحلم الطاهر، ويرتفع الرمز الكذوب (ص195). في هذه القصة لا تلقى تحيز المؤلف للداعية الأمل عبد الرحيم وحسب! بل تصادف حرباً شعواء على الزعيم أو الرمز الذي شوه الحلم وأطفأ السراج.
في هاتين القصتين لم يتقمص المؤلف إحدى الشخصيات صراحة، فهو في خلفية النسق القصصي، قد يكون تلميذاً من تلاميذ الشيخ في قصة (الشيخ والزعيم)، أو أحد أنصار عبد الرحيم في القصة الأخرى، لكن الناقد المتمرس يرى كل ما في القصتين يشير إلى شخصية المؤلف بشكل أو بآخر، بدءاً بالتحيز بالموقف، وانتهاء بالتطابق مع مفردات حياته. وهذا هو الإشكال الذي سوف ندرسه في هذه المجموعة. علاقة المؤلف بإنتاجه.
بصرف النظر عن المدارس النقدية التي تدعو إلى إلغاء دور المؤلف في نصه (موت المؤلف)، أو التي تضخم حجمه، فإن الأدب الإسلامي مدعو إلى دراسة هذه المسألة من جهة، ومن جهة ثانية كان المؤلف نفسه محمد حسن بريغش، لا يفصل بين الأديب وإنتاجه الأدبي، فلا أدب إسلامياً – في رأيه – ما لم يكن مبدعه مسلماً أو حتى ملتزماً بالإسلام، يقول مثلاً: (إن تسليمنا بأن للأدب – أو لبعض فنونه صورة لا دخل لعقائدنا بها، أمر مستغرب، وخطأ فادح) (دراسات في القصة الإسلامية المعاصرة. ص13).
على الرغم من اتكاء المؤلف على ضمير الغالب في سرد أقاصيصه كلها، إلا قصة واحدة (الشجر لا يموت إلا واقفاً) جاءت ترجمة ذاتية – تلحظ نوعاً من التطابق أو التوازي أو التصادي بين حياته الشخصية وظروفه الاجتماعية والسياسية وبين هذه القصص، فثلاث منها: (همام وطبيب القلب)، (توقف الآلة الصغيرة)، (الشجر لا يموت إلا واقفاً) تتناول – فيما تتناول – (مرض القلب) الذي كان محور قصتين منهما، وهو المرض الذي أودى بالمؤلف بعد أن عانى منه سنين أواخر عمره كما نجد قصتين في الأقل تتحدثان عن (الغربة عن الوطن والحنين إليه) حديثاً شفافاً، يكاد يدخل في ركاب الشعر.
يقول في قصة (مسافر): (أمي هناك، وبلدتي أم هناك أيضاً، دنيا من الحب الصادق الطاهر وأبي – رحم الله أبي – ينبوع من العطاء الثر المتسامح، وجبل من الإباء والكرامة والرجولة. وإخوتي كل القلوب التي تؤنس المرء في كل الأحوال، وتلبيه عندما يقول: آه، وتحيطه بالمحنة والود، بلدتي قتلتها الغربة والوحشة والبعد، وعاثت فيها الثعالب والذئاب والغربان، وتجار القهر والعهر، بلدتي يبست أشجارها وبكت سواقيها، حتى جفت) (ص82).
ويقول في قصة (الإجازة والغربة): (عشر سنوات عجاف تفصلني عن ذكرياتي، ظننتها دفنت مع الأيام والشهور والسنوات، صحراء ممتددة، ليس فيها إلا الجوع والظمأ والغربة، واليوم بلمحة نعود) ويضيف (إنهم يشربون الغربة مع الماء المثلج، الذي يصنعونه صنعاً، وهم – أولاد عبد الرحيم – لا يعرفون الماء العذب والرقراق، ولم يشاهدوا نبعاً فواراً، يدفع الماء النمير، ليجري عبر الحقول والبساتين كنبع بلدهم، ولم يعرفوا السواقي التي تغني للأعشاب والأشجار والطيور. ولم يشاهدوا البطيخ، وهو ينفلق بعد وضعه في هذا الماء البارد، ولم يروا كيف يلعب الصغار من الأولاد والخراف والطيور والفراش مع بعض.... في الحقل والحارة... يا ويح الغربة!! كم هي قاسية مظلمة مرة. جرح مملّح... علقم!!) (ص150 – 159).
أما الظروف الاجتماعية التي أحاطت بالمؤلف، فتحدثنا قصة (همام وطبيب القلب) عن أديب مثقف موظف، لا يؤمن بسلطان الآلة على الإنسان، ولو في علاج بعض الأمراض، وهو ذو إحساس بالغ بقضايا الأمة العامة، وبانحلال الجيل الجديد، مما أورثه مرض القلب وفي المستشفى، يكسب صداقة طبيبه الذي تحول إلى الاهتمام بالنفس الإنسانية، بعد أن كان أسير الآلات الطبية وحدها، وذلك نتيجة الحوار والمناقشات الحادة مع مريضه الأستاذ همام. وهي (ثيمة) تذكرنا بقصة (العنبر 6) لتشيخوف، إذ يتحول الطبيب إلى نزيل للمشفى، لإدمانه الحوار مع أحد مرضاه المفكرين.
ومثل ذلك قصة (توقفت الآلة الصغيرة)، تحدثنا عن وفاة مفاجئة بـ (سكتة القلب)، لصديق المؤلف، وهو المهندس (رفيق)، على أثر العمل اليومي المضني، والتعامل مع الأرقام وحدها، وتحوله مع الزمن إلى آلة عند مرؤوسه، الذي لا يتطلع إلا إلى أرقام الأرباح وحدها.
وفي قصة (تماثيل من الشمع) حديث عن الإصلاح الإداري الزائف، من خلال شخصية مدير عام لمؤسسة، مأخوذ بالشكليات (الديكور)، وتبديل البناء وألوان الجدران، لا النفس الإنسانية، صانعة التغيير، والهدف منه، وحرص المدير على انتزاع شهادة زور من أحد أعوانه، الذي هو المؤلف.
أما قصة (الأشجار لا تموت إلا واقفة)، فيحدثنا المؤلف بضمير المتكلم عن فقده أمه: (ماتت أمي!! ماتت، نعم كنت حاضراً ولكنني لم أصدق، وبكيت كالطفل الصغير) (ص121).
وقصة (من أوراق الدكتور سعد)، تعرض لظاهرة التزوير في الحياة العامة – لا سيما تزوير شهادة عليا – للوصول إلى منصب، والتزوير أحد الأمراض المزمنة في الدول المتخلفة.
هذه الظروف الاجتماعية السوداء، هي الوجه الآخر للحياة السياسية التي لا تقل سواداً وانحطاطاً في نظر المؤلف: (أما السياسة – كما أراها – فهي شيء آخر، أمقته وأخافه، إنها تمثل الكذب والتزوير، ورسم الخطط لخدمة أغراض، لا يعرفها إلا القلائل من دهاقنة هذا العصر من السياسيين في العالم. أما الباقون فهم يمارسون السياسة وفق أدوار مرسومة، وفي مسارات محددة، ولهم أجورهم حسبما تهوى نفوسهم من المال والمتاع والشهرة، وحين تنتهي أدوارهم يختفون من على المسرح بطواعية أو كراهية) (ص17). ومن قبل أشرنا إلى تحيز المؤلف للشيخ أو الداعية، وتنديده بالزعيم أو السياسي الانتهازي.
هذه حزمة من الخطوط العريضة، التي دارت حولها قصص المجموعة، وهي انعكاس لحياة المؤلف ونظرته إلى الحياة والأدب والفن قد يقال: إن هذه الملامح عامة، أي ليست خاصة بالمؤلف بريغش وحده، والجواب: إن وقع الظروف – وإن تشابهت – يختلف من نفس إلى نفس، ومن أديب إلى أديب، كما أن أحد المعايير المميزة بين الأديب بريغش وأمثاله من الأدباء المعاصرين، وحتى الإسلاميين، انصرافه الأكبر إلى كتابة الأدب التاريخي مقابل أدبه (الراهني)، فقد نشرت له ست تراجم تاريخية، ذات طابع قصصي أو روائي، على حين لم ينشر له إلا مجموعة (الشيخ الزعيم)، التي تروي صفحات من حياتنا أو حياته الحديثة.
أليس في هذه المسألة نظر:
سوف تكون لسؤالنا هذا أهمية بالغة حين تدرس أدبياته التاريخية – وكلها تتحدث عن الصحابة أو صدر الإسلام – والقصد من تأليفه حول الصحابة، هو إسقاط ظلها فنياً على حياتنا المعاصرة، واقل ما فيها أنها صور مشرقة في تاريخ العرب والمسلمين أو البشرية جمعاء، أما واقعنا المعاصر – ومن خلال قصص هذه المجموعة – فهو جحيم في جحيم: (حياة استهلاكية مادية خالية من المسؤولية، بل عالم من الضياع دون تحديد لهدف معين، عالم الأشياء والماديات الذي يمتاز بالبريق واللمعان والإثارة، لاستهلاك طاقات الأجيال، وهو يزهو بشتى الألوان والأشكال، حتى استولى على الباب جيل تائه في هذه المغريات). (ص33).
مرة أخرى نقول: إن كثيراً من الأدباء يرون هذا الرأي، لكنهم لم ينصرفوا كلهم للأدب التاريخي انصرافه، فأين الفارق وأين البصمات؟
الانصراف للأدب التاريخي ظاهرة، وليست سبباً، والسبب قد يكون الاعتقاد بأن الخيال الأدبي يجب أن يتقيد بصدق الوقائع والأحداث، وإلا دخل الأديب المسلم في دائرة الاختلاق أو الكذب المحرمين، والتاريخ الإسلامي – والراشدي بالذات – يتمتع بمصداقية عالية هذه الإشكالية – صدق الوقائع الفنية – تجاوزها معظم الأدباء الإسلاميين، لكنها تحتاج إلى تمحيص نهائي، وفي تقديري أن المؤلف بريغش نفسه لم يكن أسيراً لها وحدها.
هناك سبب آخر للهرب إلى التاريخ أو التركيز عليه، هو النظر (المثالية) إلى الإنسان والكون والحياة، فالماضي فردوس سهل الدخول إليه، والانتقاء من أطايبه رجالاً وأحداثاً وقيماً ومعاني وأفكاراً أمد الحاضر، فيصعب على كل إنسان الحراثة فيه، لما فيه من اختلاط والتباس، ولغلبة الجوانب غير المشرقة في الظاهر في الأقل.
إن المؤلف بريغش لم يكن متحمساً للزعيم في قصته (الشيخ والزعيم) لعيب خَلقي أو خُلُقي في الرجل، بل لأن المؤلف ذو موقف سلبي من السياسة المعاصرة لكنها، كما رأينا، ولأنه يعمم معيار (الصدق) على كل الأحوال، لا شك أن الصدق قيمة من القيم التي تقرّر بها مصائر ومواقف وسياسات، ومع ذلك ليست ضربة لازم في كل حال، على وجه التعميم المسطح فالصدق في الحرب لا ينفع، ولا في الإصلاح بين المتخاصمين، وبعض السياسة جزء من الحرب، لأن السياسة هي الحرب أو هي امتداد لها، لكن بغير لغة السلاح، وأخيراً أين يقع الصدق والكذب المباح في الفن، وقد قيل: أعذب الشعر أكذبه.
إنها إشكالات في الفن والحياة والسياسة، مطروحة على المدرسة الإسلامية، وقد حلّها الأديب بريغش على طريقته الخاصة، التي احترمته واحترمها أيضاً، لكنني لا اعمل بها، وقد دفع الأديب بريغش ثمناً غالياً نتيجة قناعاته تلك، وكان الثمن من صحته وعلاقاته ومواقفه من الناس والحياة والأدب: (ما العمل إذن – يا دكتور – ما دام العالم الداخلي يؤثر على الصحة وعلى عمل القلب هل ألغي التفكير، وأهرب من العقل، وأنسى الأمانة والمسؤولية؟ هل أتخلص من الشعور والإحساس، وأتعامى عما أبصر؟ وأصك سمعي عما أسمع؟ إن الواقع ينشب مخالبه في عمق أعماق إنسانيتنا، ويمزق كياناتنا، ويستنزف دماءنا، ويغتال كل قيمنا التي تضفي صفة الإنسانية علينا، فهل نستسلم حتى لا تتعب قلوبنا؟) (ص36).
* مجلة المشكاة المغربية، العدد 43-44، السنة 1425هـ / 2004م.