"الحافلة رقم 32" لعبد الله ساعف
صور الذات في "محكي الحياة"
في "الحافلة رقم 32" لعبد الله ساعف
د.عثماني الميلود
1-تقديم:
إذا كان الأستاذ عبد الله ساعف قد جعل من السيري تعلة لكتابة جزء من واقع الأحياء الجنوبية- الغربية لمدينة الرباط ، وجعل من أمثولة الحافلة ، محركا للتنقل المادي والنفسي والثقافي ، فإننا ، من زاوية تخصصنا ، سنلاحق هذه التعلة في ذاتها ، أي كما لو أن الأستاذ ساعف روائي أو قاص أصلا ، هدفه صياغة عوالم حكائية تعج بقيمها وصورها ومقولاتها.إن اختيار السرد (سيرة كان أو ترجمة أو حكاية أو قصة قصيرة أو رواية أو محكي الحياة) ليس بالتقليد الجديد في مجال العلوم الاجتماعية لا كونيا ولا محليا(جاك بيرك في ترجمته لأحمد بن عليوة أو اليوسي في كتابه "اليوسي أو مشكلة الثقافة المغربية)أو سيرة اليوسي مع كليفوردغيرتز ، أو ديل إيكلمان في كتابه "المعرفة والسلطة" أو " علي الا[i]لغي" لعبد الله حمودي ، أو عبد الرحمن المصمودي مع أيكلمان).
إن ميل د.عبد الله ساعف إلى هذا الاختيار السردي ،وتأثيث عالمه بكل المواد الصالحة لأن تشيد رواية من عناصر زمنية (رغم قلتها) ومكانية وحدثية وشخوصية وتحليل للبواطن ، وربط للظواهر بالثقافات التي أنتجتها ، هو أمر في اعتقادي المتواضع يجعل من أمثولة الحافلة 32 نصا سرديا روائيا واقعيا يوفر كل عناصر الإثارة والتشويق والسحر الذي يميز أي عمل سردي قصصي .السؤال لن يكون : ماذا يحصل للسوسيولوجي حينما يكتب السرد ؟ بل سيكون ما الذي يوفره السرد لحقول معرفية أخرى سواء أكانت اجتماعية أم نفسية أم اقتصادية أم بيداغوجية أم تاريخية ؟ بمعنى ما العناصر التي يحول الخطاب السوسيولوجي دون ظهورها ، في حين تتحول السردية (narrativisation)إلى كاشف لهذه العناصر غير المرئية ؟
2-جعل الحياة الشخصية محكيا :
إن المقاربة البيوغرافية باعتبارها وسيلة للولوج إلى القصة الشخصية والجماعية قد احتلت منزلة ملحوظة في السوسيولوجيا بغرض إثارة الانتباه إلى ظواهر تتمنع على وسائل البحث السوسيولوجي الكلاسيكي .وهذه الصيغة الخطابية حول معنى الأحداث التي تحيط بمسيرة الحياة تشكل سندا /ِ دِعامة لممارسات مصاحبة متنامية داخل الحقل الاجتماعي .وهي طريقة لنسج روابط بين الفرد والجماعة :" إن الأطوبيوغرافيا أو محكي الحياة(récit de vie) ليسا عودة الواقع الذي مضى ، ولكنهما تمثيل لهذا الواقع المنسجب الذي يسمح لنا بالتعرف على ذواتنا والبحث عن المنزلة الاجتماعية التي تلائمنا "(حسب تعبير بوريس سور يلنك[ii]).وفي سياق المجتمعات ما بعد حداثية ، فإن الفرد ليس مرتبطا بالعلامات الكبيرة المنظمة لما هو اجتماعي والتي يخضع لها الإنسان إما كخادم لله أو الملك أوالجمهورية أو الدولة أو الوطن ، وذلك لأن الفرد لم يعد يجد ذاته في ذلك.وعليه فقد ظهر أن الأهم هو بناء الفرد ذاتَه بناءً على ما هو ذاتي ، انطلاقا من خطابٍ واضحٍ وشفافٍ ، بل محتج ومطالب:" أنا سيد نفسي".هكذا ، لم يعد لمحافل الطبيعة المتعالية وللسرديات الكبرى أية سلطة على الفرد (بتعبير ج.ف.ليوتار[iii]).
وفي الأدب ، كان لتطور الأوطوبيوغرافيا ،حسب فيليب لوجون دور الاقتراب من بناء الذات البورجوازية في العصر الحديث ، حيث قال :"كن سيد حياتك"، وأضاف:"كل واحد منا مطالب بإعادة امتلاك ما هو فردي في حياته..."(ص.231)[iv].
3-الخطاب الأوطوبيوغرافي في العلوم الاجتماعية:
إن هذه المقاربة البيوغرافية أو الخطاب الأطوبيوغرافي قد غزا حقل العلوم الاجتماعية .فقد كان محكي الحياة (باعتباره أداة للبحث في السوسيولوجيا ) هو ما طبع الأصل ، في إطار مدرسة شيكاغو ، مع صدور مؤلف" الفلاح البولوني في أوروبا وأمريكا" ، سنة 1919.هو محكي مهاجر ، لكل من ويليام طوماس وفلوريان زنانيتشي . هذه الدراسة سمحت بفهم ومعرفة صعوبات اندماج المهاجرين البولنديين في شيكاغو اعتمادا على سيرة ألفها فلاديك.وهي دراسة أعطت بداية ميلاد ما سيعرف لاحقاً بالمقاربة البيوغرافية في السوسيولوجيا .وعليه، فانطلاقا من حالة خاصة وفردية، يمكن أن نحلل عينات من الظواهر الاجتماعية عجزت المناهج الكلاسيكية عن الانتباه إلى قيمتها .
4-محكي الحياة في أمثولة الحافلة 32 :
4-1:يسعى السارد في "دفاتر الحافلة " إلى تحقيق غايتين اثنتين :عرض محكي أستاذ جامعي وجد نفسه ،في فترة حاسمة من تاريخ العالم العربي ، دون سابق تحضير دون وسيلة نقل خاصة تقله من مقر سكناه إلى مقر عمله ، أو مقر الحزب ، فقرر أن يحدث تحولا في مسيرة حياته ، في أن يستقل الحافلة كبقية الفئات الاجتماعية العاجزة عن امتلاك وسيلة نقل خاصة.وبعد أن نسجت العادة علائق حميمية بين الأستاذ الجامعي والحافلة ، أصبح الاستغناء عن وسائل النقل الخاصة عقيدة واختيارا نهائيا ، والأسباب متعددة .أما الغاية الثانية ، فعلمية محضة ، فركوب الحافلة سيتحول إلى تعلة لإعادة استكشاف جهة من الرباط، أي من المغرب ،ومحاولة فهم مجريات الحياة كما تعرضها أمثولة الحافلة كأداة لتأطير حركة النقل وتشييد صورة للعالم والمجتمع كما يراد لها.كما أن الغاية هي السير على نهج باحثين سوسيولوجيين قرروا أن يجعلوا من هذه الأيقونات محورا للتفكير والتحليل والتأويل ، في إطار اختزال الظواهر والتغلب على سديميتها وغموضها وطابعها الفضفاض.
4-2:إن الاستعانة بمحكي الحياة وأمثولة الحافلة هو ما سيمكن الباحث السوسيولوجي من الوصول إلى معرفة سوسيولوجية ، ومن ثمة ابتكار طريقة مجددة ، تنبئ بحصول قطيعة مع المقاربات الوضعانية التي تفضل التقنيات الكمية ، و تعالج العلوم الاجتماعية وفق نماذج العلوم الطبيعية .هنا يتغلب السارد على الواقع المستعصي والبنيات شبه الثابتة ؛فيشرع في استعراض التجارب الإنسانية الواقعية لفئات تركب الحافلة ، والمواقف غير المصرح بها التي تشكل واقعيتها الاجتماعية الكاملة. يقول عبد الله ساعف مشخصا حالة من الانغماس والاندماج والقرب بينه وبين "مجتمع الحافلة":
"إن الإشكال الذي أواجهه باستمرار يتمثل في ضرورة إيجاد طريقة أترك فيها هامشا من الحرية "للمواطنين" لإبداء وجهات نظرهم، في مقابل تفادي مغبة استعمال الذاتية الحكائية كآلية للتحكم في تلك الآراء تحت ذريعة ممارسة لعبة : "عالم الإثنوغرافيا الهاوي".
يبدو أن الحكاية مبثوثة في كل مكان من الحافلة بشكل طبيعي، فمن الصعب بالنسبة لي كمسافر عابر تعديل التصريحات التي يسجلها الركاب، أوالتحكم في تأويل الوقائع التي أحياها وتوجيهها وفق سياق معين، فالأمر يتطلب قدرا هاما من ضبط النفس لكي لا تنجرف وراء الوهم الذي يخلقه انطباعي وحدسي الخاص، عن معرفتي الجيدة بما يحدث."ص18).
فالحياة الاجتماعية لن تصير حقيقية إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الحياة الفردية التي تسكن خلف الحوادث الاجتماعية ، كما يؤكد ويليام طوماس وفلوريان زنانيتشي في "الفلاح البولوني"[v].وتتجسد هذه المعادلة، في حافلة الأستاذ ساعف ، في أن محكيه تحول إلى أداة لملاحظة التجربة الشخصية الداخلية ، مع فضيلة ملاحظة ما بينها وبين ذوات الآخرين من تشابه وتقارب.فما أعطاه محكي الحياة ، حياة السارد ومجتمع الحافلة ،من أهمية سردية أنه جعل الواقعي والحقيقي يبدوان مألوفين لكن من زاوية ذات السارد والمحلل(انظر ص.19).
5- محكي الذات والهوية السردية :
وهكذا عبر فعل الحكي ، حكي تجربة ركوب الحافلة ، بشكل يومي ، ولمدة معقولة جدا ،شيد السارد في أمثولة الحافلة 32 هوية جديدة ، ما كان يمكن أن يكتسبها لو مكث مصرا على استقلال سيارته الخاصة .هوية جعلت ذات السارد تنخرط في إطار علاقة ذات أبعاد ثلاثة :
- علاقته بذاته.
- علاقته بالعالم ( أو العويلم:الأحياء الجنوبية الغربية).
- علاقته بالآخرين ( سائق الحافلة، القابض، المفتشون، الركاب كجماعة، والحالات الفردية التي أفرد لها السارد وضعا خطابيا وسمح لخطابها أو هويتها بالانكشاف وبأن تكون شاهدة على جماعتها ومجتمعها وثقافتها).
يسعفنا بول ريكور ها هنا كثيراً،فباستحضار فكرة الهوية السردية في دفاتر الحافلة ، نستطيع أن نقول :
إن محكي الحياة في عمل عبد الله ساعف يندرج ضمن الفعل الإنساني ، فيفترض لذلك ساردا يعطي لتسلسل أحداث الحافلة معنى زمنيا.إن الهوية تتشيد داخل حُبكة الأحداث المعيشة يوميا ، حيث السارد يقيم علائق بين أحداث مختلفة محليا وعربيا وكونيا ، وهو ما أضفى على أحداث الحافلة انسجاما واتساقا تاميين.وهكذا فإن النشاط السردي الذي به تنعرض علينا أمثولة الحافلة هو ما أضفى على حياة الأستاذ الجامعي ومجتمع الحافلة والصور المتفرقة من حياة الأحياء الجنوبية الغربية دلالة كبرى .إن دور المحكي، في دفاتر الحافلة حيوي ومركزي.فمن خلال تفكيك حركية النص وفعليته وتأويلهما حيث يمكن للفرد أن يتعرف قصته ،ويفهم ذاتيته.فن المحكي يسهم في معرفة الذات التي هي ، في آخر المطاف، إعادة تصوير للذات وتأويل للذات من خلال المحكي ، فتتحول الذات إلى ذات أخرى.
وإذا كانت الهوية الخاصة لعبد الله ساعف تحيلنا إلى المحددات الأخلاقية والسلوكية التي تحددها ، فإن الهوية السردية تنشأ في إطار علاقة غيرية.ولهذا نفهم لماذا رفض الأستاذ الجامعي الاستجابة لعروض طلبته في أن يقلوه ، لأنه بذلك سيتعرض لما لا يريده كهوية خاصة (أستاذ جامعي) ، وفضل أن يستقل الحافلة وأن يكتب مذكراته عن مجتمع مصغر ينمو أمام عينيه ، حيث هو طرف وذات.
فما يربحه السوسيولوجي إذا تحول إلى سارد لمحكي الحياة كثير ؛ إنتاج تصوير معين للذات ، إنتاج يصير هو الآخر بلورة للذات ، في إطار علائقها الانتمائية بالآخرين. وعليه فإن تحريك محكي الحياة بدل تحريك ألآليات الوضعانية ، كأداة سمحت لساعف بمساءلة مختلف صور الذات : ذات تحددت من خلال انخراطها الاجتماعي والسياسي والعلمي ، والأسري والسلالي ،ذات تخترقها التناقضات والصراعات التي تسعى للعبور من خلال المحكي إلى الحياة ،وأخيرا سارد يجد نفسه مورطا بين الواقع والتخييل.
- خلاصة وتركيب :
إن السرد يدعونا إلى أن ننزل أنفسنا المكانة الملائمة لنا ، في هذا العالم ، وذلك بأن نتقاسم وإياه محكياتنا، كما يقول بوريس سوريلانك[vi].إن فعل السرد يسمح لنا بأن نتحدد كذات تعبر عن نفسها بواسطة ضمير المتكلم، ولكن نتحدد كذلك باعتبارنا فردا منخرطا في حكاية جماعية.وهكذا ،فإن "الحافلة رقم32" للأستاذ عبد الله ساعف ،هي سعي مشروع لاستعادة التجربة وعيشها سرديا في كل ملامحها الإيجابية أو السلبية.السرد ثورة على الخوف والتردد.الحافلة كناية كبرى عن روابط وصلات متعددة لإعادة الاندماج ، كما أنها إمكانية لإعادة تصوير عناصر من التاريخ المتنامي من خلال منظور سردي جديد.
وبهذا الاختيار ، يكون عبد الله ساعف قد خلق فضاء للتخييل ، فمكن محكي الحياة(الذات) من بناء الواقع مجددا ،ومن جعل الذات مرئية جدا بالنسبة للذات الساردة نفسها .على أن الهدف الأسمى ، من هذا النوع من المعرفة السردية ، البحثُ في الوصول إلى أقصى درجات الحرية.
[i] الحافلة رقم32، النص العربي ترجمة مصطفى حسني ,دار الامان/2013
[ii]Boris Cyrulnik :Le murmure des fantomes,Paris,Odile Jacob,2003.
[iv]Philipe Lejeune :Je est un autre,Paris,Le Seuil,1980.
[v]WillamThomas,florianZnaniecki :Le paysan polonais en Europe et en Amerique.Récit de vie d’un migrant(1919),Paris ,Nathan ,1998.
[vi] Ibid,p.130.