عندما تكذب آلة الإعلام ..

المنشاوي الورداني

عندما تكذب آلة الإعلام ..

المنشاوي الورداني

مترجم بالتليفزيون المصري

المتأمل في مسيرة الكذب الإعلامي في قصص الأولين يجد ارتباطها الوثيق بتوجه معين يريده صاحب السلطة والنفوذ ، حيث يعزز هذا التوجه بكل ما أوتي من قوة للحيلولة دون وجود المنافس الذي قد ينزله عن عرش الهيمنة والقهر . ولا غرو.. فالآلة الإعلامية ليست وليدة العصر الحديث فحسب ، بل سبق وأن بسطت رداءها في العصور الأولى ولكن بأشكال تختلف عن وسائل عصرنا الراهن الذي يتمتع بالوسائل الإعلامية الحديثة كالانترنت والصحافة والإذاعة والتليفزيون .

وقد اشتركت جميع الوسائل الإعلامية – قديمها وحديثها- في الكلمة الكاذبة لتوجيه الجمهور نحو توجه معين يريده من يملك الكلمة. والكلمة هنا هي الخطاب الإعلامي والذي كان في القدم ما يصدر عن اللسان ، وفي العصر الراهن أيضا ما يصدر عن اللسان ولكن في صور مطبوعة ومرئية ومسموعة.. وتأمل موقف القرآن من الشعراء حيث كان ما تلوكه ألسنة الشعراء هو النموذج الإعلامي القديم في ديوان العرب ، وتذكر قارئي العزيز تلك المساجلات والمعارضات بين جرير والفرزدق من أجل مناصرة الحكام بسلطان الشعر. . وما كان يحدث في فجرالإسلام من جانب شعراء الجاهلية بهدف ضرب الدعوة في مهدها ، لذلك ذم القرآن ذلك النوع من التوجه الإعلامي الذي يهيم فيه الشعراء : " والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ما لا يفعلون . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا.."( الشعراء / 224-227)

ولما كانت الكلمة أساس الخير وأساس الشر ، فقد جعل الله تبليغ رسالة الرسل بالكلمة ، و جاء الطواغيت ليفسدوا في الأرض في مبدأ الأمر بالكلمات .. كما حكى الله عن فرعون : "ما علمت لكم من إله غيري " ( القصص/38) ..وعن قارون :" إنما أوتيته على علم عندي " (القصص / 78). وأول معصية كانت كلمة ، كما حكى الله عن إبليس : "قال أنا خير منه "( ص/76) . وما أصاب المدلسون أعراض الرسل والصحابة والرموز الإسلامية إلا بالكلمات . وعن أبي هريرة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يَتَبَيَّن فيها يزِلُّ بها في النار أبعد مما بين المشرق ) رواه البخاري  . وعند الترمذي:  ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى لها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار )

     وقد قال الحافظ في ( الفتح ):- وكأنه يستشرف الخطاب الإعلامي قديما وحديثا -  قال بن عبد البر: الكلمة التي يهوى صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند السلطان الجائر . وزاد بن بطّال بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سببا لهلاكه ، وإن لم يُرِد القائل ذلك لكنها ربما أدّتْ إلى ذلك ، فيكتب على القائل إثمها . والكلمة التي ترفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة ، أو يفرج بها عنه كربة ، أو ينصر بها مظلوما . لذلك يرى الإمام النووي : في هذا الحديث حثٌّ على حفظ اللسان ، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق ،  فان ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك .. فعن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) رواه الجماعة إلا النسائي وابن ماجه .

 

  وإن من الكلام الذي ينفع صاحبه هذه الأيام مناصرة المصلحين والمجاهدين الذين يشن عليهم الكاذبون والمدلسون الحملات تلو الحملات ، ومنها حملات الإعلام والكلام التي كانت موجهة ضد غزة فلسطين وأفغانستان وباكستان وحاليا ضد ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا وليبيا وغيرها بدعوى الإرهاب ، وكذلك نصرة الأقصى والوقوف مع المواجِهين لليهود في بيت المقدس الذين يريدون هدْم الأقصى وبناء كنيس الخراب وهيكلهم المزعوم .  

    ولكي تعرف الفرق في الخطاب الإعلامي الصادق ونقيضه الكاذب : تأمل كلمات الرسل في تبليغ الرسالة وكذلك من كانوا لهم أعداء لهدم هذه الرسالة .. حيث ستجد مسألة طلب الأجر ممن يتبنون الكذب الإعلامي والزهد في هذا الأجر لدى الصادقين . ولقد أكد جميع الرسل في خطابهم الإعلامي لأقوامهم أنهم لايريدون في رسالتهم هذه الأجر أو المال ، بينما يطلب محترفو التدليس والكذب هذا الأجر وذلك المال : يقول تعالى في سورة الشعراء على لسان أكثر من نبي في الآية 109 و الآية  127 و 145 و 164 و 180 : "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ".. وعلى النقيض ترى سحرة فرعون وهم أشبه بمحترفي التزوير والكذب الإعلامي المعاصر – تراهم يطلبون الأجر من الفرعون صاحب السلطان في مصر القديمة ، وقد جاء طلب هذا الأجر في أكثر من مناسبة في القرآن الكريم حيث يقول ربنا على لسانهم : (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113/ الأعراف) ، و(فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41/ الشعراء ) . لذلك كانت الرسل وأصحاب الدعوات الإصلاحية في ثبات وتأييد رباني لأنهم لا ينتظرون و لا يقبلون ولا يسعون للمقابل إلا من الله .. بل قد يسمو المصلح فوق نفسه وفوق حطام الدنيا الزائفة ولا يريد هذا المقابل لدرجة أن يرفض ويحارب المقابل فهو لله و مع الله و بالله يعمل ..وهل هناك أجمل و أنظف وأرقى من هذا التوحيد الخالص الذي يصفي السريرة فلا تعلم هل أنت تمشي على الأرض أم تسبح مع الملائكة ..؟

وكما أسلفنا .. فإن الكلمة التي يتفوه بها اللسان هي آلة الإعلام قديما وحديثا ، وإن كانت الحملات الإعلامية الكاذبة في عصرنا الراهن قد اكتسبت أسماء حديثة عبر الشبكة العنكبوتية والإذاعات والفضائيات وكذلك الصحافة الصفراء ، فليس هذا بجديد .. بل هي معركة قديمة قِدَم المعركة بين الخير والشر، وقد جعل الله لنا في رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة في كل أموره، ومنها: مواجهة كيد الكائدين بالصبر واليقين؛ ولعل أبرز الأمثلة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة تلك الدوامات: "حادثة الإفك"، وما أحوجنا جميعًا إلى تعلم الدروس التي علمها الله للمجتمع المسلم ككل عندما يواجِه بعض أفراده مثل هذه الحملات: صبر ويقين من صاحب القضية، وحُسن الظن ومناصرة من باقي المجتمع، وتَثبُّت وإمساك عن الخوض فيما لا برهان عليه، وإن "دوَّرته الآلة الإعلامية" ليل نهار، لكن إلى أي مدى يمكن أن نثبت أمام هذه الحملات؟!

ولقد كان لحادثة الإفك هذه التأثير البين لسطوة الإعلام الكاذب في المجتمع المسلم : " إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " ( النور/ 15) فالحادثة قد شطرت مجتمع الإيمان ونشرت الكذب والتدليس والتزوير في ربوع المدينة وأطلت الفتنة كالأفعى برأسها : " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم "(النور/ 11) .. ولكن شاء الله بتأييده أن تكون هذه الحملة الشعواء منحة من بعد محنة : " لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم " .. لذلك نحن نؤكد هنا مع الباحثين في علم الاتصال والإعلام خطر وأثر الإعلام في توجيه الرأي العام أو تكوينه .. حيث ترى الباحثة الألمانية "إليزابث نويلة" التي أعدت دراسة عن تأثير الإعلام على الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي انتهت فيها إلى أن الإعلام كثيرًا ما يشكل ضغطًا رهيبًا على الرأي العام؛ ليصبح الرأي العام هو ما يريده الإعلام لا ما يريده الشعب، عبر آلية أو نظرية أطلقت عليها: "دوامة الصمت".

وهي تقوم على افتراض رئيسي هو أن الإنسان في الأعم الأغلب لا يحب العزلة، ويخشى مِن مصادمة الرأي العام، وأن الإعلام يستطيع تحت شرط معين أن يلح على فكرة أو موقف من شخص أو جماعة بدرجة تعطي قناعة لدى جميع المتلقين أن هذا هو الرأي العام، ومِن ثَمَّ ترتفع الرغبة لدى مؤيدي هذه الفكرة، ويفتخرون بالانتماء إليها، بينما يشعر المعارضون لها أو المؤيدون لأطروحات أخرى بالحرج والخجل فيلزمون الصمت؛ مما يحوِّلهم إلى "أقلية صامتة" في المجتمع! بل ذهبت النظرية إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن الإعلام يستطيع إذا توحد على وجهة نظر مصادمة لرأي الأغلبية أن يحولها إلى "أغلبية صامتة" تخجل من مبادئها؛ حتى لو كانت هي مبادئ الأغلبية! بينما الأقلية المساندة من الإعلام تشعر بأنها صارت الأصل.

ولكن الشرط الرئيسي لكي تحدث هذه الظاهرة، هو: أن تتوحد وسائل الإعلام على أيديولوجية أو فكرة أو هدف، وهذا حاصل في حالات الإعلام الموجَّه مِن قِبَل الحكومات الديكتاتورية.

ولكن هل يمكن حدوث ذلك في حالات الإعلام الحر؟!

تجيب الباحثة الألمانية: إن البلد موضع الدراسة -وهو الولايات المتحدة الأمريكية- يحرر أعلى درجات التحرر الإعلامي، ومع هذا وجدت أن الأُطر العامة التي تحرِّك المؤسسات الإعلامية المتنافسة هي أطر واحدة، ومِن ثَمَّ فإن هذه المنافسة بين تلك المؤسسات لم تمنعها من أن تكون كلها تقريبًا ضاغطة لصالح توجهات معينة تدافع عن مصالح الشركات الأمريكية الكبرى.

وإذا أضفنا إلى رأي هذه الباحثة آراء باحثين آخرين يرون أن "التنوع الإعلامي" ما هو إلا أكذوبة كبرى؛ علمنا الحقيقة المُرة التي تواجهها البشرية عامة، لا فرق في ذلك بين عالم متقدم وآخر نام إلا في نوعية المتسلط على عقول الناس مِن الديكتاتور السياسي في العالَم النامي إلى الديكتاتور الرأسمالي في العالَم المتقدم.

إن آلة الإعلام  الحالية عندما تتحرى الكذب .. يبدو أنها تتخذ مثلها الأعلى نظرية وزير الإعلام النازي (جوبلز ) الشهيرة: " أكذب اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس.. ) . – وقديما بحث الكافرون عن الغلبة بهذه الطريقة فقالوا : " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " (فصلت /26 ) - هذه المقولة اندثر جسد صاحبها لكن العمل بها يبدو أنه لم يندثر..فنحن ما زلنا نشم روائح الكذب.. في بلاد الربيع العربي بغرض وأد الثورات العربية ، وكنا نظن إنه عندما تفوح رائحة الكذب سيخجل الكذابون، ولكنها تتكرر.. وتتكرر حتى تعودت الأنوف رائحته.. وصار طبقا رئيسا على الموائد بعد أن كان طبقا جانبيا.. ومع التكنولوجيا والثورة المعلوماتية صار القول إن الصورة أصدق من الكلمة، أو إن الصورة لا تكذب.. ) هو الآخر كاذب، فعملية قص ولزق ممكن أن تضع صورة مع خبر لا يمت لها بأي صفة، ناهيك عن عملية الفوتو شوب، التي من الممكن أن تغير بالملامح..وكأن الاستنكار القرآني للخطاب الإعلامي الكاذب القديم لدى بني إسرائيل لا يزال موجودا ، ولكن للأسف بين أبناء بلاد الربيع العربي الذين تشكوهم الثورات الوليدة إلى الله :

" ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "( البقرة /42 ) ..لذلك نعود لنؤكد أن حاجة المسلمين اليوم ليست إلى السلاح والعتاد بأشد منها إلى جهابذة كلمة الحق الذين يزيلون اللبس عن الناس ويبلغون الحق عن رسل الله عز وجل الذين ورثوا أمانتهم وميثاقهم.. ويصححون كذب آلة الإعلام بقدها وقديدها.