وجع الذاكرة في مرافئ مسلم حسب
وجع الذاكرة في مرافئ مسلم حسب
عبد الزهرة لازم شباري
بدءاً بأضائته التمهيدية التي أزاح بها الشاعر مسلم حسب أنثيال الشعر المكبوت لديه وعزوفه عنه لمقتضيات الواقع الذي يعيش فيه ، وأمام ضغوط يراها لا تستطيع تحقيق الهدف الذي يرومه الشعراء والشعر خصوصاً ، لأنه يرى الشعر لا يحقق مبتغاه في تغيير المجتمع الإنساني لما يحققه في أنجاز وظيفته الإنسانية أمام تلك الأحداث الدامية التي كبلت مجتمعنا العربي والعراقي بالذات ، لأن الشعر إن لم يحرك ويسهم في حل التخلف والركود في المجتمع لا يمكن له أن يعيش !!
ولو أنه أكثر العناصر ملامسة للواقع ، ولمشاعر الآخرين وتحريك كوامنهم الراكدة ، عليه راح الشاعر يكشف عبر خزينه الشعري ومجساته عن عالمه الذي تحتشد فيه أساطير الطبيعة وأحداث الماضي القريب !
التي تترمز إحداثياتها فيما يمثله من قلق وخيم يخيم على شاعريته التي ما تزال يدق ناقوسها على أستقواء قابليته في الكتابة ويستحضرها بنوع من التشهي والذوبان في خضم َ الواقع الذي عاشه وشعبه عبر مراحل القهر والحرمان في مجتمع حشدت فيه كل طاقات الظلم والاستبداد والموت الجماعي .
لذا نراه يقذف حممه البركانية في قصائد مجموعته الصغيرة (( مرا فيء الذاكرة )) التي يعيد بواسطتها صوته القديم الذي ألجمته السنين والغربة ، والظروف الصعبة والذي ما يزال عالقاً بالمكان والأحداث التي احتوته .
تلك الأحداث التي ابتدأت ْ بالسجون والمنافي والحرب الطائشة اللامسؤولة ، وانتهت ْ بالموت الجماعي والمراثي التي غطت ْ كل فئات المجتمع العراقي في عقود من الظلم والاستبداد !!
في (مرا فيء الذاكرة ) مجموعته الوحيدة التي تسنى لي الحصول عليها من لدنه مشكوراً ،والصادرة عن دار التكوين ، دمشق – سوريا ، يأخذنا الدكتور مسلم حسب حسين في ما يرسمه من أستحضارات فكرية ترمز إلى حياة مكبلة بالبؤس والحرمان ، وما يحسه فيها من آلام تحز في واقعه ، بلغة شفيفة عذبة ندية باحثاً بواسطتها عن مرا فيء لذاكرته التي سافرت عبر محطات من الألم والحزن والشوق إلى من هم أقرب إلى حسه الإنساني .
تلك ألأسماء والرموز التي يحشدها الشاعر في قصائد مجموعته والتي يصنع منها أناشيد تبدد ظلمة لياليه الموحشة ، ويرش عليها رذاذ من الندى والحب وذكر الحبيبة والأهل والأوطان !
ففي قصائد مجموعته هذه كثير من الحنان والشوق الذي يحسه القارئ والمتتبع لهذه القصائد ، فهو يتمنى لو أن خارقاً يخرق الزمن ويعمل المستحيل لإضاءة فيروز أمله الذي تجلَى في أن يكون وطنه مقبرة لجلاديه وجنة لأهله وشعبه !
ففي قصيدة (( هدير الزبد )) يقول :
(( .... من ذا الذي يعيد للزمان
أشراقة السر الإلهي الذي ما أنبثق
الإنسان إلا َ من ضياه ،
من ذا الذي يبدل الإنسان وجها ً
تعفر في وحول الزيف واعتلت ْ الجباه
سحائب الهوان ،
فغادرتنا الروح والنبالة ،
من ذا الذي يعيد للأمواج هديرها ..
للريح عنفوانها ..
للحلم رونقه )) ص 18 – 19
هذا التوغل في الوصف واستحضار أشراقة السر الإلهي الذي يعيد ما أنبثق من ضياء الإنسان إلى الوجود ، يعيد هذه الأصوات إلى طاقمها المحسوس والمسموع ، يعيد النداء ألجبروتي أمام مقاصل التعذيب هوان الإنسان ، يعيد الصرخة العارمة بوجه الاستبداد ويكشف الستار المظلم عن وجه الحقيقة ، تلك هي أستحضارات الشاعر مسلم الذي يكشف بها عن عالمه المخفي الذي غطته ستائر الخوف والرعب والعزلة !!
وفي كل قصائد مجموعته هذه والتي تفصح عن وجع داخلي يضغط عليه ويفيض برؤيته الكامنة وراء سحائب مظلمة ، ليعلن من خلالها إلى الملأ عن صرخته التي يرَمز لنا فيها عن رفضه الصارخ لكل القيم اللاإنسانية التي تفرض على مجتمعه .
(( ففي .. المدينة الملعونة ، الفصول ، الغابة العذراء ، مرا فيء الذاكرة ، على جسدي خارطة للوطن ، أكمال الرغبة ، بين اليأس والأمل ، لن يطفئوا شمس العراق ، مرثية بغداد .. وغيرها )) هذا الموروث الشعري الذي ما برح الشاعر عن إعلانه لنا بلغته الشفيفة الندية ، هو ما أستله من قاموسه وتخيلات فكره المتعب ، الذي صور انفعاله وتلاطم أحاسيسه كموج البحر في يوم عاصف ليرسم من خلاله عوالمه ومأساته وشعبه التي يعيش بها في مراحل الظلم والاستبداد !
عليه قسم الشاعر هذه القصائد إلى مرحلتين مهمتين في حياته ومن تاريخ شعبنا العراقي : وهي مرحلة التسعينيات ، مرحلة الحصار الوحشي الذي فرضه طغاة العالم على شعبنا ، وهيمنة نظام استبدادي عليه ، ومرحلة الاغتراب عن الوطن التي تغرب بها الشاعر عن أهله ومحبيه قرابة سبع سنين ، عاش فيها مأساة الشوق والحنين إلى الأهل والوطن والأحبة !!
(( ... وقبل أن أراك
كان قلبي كأغنية حزينة
ليلة شتائية أفلت من سمائها النجوم ،
فراغاً مريراً من غربة واشتياق ،
وحينما رأيت عينيك تكدست في سماء روحي ،
سحائب حب مخضلة بالمطر
فازدهرت زرقتها ،
غابة من لهفة واحتراق ... )) ص 49
هذه الصور المبدعة تحمل بين طياتها قوة الملاحظة النابعة من تجربة شعرية موروثة من زمن بعيد خصبتها المعرفة والإطلاع ، حيث بدء الكتابة على ما أعتقد منذ بواكير عمره في ولوج أبواب اللغة التي يدخل من خلالها إلى روح القصيدة ومجساتها وهي تلتقط تلك الانفعالات التي يراها في وجوه العابرين من أبناء شعبه الجريح !!
ولأن ما يميز هذه الصور في هذه المجموعة هو أنحياز الشاعر إلى لغته المتوترة بهمسها وصمتها ، فنكاد نحس ويحس المتلقي معنا بأن الصورة الشعرية عنده وتر ٌ مشدود يشيع ُ بروح المتلقي نفساً من الخيال والطيران على جناح القصيدة التي تجمع بين عناصر المشهد المراد بناؤه من جهة وفاعليته على نفسية الشاعر من الجهة الأخرى .
فذا هو يقول في قصيدته (( على جسدي خارطة للوطن )) والتي يعبر فيها عن وجعه السرمدي عن تلك الآلام التي تأخذ من أجساد شعبه البائس الذي داسته أقدام وبساطيل الغزاة تحت رحمة من تجلببوا برداء الوطنية العربية المستوردة !!
(( ... يا أيها البائسون كبؤس الشواطئ المهجورة
العابرون شواطئ المنفى
نحو حلم يتبدد مثل رذاذ البحر الصاخب
تدب في عيونكم كآبة خفية
بأقدامها الشاحبة الثقيلة
الحلم ُ رفيف ُ جناح مذعور ْ
والوطن ُ سفينة مثقوبة
وعل ٌ مبهور ٌ بين الوجع الكوني النازف
ونصال البدوي الأبيض
فكيف يجيء الفرح ... الحلم
وجياد الوطن ..
الحلم محاصرة تعبى
تناثر في صمت المنفى
مثل غبار الفجيعة )) ص 40 – 41 .
فالشعر عند الدكتور مسلم حسب حسين يرتبط بموقف ملتزم مع الإنسان ومشكلاته ،والأزمات التي تربك سير الحياة لديه ، لأن المتتبع لقصائد مجموعته (( مرا فيء الذاكرة )) يرى هذا الحس الوطني الذي يطلقه من خلال قصائده المبدعة والتي يخاطب من خلالها روح الانسان للخروج من بوتقة الطغيان والمأزق الذي يعيش فيه ، فهو يحاول أن يحرك كوامن النفس الأبية لتثأر عن كرامتها وحريتها المسلوبة !!
أن هذا الصوت الشعري يصنع الثورة ورفض الاستهتار بقيم الشعب والوقوف ضد الصراعات الطائفية التي لا يجنى منها غير الخذلان والضعف والويلات المدمرة ، وبهذا لا أريد أن أسلب من القارئ الكريم فرصة التوغل في قراءة هذه المجموعة المبدعة ، كما أهيب بأصحاب الاختصاص أن يكتبوا عنها ، والله ولي التوفيق !!