في الشِّعريَّة العربيَّة!
رُؤى ثقافيّة
25
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
من المغالطات التنظيريَّة، التي ما تنفكّ تصكّ الآذان حول (قصيدة النثر)، ترديد التشكِّي من الأثقال التي لا تحتملها الكواهل الفرنسيَّة، أو المتفرنسة. تلك الأثقال المتعلِّقة بشروط القصيدة العربيَّة، في الوزن والقافية خاصة! فها هو ذا (الماغوط)- وقد سُئل عن مفهومه للشِّعر؟- يُجيب: «الشِّعر نوع من الحيوان البرِّي. الوزن والقافية والتفعيلة تدجِّنه، وأنا رفضتُ تدجين الشِّعر، تركته كما هو حُرًّا؛ ولذلك يخافه (البعض!)... ليس لديَّ «خُلق» لأبحث عن قافيةٍ وبيت، ووقتها [=لمَّا كتب قصيدة النثر] كنتُ مهمومًا في البحث عن بيتٍ أنام فيه بدلًا من تشرُّدي على الأرصفة. ربما كتبتُ قصيدتي من باب ضيق «الخُلق» لا أكثر!» ((2002)، اغتصاب كان وأخواتها: حوارات حرَّرها خليل صويلح، (؟ : دار البلد)، 25). ومع تقديرنا لتجربة الماغوط، فما يبدو أنه كان يعاني- في الواقع- من «ضيق خُلق وخَلق» معًا. وإلَّا فليست معاناته- التي كان يتغنَّى بها كثيرًا، ويجأر منها دائمًا، استدرارًا للعوطف، كما يعلِّل بها تجربته «ضيِّقة الخُلق»- بأشدّ من معاناة شاعرٍ كعبدالله البردُّوني، مثلًا، الشاعر اليمانيّ الكبير، إنْ من الناحية الفرديَّة أو الاجتماعيَّة أو الاقتصاديَّة! لكنه فارق الموهبة في تطويع اشتراطات الفنِّ لضرورات التعبير وتصوير المعاناة. ولو أَخَذَ المبدعون بالمنطق الماغوطيّ، ما كان فنٌّ من الفنون أبدًا. لأنها جميعها تستدعي أنسنة الحيوان البرِّي بما يوائم المجتمع الحضاريّ، وبما يُضيف إلى الرصيد الإنساني، في فنٍّ من الفنون، لا بما يدمِّره. إلَّا أن تلك الأنسنة، وتلك الإضافة، هما ما يَعُدُّه الماغوط «تدجينًا» للشِّعر.. ذلك «الحيوان البرِّي». ثم لو ساغ أن يكون الشِّعر نثرًا، إذن لانتفت الشكوى من ترجمة الشِّعر من لُغة إلى لُغة؛ الناتجة عن خصوصيَّات اللغات، وطرائقها في التعبير والإيحاء، وتفرُّداتها في فنِّيَّات بناء النصّ الشِّعري. ولذا فإن قصيدة الماغوط لا تبدو حاملة أي هويَّة شِعريَّة عربيَّة، سوى أن كلماتها باللغة العربيَّة. وإلَّا فإننا نقرأها وكأنها لأيِّ كاتب من أيِّ ثقافةٍ أو بلدٍ في العالم؛ فلا فرق بينها وبين نصٍّ شِعريّ تُرجم نثرًا إلى العربيّة من لغة أخرى! وإنما تَكمن إدهاشات قصيدة الماغوط النثريَّة في لقطاتها السورياليَّة، لا في لغتها، إنْ على مستوى المفردة أو التراكيب. وذلك كأن يقول مثلًا، من نَصِّه «حُزن في ضوء القمر»:
... وأنا أتسكّع تحت نورِ المصابيحِ
أنتقل كالعواهرِ من شارعٍ إلى شارع
أشتهي جريمةً واسعةً
وسفينةً تُقِلُّني بين نهديها المالحين،
إلى بلادٍ بعيدة،
حيث في كلِّ خطوةٍ حانةٌ وشجرةٌ خضراء،
وفتاةٌ خلاسيَّة،
تسهر وحيدةً مع نهدها العطشان!
ومرَّة أخرى، وبعيدًا عن «النهد المالح أو العطشان»، فإن مع الماغوط حقًّا في استصعاب الصياغة الشِّعريَّة، كما لغيره- من القائلين بمثل قوله- الحقّ في استصعابها. وتلك هي تحدِّيات القصيدة العربيَّة لمهاراتهم. وتلك الأثقال واقعة- لا ريب فيها- على كلِّ من كلَّف نفسه ما ليس في وسعها، ولم تُخلق له. وهي في كلِّ فنٍّ من الفنون، لا في الشِّعر وحده. لكن ذلك هو التحدِّي، الذي يميز الشاعر من الناثر. أمَّا الأفكار، والصور، وومضات الخواطر، فمطروحةٌ في الطريق، وربما التمع منها في رؤوس المجانين والسكارى والمهلوسين ما لا أوَّل له ولا آخر؛ فهل تصنع شِعرًا، بما تعنيه هذه الكلمة من معنى، أو تُغْني أدبًا أيَّ غَناء؟! والإبداع الحقيقيّ ليس في نبذ تلك الأثقال جُملةً عن كواهلنا للتخفُّف منها، ولكن في ابتكار طرائق جديدة للحمل والولادة. إن للحياة ضرائب، وفي الإبداع صعوبات، وللعطاء أثمانًا. والأُمّ التي تستثقل الحمل، وتشقّ عليها الولادة، لا يمكن أن يكون من الحكمة- للتغلُّب على ذلك كلِّه- إسقاط الجنين قبل أن يتخلَّق، وادِّعاء ذلك أسلوبًا جديدًا في الإنجاب. ليكن الحملُ حملَ أنابيب، لا بأس، ولكن شريطة أن يكون الإخصاب بمكوِّنات نوعيَّة صحيحة، وأن يكون التمخُّض في النهاية عن بشرٍ سويٍّ، لا عن فأرٍ، يُسمَّى قصيدة نثر، أو عن نسناس، لا صِلة له بالإنسان، إلَّا ببعض ملامح سطحيَّة باهتة، لا تُسعف حتى (تشارلس داروين) لاقتراح نظريَّة في «أصل الأنواع»!
كما أن من تلك المغالطات التنظيريَّة التي يتوارثها أحبتنا- الذين قد نُحبّ نصوصهم ونختلف معهم في صِنفها- قولهم: إن شكل القصيدة العربيَّة الجاهز قد امتطاه الموهوبون شِعريًّا وغير الموهوبين. وهذا صحيح، فكم من الغُثاء في القصيدة البيتيَّة والتفعيليَّة! وكم من النثر الفارغ «يُتَفْعَل» ويسوَّق على أنه شِعر! وكم من الجرائم تُرتكب باسم القافية! كل ذلك حقّ. لكن هذه الحُجَّة تظلّ مخاتَلةً جدليَّةً؛ من حيث إن هذا الذي يحتجُّون به لتبرير جريرتهم يَحدث عادةً في كلّ الفنون، فكم من الدُّخلاء في كلِّ فنّ. غير أن هذا هو الاختبار الحقيقيّ، لا للمبدع فحسب، ولكن للجمهور المتذوِّق وللنقد أيضًا. وتلك حالةٌ مشتركة بين كلِّ الأنواع الأدبيَّة والفنيَّة، بمختلف مدارسهما. بل إن قصيدة النثر نفسها، بما انسلخت منه من الشروط الفنِّيَّة، هي أكبر فتحٍ تاريخيٍّ للفوضى غير الخلَّاقة، ومن ثَمّ لامتطاء الموهوبين تعبيريًّا وغير الموهوبين. وثمَّة يقع محكّ التمييز بين الصحيح والزائف، ومحكّ الإبداع الصحيح، للخروج عن المألوف بحِرفيَّة، لا بمغادرة الساحة الفنِّيَّة، والتهرُّب من مواجهة تحدِّيات قوانينها وجماهيرها، وإنْ بدعوى «ضيق الخُلق»! بما أن إبداعًا خارج الذاكرة النوعيَّة، ليس إبداعًا نوعيًّا، بل هو خروج إلى نوعٍ آخر، وإبداعًا خارج ذاكرة التلقِّي العامَّة النسبيَّة هو تجديفٌ محكومٌ عليه فيها بالفشل.
هذا، وإن من الإنصاف القول إن صياغة القصيدة في نظام العَروض العربيّ هو المحكّ الذي يعرِّي شِعريّة الشاعر لدى الناقد البصير. في حين قد يُلبِّس الشاعرُ في شكلٍ آخر، كشِعر التفعيلة، حتى على الناقد البصير. ذلك أن بإمكان شاعر التفعيلة أن يظلّ يراوغ الناقد، إيقاعًا، وبناءً، ومعنًى، وشِعريَّة. أمّا في القصيدة البيتيَّة، فلا مجال للشاعر إلَّا إحدى اثنتين: الشِّعريَّة، أو النظميَّة. إن الشاعر هنا مكفيُّ القالب، وما عليه إلَّا بالشِّعريَّة الخالصة من كلِّ الدعاوَى والآثام الشكلانيَّة، والتهويمات، واللف والدوران، لغةً ومعنًى. أضف إلى هذا أن وراء الشاعر مع القصيدة العربيَّة قرابة ألفي عام من التراث الشِّعريّ والتجارب والشعراء؛ فإمَّا أن يكون على قدر التحدِّي، فيقدِّم إضافةً نسبيَّةً تلفت الأنظار- بل فوق ذلك يسعى إلى جديدٍ مختلفٍ يُحسب له- وإلَّا فإن شأنه سينكشف، ومستواه سيفتضح، وفي أهون الحالات سيقع في ضحالة مائه الشِّعري شَرَّ وقعة. ولهذا ترى كثيرًا ممَّن اكتسبوا شهرتهم في قصيدة التفعيلة يتهرَّبون من الاقتراب من قصيدة البيت؛ لا لأنهم بالضرورة لا يعرفون العَروض ولا يُحسنون النظم، ولكن لإدراكهم أن القصيدة العربيَّة فضَّاحة، وستكشف عوارهم، فإمَّا أن يكنوا شعراء منافسين بحقٍّ أو ساقطين بحقّ؛ إذ ينتكسون إلى النظميَّة والترهُّل والنثريَّة، التي اعتادوا على أن يزدردها القرّاء لهم في قصيدة التفعيلة. وكم من هؤلاء التفعيليِّين ممَّن راودتهم القصيدة العربيَّة عن أنفسهم يومًا، فلم يظفروا إلَّا بأناشيد، محض أناشيد، أشبه بالأناسيد المدرسيَّة! ومردُّ ذلك إلى أن البيت الشعريّ الواحد في القصيدة العربيَّة هو عن قصيدة كاملة، وليس كالجُملة الشِّعريَّة من قصيدة التفعيلة، التي قد تأتي واهنةَ الشِّعريَّة، فيَجْبُر ضعفها ما قبلها وما بعدها من جُملة النصّ. إن البيت الشِّعريّ العربي شحنةٌ شِعريَّةٌ، مكتملة البنية، فإنْ وَهَن، وَهْنًا بيِّنًا، سَقَط، وربما تداعت خلفه القصيدة كلَّها. وهنا، إذن، ميدان اختبار الشِّعريَّة العربيَّة الحقيقيَّة، لا في قصيدة التفعيلة، ناهيك- طبعًا- عن قصيدة النثر.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في الشِّعريَّة العربيَّة!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12146، الثلاثاء 2 أكتوبر 2012م، ص36].