تقديم لمجموعة أعمالي الشعرية
تقديم لمجموعة أعمالي الشعرية
أ.د/
جابر قميحةأبدأ باسم الله الواحد بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عَمَد، لا تدركه الأبصار، ولا تحويه الأفكار، ولا تحده الأقطار، وكل شيء عنده بمقدار.
وأصلي وأسلم على نور بصري وبصيرتي، محمد بن عبد الله، وآله أجمعين. وقد تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وبعد ......
فإن من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرتْ مسرى الأمثال قولهم "العرب أمة شاعرة" وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
وهناك روايات متعددة تبين عن موقف الرسول ص والإسلام من الشعر:
فيروى أن رسول الله r فتح صدره للشعر الإنسانى الراقي، واستمع إليه، وشجعه ودعا الشعراء إلى سلوك دربه. ومن هذه الروايات:
1- ما نسب إليه r من تمجيد هذا الشعر وتعظيمه، من ذلك قوله: إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة(
2- سماعه الشعر: فقد روى عمْرو بن الشريد عن أبيه قال "ردفْتُ رسول الله r يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شيء؟. قلت: نعم. قال: هيه. فقال: فأنشدته بيتا، فقال: هيه. ثم أنشدته بيتا، حتى أنشدته مائة بيت
3- إنشاده فى بعض المواقف أبياتا من الرجز والشعر، فيروى أنه عليه السلام: كان يمشى إذ أصابه حجر، فعثر، فدميت إصبعُه فقال:
هل أنتِ إلا إصبع دميتِ
|
= |
وفى سبيل الله ما لقيت(
|
4- تشجيعه عبد الله بن رواحة، ودعاؤه له، وكان يقول عنه للمسلمين "إن أخا لكم لا يقول الرفث" .
وأخرج الزبير بن بكار عن هشام عن عروة عن أبيه قال: ما سمعت بأحد أجرأ، ولا أسرع شعرا من عبد الله بن رواحة يوم يقول له رسول الله r: "قل شعرا تقتضيه الساعة، وأنا أنظر إليك"، فانبعث عبد الله بن رواحة يقول:
إنى تفرستُ فيك الخيرَ أعرفُهُ |
= |
والله يعلم ما إن خاننى بصرُ
|
أنت النبى، ومن يحُرم شفاعته
|
= |
يوم الحساب فقد أزرى به القدر
|
فثبت الله ما آتاك من حَسَنٍ
|
= |
كالمرسلين ونصرا كالذى نصروا
|
فقال رسول الله r: وأنت فثبتك الله(
4- تكليفه حسان بن ثابت أن يكون لسان الإسلام الناطق دفاعا عنه، وعن رسوله، وهجاء لكفار مكة: فيروى أنه r لما قدم المدينة تناولته قريش بالهجاء، فقال لعبد الله بن رواحة: ردّ عنى، فذهب فى قديمهم وأولهم، فلم يصنع فى الهجاء شيئا. فأمر كعب بن مالك، فذكر الحرب، كقوله:
نصلُ السيوفَ إذا قصُرْن بخطْونا
|
= |
قُدُما، ونُلحقها إذا لم تَلْحقِ
|
فلم يصنع فى الهجاء شيئا. فدعا حسان بن ثابت، فقال: اهجهم ، وجبريل معك. وفى رواية: اهجهم كأنك تنضحهم بالنبل ، أى ترميهم بالسهام. أى أمره أن يجرحهم جرحا لا يبلغ الطعن البعيد الفاحش، وهذا أكرم الأدب فى الهجاء .
ومما سبق نستخلص ما يأتي:
1- أن النبى r توخى الدقة في اختيار الشاعر المناسب، أي أنسب الشعراء وأقدرهم على القيام بالمهام الدعوية على وجهها الأفضل والأوفى، وكان هو حسان بن ثابت ، مع وجود شعراء آخرين يتمتعون بموهبة شعرية، وقدرات طيبة.
2- كما أحسن النبي r فى إرشاد حسان إلى "مصدر المادة العلمية والتاريخية" لاستخدامها فى هجاء قريش، وتمثل ذلك فى أبي بكر الصديق t. وقد كان أنسب العرب أي أعلمهم بأنسابهم وأخبارهم، وبخاصة قريش.
3- أن النبي r وجه "حسان" إلى المنهج الفني والموضوعي الذي يتبعه فى هجاء قريش دون غلو، أو إفحاش.
وعاش حسان بن ثابت جديرا بوصف شاعر النبى r، وشاعر الدعوة الإسلامية بعامة، فلم يتوقف شعره عند هجاء قريش أو الرد على أهاجيهم(، بل تعددت أغراضه الشعرية، فلا يكاد يكون هناك وقعة، أو حدث له علاقة بالنبي r والدعوة والمسلمين إلا ولحسان فيها شعر، وكان أكثر الشعراء نظما، وأطولهم نفسا، وأوفاهم فنا:
فرثى شهداء المسلمين فى الغزوات والسرايا المختلفة، وسجل بطولاتهم وانتصاراتهم، ونظم في التهكم على الكفار والشماتة بهم فى هزائمهم وانكساراتهم أمام المسلمين، ومن أبلغ مراثيه وأصدقها عاطفة القصائد الأربع التي رثى بها رسول الله r ومنها مطولته المشهورة التى بلغت ستة وأربعين بيتا . وغير حسان كان هناك شعراء من الصحابة، عالجوا الأغراض الشعرية التى عالجها، وإن لم يبلغوا شأوه فكرا وتفننا، وطول نفس، وقلة منهم يكثر نظمها، وأغلبهم لم ينقل عنه إلا القليل، بل القطعة والقطعتان، وذلك إذا استثنينا الرجز الذي كان ينطق به الكثيرون فى المعارك بخاصة.
ومن هؤلاء الشعراء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وعبيدة بن الحارث، وخوات بن جبير، وعبد الله بن الزبعرى –بعد إسلامه- وقيس بن المسحَّر اليعمري، وبجير بن زهير بن أبى سُلمى، وعباس بن مرداس بعد فتح مكة، وقلة من النقاد ومؤرخي الأدب من يعتبر علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وحمزة بن عبد المطلب من الشعراء.
وهؤلاء الشعراء – كما ألمحنا آنفا - عالجوا الأغراض الشعرية الدعوية فى السلم والحرب، وقد عالج بعضهم معانى أبكارا وعلى مدار التاريخ ظل الشعر معبرا عن نبض الأمة الإسلامية آمالا وآلاما، في الانتصارات والانكسارات، والدعوة إلى القيم العليا، واستنهاض الشعوب للجهاد والثبات، ولعل ما واكب –ويواكب- مأساة فلسطين معبرا عن المنهج الجهادي الذى ترفع لواءه منظمات الجهاد والمقاومة "كحماس" و "الجهاد" يعيد إلى أذهاننا توجهات الشعر وطوابعه فى صدر الإسلام، وكل أولئك يحتاج إلى مباحث طويلة مستقلة. ولكن المقام يقتضينا أن نتعرف على طبيعة الأديب المسلم، وخصوصا الشاعر، ونوعية العلائق التى تربطه بالدعوة التى يعايشها ويحمل أعباءها، مرتكزا على آلياته العقدية والفنية.
**********
وها أنذا أقدم أعمالي الشعرية مجموعة في مجلدات. وأمام هذا العمل الشاق الذي قام به مركز الإعلام العربي، وبين يدي هذه المجموعة الشعرية أقدم الملاحظات الآتية:
1 ـ تفاوت المستوى الشعري فكرا ووجدانا وتصويرا وأداء على مدى عمري الفني. ومن البدهي أن نقول: إن شعر البدايات لا يرقى إلى مستوى شعر سنوات النضج الفني.. وذلك اعتمادا على تطور المستوى الثقافي والاجتماعي للشاعر. والقول بأن شاعرا ما ذو مستوى واحد يستغرق عمره الشعري... هذا القول لا يزيد على كونه ادعاء، ولا يعبر عن واقع فعلي.
وقد أخطأ العقاد حينما منح ابن الرومي هذه الخصيصة التي ما أنزل الله بها من سلطان، فيقول بالحرف الواحد في كتابه عن ابن الرومي "... إن شعر ابن الرومي كله من طبقة واحدة، وذو مستوى فني واحد، يستوي في ذلك قصائده التي نظمها في العشرين من عمره، وقصائده التي نظمها في الستين، وذلك لأن ابن الرومي كان ينسج من غَزْل واحد، وبضاعة واحدة، وهي الشعور الجديد، أو شعور الطفولة الفنية التي لازمته في حياته من المبدأ إلى النهاية، فلم يتغير فيه إلا القليل بعدما درس نصيبه من اللغة والعلم، واستوفى مادته من الفن والصياغة، وكأنه الشجرة التي نضجت مبكرة، وبلغت تمامها، ورسخت في تربتها، فثمرتها اليوم كثمرتها بعد سنوات عشر، أو عشرين، وثلاثين" (العقاد ابن الرومي ص334).
فابن الرومي ـ كما يرى العقاد ـ أجاد في كل الأغراض بلا تفرقة وبلا تمييز، وابن الرومي لا تفاوت يذكر في شعره من الناحية الفنية، فيستوي في أعماله شعر الشباب، وشعر الشيخوخة.
وهو ادعاء متطرف لا يؤيده واقع الحياة الفنية لابن الرومي.
2 ـ جاء ترتيب قصائد هذه الدواوين على أساس المادة الشعرية، كديوان الزحف المدنس، وديوان لجهاد الأفغان أغني، وديوان لله والحق وفلسطين، وديوان حديث عصري لأبي أيوب الأنصاري. ما عدا ديوان (الإقلاع في البحور السبعة)، فكثير من قصائد هذا الديوان نظمته من عشرات السنين، وكان دفينا في يومياتي التي أكتبها بانتظام من نصف قرن، لذلك ظهر التفاوت الواضح بين قصائد هذا الديوان.
3 ـ جاء عنوان كل ديوان باسم القصيدة الرئيسة فيه، وهو نهج قد يختلف عن نهج كثير من المحدثين في عنونة الدواوين.
4 ـ غطت القصائد كثيرا من الأحداث الكبرى في الوطن العربي، كجهاد الجزائر وفلسطين والانقلاب المصري العسكري سنة 1952، ومحن الإخوان المسلمين، وأحداث غزة، وشخصيات هذه الأحداث.
ونستطيع أن نقول ـ بشيء من التجاوز ـ أن هذه الدواوين تصلح أن تكون "معجما تاريخيا"، صيغ بلغة الفن الشعري.
5 ـ والتقدير الكمي لهذه القصائد يصنفها في مستويات ثلاثة:
أـ فقليل منها لا يتجاوز عددا قليلا من المقطوعات أو السطور الشعرية.
ب ـ وعدد منها متوسط الطول.
جـ ـ ولكن أغلبها جاء مطولات ذات طابع ملحمي. ومنها يوميات شعرية، شغلت قرابة نصف ديوان "الزحف المدنس".
6 ـ ضمت الدواوين بين نوعي الشعر:
أ ـ الشعر الخليلي، الذي يطلق عليه الشعراء والنقاد "الشعر العمودي".
ب ـ شعر التفعيلة. الذي اشتهر باسم "الشعر الحر".
وفي هذا السياق قد يكون من النافع تصويب خطأين مشهورين:
الأول: إطلاق مصطلح الشعر العمودي على "الشعر الخليلي"
مع عناصر عمود الشعر، كما استقرت عند المرزوقي، صدرت عن طريقة العرب في قول الشعر وكشفت عنها، ذلك أن المنهج النقدي عند المرزوقي حاول أن يتبين العناصر الناضجة، التي ينبغي الإبقاء عليها، للحفاظ على الشعرية العربية، لكنه كان واقعاً في أسر التقليد، إذ عد طريقة الشعراء العرب في عصور العربية التي سبقته ناظراً إلى العصر الجاهلي بوصفه المرتكز الأساس لفهم طريقة العرب في القول الشعري، أي أنه جاء بمعايير أو قواعد سابقة لأنه استقاها من جودة نص سابق، واحتكم إليها في بيان جودة كل الشعر اللاحق.
وقد نص على عمود الشعر بقوله: أن العرب في قولهم الشعر إنما "كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف- ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأبيات وشوارد الأمثال- والمقاربة في التشبيه والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار لـه، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما- فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها معيار.
أما الخطأ الثاني فهو: الاعتقاد بأن الشعر الحر أو شعر التفعيلة خال من الوزن والقافية. مع أنه كلام موزون، وقد يختلف الوزن من سطور إلى أخرى، كما أنه لا يخلو تماما من القوافي.
**********
وكثيرون يخلطون بين شعر التفعيلة وبين ما يسمونه "قصيدة النثر" التي لا يمكن أن تدخل أبدا في نطاق الشعر.
ولست أنا فحسب الذي ينكر ما يسمى بقصيدة النثر، بل هي التي تنكر نفسها؛ لأنها تحمل التناقضية العاتية ابتداء من اسمها (قصيدة النثر)، فالقصيدة كما هو معروف في الأدب العربي، وكل آداب العالم يجب أن تكون شعرًا له جرسه وموسيقاه، والنثر.. نثر بلا وزن وبلا قافية . فكيف يكون لهذا النثر قصيدة؟.. هل يصح شكلاً وعقلاً أن تقول (ظلام النور) أو تقول (ذكاء الغبي) أو تقول (إيمان الكافر) ؟ وهذه البدعة التي تولى كبرها أمثال أدونيس وكمال أبي ديب وخالدة سعيد تعد تدميرًا لقيمنا الشعرية وتراثنا الفكري ، وتحللاً من اللغة والقيم. ومن عجب أن نرى بعضهم يستعين فيما يسمى بقصيدة النثر بالأرقام والمصطلحات والأشكال الهندسية، مما جعلها لغزًا لا يفهمه لا المتلقي فحسب، بل المبدعون أيضًا، فإذا قلت "أنا لا أفهم" وجدت الجواب جاهزًا ممن قدم هذا المسخ: "من قال لك إن الفهم أو الإفهام هو غاية الشعر ؟ " . ويجرونك إلى متاهات من الجدل يترفع العاقل عن الخوض فيها والهبوط إليها.
ومن نماذج ما يسمى بقصيدة النثر الكلام الآتي الذي كتبه آدونيس بعنوان "قصيدة تكوين"، ومنها السطور الآتية:
..................
اخرج إلى الأرض أيها الطفل
خرج
هبط من الحرف
ا ح د = د ح ا ← الأرض
دائما يصنع طريق لا تقود إلى مكان
ا ن ا
منفية بقوة الحضور
كالهواء
وهي هي
كل شيء يتغير ويتبقى
ا ن ا = ا ن ا
....................
وواضح أن مثل هذا الكلام المثقل بهذه الرموز وهذه الحروف من الصعب أن يصدق عليه اسم "الشعر": لا في معناه، ولا في موسيقاه، ولا في قوالبه اللفظية الغريبة.
وآدونيس نفسه ــ كاتب هذا الكلام ــ لا ينكر نثرية هذه الكلمات، ولكنه يدعي أنه يختلف عما يسميه "قصيدة النثر". وله دفاع مشهور عما يسمى بقصيدة النثر (انظر ص 316 من كتابه فاتحة لنهايات القرن).
**********
هذا بالنسبة للقصائد الشعرية. وأنتقل في السطور التالية للحديث عن المسرح والمسرحيات: وغرامي بالمسرح بدأ في الأربعينيات من القلرن الماضي إذ غرس هذا الحب في نفسي الأستاذ عباس عاشور أستاذ اللغة العربية بمدرسة المنزلة الابتدائية . وكانت المراحل التعليمية آنذاك 13 سنة : فالمرحلة الابتدائية تستغرق 4 سنوات . بعدها المرحلة الثانوية 5 سنوات نحصل بعدها على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، واسمها التوجيهية . وبعدها المرحلة الجامعية من 4 سنوات في أغلب الكليات.
وعشقنا الفن المسرحي على يد أستاذنا عباس عاشور، الذي كان يقوم بالتأليف وبالإخراج. وأذكر أننا ونحن في الصف الثالث الابتدائي مثلنا مسرحية طويلة اسمها "الصياد المحسود"، واشتهرت في إقليم المنزلة كلها ، وأصبحت القرى في حفلاتها تستدعي فريق التمثيل لتقديم هذه المسرحية.
ولازمني عشقي للمسرح وأنا في المرحلة الثانوية، فمثلنا على مسرح مدرسة أحمد ماهر الثانوية بالمطرية دقهلية مسرحية طويلة عن غزوة بدر، ولازمني هذا العشق في كل فترات حياتي، ولا أنسى أن مسرحيتي "السيف والأدب" التي كتبتها وأخرجتها لطلابي في جامعة الملك فهد بالمملكة العربية السعودية هذه المسرحية فازت بالجائزة الأولى للمسرح السعودي في المهرجان الذي أقيم في أبها مساء11 من جمادى الآخرة 1422.
"وكل المسرحيات التي نظمتها جاءت شعرا "أو صيغت شعرا" ما عدا مسرحية واحدة وهي "السيف والأدب" . وأغلبها من عدة فصول ما عدا تمثيلية "موت منكوس المهرج" .
وجاءت مسرحية "الرؤيا الأخيرة ليوسف الصديق" أطول هذه المسرحيات على الإطلاق إذ قاربت 150 صفحة.
وكل هذه المسرحيات تتمتع بالإسقاطات السياسية، مع اختلاف هذه الإسقاطات في الدرجة لا في النوع، وإن جاءت مسرحية محكمة الهزل العليا أقرب إلى التصريح المباشر، فهي تحكي ظلم الحاكم ومحاكمة صفوة قادة الإخوان وشنقهم.
**********
وكل هذه الأعمال الشعرية يسري في أعطافها الإيمان الصادق برسالية الأديب المسلم . فالأديب المسلم "أديب رسالي"؛ لأنه في إبداعه ينطلق من التصور الإسلامي في التعامل الفني مع الحياة، والكون، والإنسان. وهو تصور سويّ نزيه لا مكان فيه للنقص، ولا الشذوذ، ولا الهوى، وهو بذلك يتفق مع الفطرة الإنسانية بلا عوج، ولا تخبط.
وانطلاق الأديب المسلم من هذا "التصور الإسلامي" في إبداعاته يعني أنه "أديب ملتزم" والتزام الأديب المسلم هنا يختلف عن الالتزام المادي الذي تراه في الأدبين الشيوعي، والوجودي، وما دار في فلكهما، وأدق توصيف له هو أنه "إلزام" لا التزام.
إن التزام الأديب المسلم ـ كما يقول الدكتور محمد مصطفى هدارة ـ رحمه الله ـ يعد جزءًا لا يتجزأ من عملية الإلهام الفني، وليس خاضعًا لعنصر الاختراع الواعي المتعمد.. إنه جزء من نسيج التجربة التي هي لب الأدب، وكأن الالتزام في الأدب الإسلامي يعني تجارب حية في وجدان الأديب المسلم، وفكره اللذين تشربا التعاليم الإسلامية، بحيث صارت هذه التعاليم وحدها قرارًا طبيعيًا لتجاربه التي تتسع لكل معاني الوجود والحياة".
فالتزام الأديب المسلم إذن إنما هو استجابة لفطرته السوية من ناحية، وتشربه القيم الإسلامية عقيدة، وديانة، وعلمًا، وثقافة من ناحية أخرى، حتى أصبحت "ميزان" الأشياء في كل شئون حياته، وأصبح الالتزام ـ شكلاً وموضوعًا ـ هو الطابع الأساسي ـ بل الوحيد ـ في مسلكه الخلقي والفني، وما عداه يعد نشوزًا وخروجًا على الأصل النبيل الكريم.
**********
وحتى يكون منبع الالتزام غنيًا ثرارا دائمًا كان على الاديب المسلم ـ كما يرى محمد المجذوب في كتابه أدب ونقد – أن يكون موصولادائما بالقرآن الكريم ـ وسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم - ثم عليه الاتصال بالمؤلفات الموثوقة في نطاق الثقافة الإسلامية المبنية على هذا الأصل.. كي يظل في مسيرته على الطريق الصحيح المستقيم، فلا يزيغ بصره عنها، ولا يطغى".
ويضاف إلى ذلك طبعًا ضرورة انفتاح الأديب المسلم على المعارف الإنسانية، وأن يتزود بألوان متعددة من الثقافات الأدبية، والاجتماعية، والنفسية، وكل جديد في ميدان العلم.
**********
وقد يذهب بعضهم إلى أن الأديب المسلم ـ بهذا الالتزام ـ يتنازل عن قطع كثيرة من حريته، ويحصر نفسه في نطاق ضيق من الموضوعات.
ولكن الحرية بمفهومها الإنساني السوي لا يقف أمامها الإسلام، فهو الدين الذي حرر الإنسان من استعباد الآخرين، ومن عبودية الدنايا، والغايات الخسيسة، والتعبد لغير الله. ومنطق العقل والواقع يقرران أنه لا حرية بلا "ضوابط"، وإلا تحولت من حرية بانية إلى فوضوية مدمرة.
والالتزام بالمفهوم الإسلامي لا يضيّق الحدود الموضوعة أمام الأديب، بل على العكس، يجعل كل ما قد خلق الله من مشهود ومغيَّيب في الأرض والسماء، وعالم الإنسان، والحيوان، والروح والطبيعة.. إلخ كلها موضوعات معروضة للأديب المسلم بلا حرج، ولا تحديد، ما دام يعالج موضوعاته من خلال "تصور إسلامي" شريف والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى، والقرآن الكريم عرض للجنس في سورة يوسف، وللشذوذ في قصة لوط، وقومه، وللنوازع والغرائز والعواطف الإنسانية ـ في صورتيها: السامية والهابطة، مبرزًا ما يعكسه كل أولئك من دروس وتوجهيات وعبر، في سور متعددة.
**********
ولا كذلك ما يراه من تضييق فائق، و"إلزام" قهري في آداب أخرى. نكتفي منها بالأدب الشيوعي، فنقرأ للينين" مقالاً كتبه سنة 1905م بعنوان "تنظيم الحزب وأدبه" وفيه يرفض أي نشاط أدبي، أو فني لا يكون في خدمة الحزب الشيوعي، وفيه يقول "لنتخلص من رجالات الأدب غير الحزبيين، لنتخلص من هواة الأدب المثاليين، على قضية الأدب أن تصبح جزءًا من القضية العامة للبروليتاريا، وجهازا صغيرًا من الآلة الاشتراكية الديمقراطية الموحدة، والكبيرة التي تحركها الطليعة الواعية للطبقة العاملة كلها، على النشاط الأدبي أن يصبح عنصرًا مؤلفًا لعمل حزبي اشتراكي ديمقراطي منظم".
ولعلنا نتذكر مأساة الكاتب الشيوعي "بوريس باسترناك" كاتب رواية "دكتور زيفاجو" التي كان فيها صادقًا مع نفسه، ومع الواقع الإنساني، وفاز بجائزة نوبل، فحوكم وجاء ختام قرار اتحاد الكتاب السوفييت، الصادر في 28 / 10/ 1958م يتهمه بالتدهور السياسي والأخلاقي، وخيانة الشعب والاشتراكية والسلام؛ لذلك أجمعت كل مجالس اتحادات الكتاب السوفيتية ولجانها التنظيمية في كل القطاعات على "فصله من اتحاد الكتاب السوفييت، وعدم اعتباره كاتبًا سوفييتيًا".
وهذا الالتزام السوي هو "الرسالية الإنسانية " التي أخذت نفسي بها ــ لا في أعمالي الشعرية فحسب ــ بل في كل أعمالي الأدبية والفكرية ، وسلوكي العملي ، انطلاقا من ديننا الخالد ، وقرآننا العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .