العقل في مقابل السلام!
رُؤى ثقافيّة
15
العقل في مقابل السلام!
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
أشرنا في المقال السابق إلى بعض القنوات الفضائيَّة التي تبدو مخلصةً في محاولة الإصلاح الثقافيَّ، وذكرنا أنها ما زالت دون المستوى المأمول. ومنها القنوات ذات الصبغة الدينيَّة. هذا إنْ لم تُغَذِّ تلك القنوات من السلبيَّات أكثر ممَّا تُصلح. وعلى رأس معوِّقات تلك القنوات وسلبيَّاتها ما يأتي:
1) أنها منحصرة في مخاطبة العرب والمسلمين، وقلَّما تخاطب الآخرين بلغاتهم.
2) يرسِّخ كثيرٌ منها النزوع الطائفيّ والمذهبيّ، سواء بطبيعة الخطاب المبثوث أو من خلال المواد المطروحة. وهو ما قد يستتبع ألوانًا من العنف اللغوي، الظاهر أو المبطَّن، ضدّ المخالفين. ومن الحق القول إن العنف الدِّيني يبدو قَدَر الأديان. على أنه لا ينبع عن كُره الآخَر، كما يُبسَّط الأمر عادةً في الخطاب اللَّاديني، أو مِن أَتباع دِينٍ في نظرتهم لأتباع آخَر، وإنما ينبع عن اعتقادٍ في امتلاك الحقِّ المطلق، وعن غيرة على الدِّين المرتبط بربّ الكون، بشموليَّة سلطانه. ومن ثَمَّ يعتقد كلُّ طرفٍ أن من حقِّه التغيير، والتكفير، بلا حدود، وأَطْر العالم على اتِّباع مِلَّته. وهذا هو الفارق المؤثِّر بين أتباع الدِّيانات الإبراهيميَّة، وأتباع الدِّينات الأخرى. فعابد صنمٍ لن يكترث لعابد صنمٍ آخر، وما قد يقول أو يفعل. وليست المسألة هنا، إذن، عن نزعة «سلامٍ» لدى هؤلاء، في مقابل نزوعات «عداء» لدى أولئك. ولا عن حُبٍّ للخير والإنسانيَّة هنا، ومَيلٍ إلى ضدِّ ذلك هنالك. بل ما من ممارسٍ للعُنف الدِّينيّ إلَّا وهو يعتقد أنه يسعى للخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويطلب العدل، والصلاح للبشريَّة. ويُعَدُّ فَهْمُ هذه المنطلقات أساسيًّا في أيِّ حوارٍ مثمرٍ بين أتباع الأديان والمذاهب، ومفتاحًا رئيسًا لتقريب وجهات النظر فيما بينهم. أمَّا تجريم الآخَر، أو شيطنته، واعتقاد سُوء الطَّوايا فيه، ولا أخلاقيَّة الحوافز لديه، فلا يزيد الطِّين إلَّا بِلّة.
ويجب الاعتراف هنا أن ليس التيَّار المتديِّن بِدعًا في هذه الثقافة، لكنه الأقوى تأثيرًا، لارتباطه بعقيدة الناس وعواطفهم، ومن ثَمَّ تأتي خطورته الكبرى الماثلة في إمكانية توظيفه لتفجير المجتمعات. وإلَّا فالتيَّارات الأخرى- ومنها التيارات المضادّة، كالتيار الذي يسمِّي نفسه بـ«الليبرالي»- تنحو كثيرًا إلى خطابات «دوغمائيَّة»، أيديولوجيَّة متشدِّدة، وتُمارس آليَّات الخطاب الدِّيني المتشدِّد ذاتها، وإنْ بصور مموَّهة قد تبدو مختلفة، فتأتي أكثر أطروحاتها ذات صبغةٍ دينيَّةٍ خاصَّةٍ، تُسفِّه، وتُكفِّر، وتُدني، وتُقصي، ولديها هي الأخرى جَنَّتها ونارها وحُورها العِين! وتلك ثقافةٌ عامَّةٌ، ومتجذِّرة، ما لم تعالج بشموليَّةٍ، فلن تُغني فيها الشعارات، أو الطِّلاءات، محليَّةً أو مستوردة.
3) تُقدِّم معظم تلك القنوات صورةً رثَّة عن الإسلام، لا تجذب المسلمين أنفسهم، فضلًا عن غير المسلمين.
4) كثيرًا ما تَعرض تلك القنوات الإسلامَ في تقاليد شكلانيَّة، تهتمُّ بالمظهر، أكثر من اهتمامها بالقِيَم الروحيَّة السامية، وتركِّز على الهيئة الخارجيَّة للمتديِّن أَشَدّ من العناية بإشراقه الداخليِّ، المنعكس على سلوكه الإنسانيِّ، وتعامله الحضاري. وهي بذلك تُرسِّخ أنماط التديُّن المظهريّ، المغيِّب للعقل، وإنسانيَّة الإنسان، المرتاب في الفكر ومنطق العلم، غير الحافل كثيرًا بالسلوك الأخلاقي، والقِيَم النبيلة، وأدبيَّات التعامل الحضاري. بل ربما أظهرت الالتزام الدِّينيّ بخلاف ذلك، حافزًا على الغِلْظَة، والعُنف، والكِبْر، وازدراء المخالف، وتزهيد الناس في العلوم الطبيعيَّة، وإعمال العقل، والسعي في مناكبها بجدٍّ وصدقٍ وإخلاص.
5) يحتفي قطاعٌ واسع من تلك القنوات بالعقليَّة الخُرافيَّة، من خلال اجتزاءات نصوصيَّة، وتأويلات اجتهاديَّة، ومبالغات شعبيَّة، وتهويلات خياليَّة، مستندة إلى بعض المرويَّات والمقولات المتوارثة. مرسِّخةً بذلك ثقافة الخوف والهلع والتوهُّم، بإسرافها في تصوير عالم الجانِّ، وتدخُّلاته الفضوليَّة في حياة الإنس، وكذلك الحديث عن السِّحر وفتكه بالناس، ونِسْبَة أشياء شتَّى إلى العَيْن، ومن ثَمَّ اللجوء إلى ما يُسمَّى بالرُّقَى والراقين.. إلى ما هنالك من تلك الجدليَّات، التي تَطغَى على ما هو أَولَى من القضايا الاجتماعيَّة، وما هو أهمّ من الهموم الإنسانيَّة. بل إنها لتُقدَّم على ما هو أدعَى مِن بَثِّ الطمأنينة المطلقة التي يغرسها القرآن في نفس المسلم، ثقةً بالله وتوكُّلًا عليه، في مثل الآيات: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا»؛ «إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا»؛ «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، ونحوها من الآيات الكثيرة، التي كأنما يُناقض ذلك الخطابُ الدِّينيّ القَلِق، عبر بعض قنواته، تأكيداتِها القاطعة قُوَّةَ الإنسان وحصانتَه؛ إذ لم يعد هنالك- بحسب ذلك الخطاب الإعلاميّ- عاصم من أمواج الجِنِّ والشياطين. كما أصبح الفساد الاجتماعي والأخلاقي يرتكبه الإنس، بسبق إصرار وترصُّد، تحت حُجَج الجِنّ وعوامل السِّحر، وصارت الجرائم الفظيعة، من سطوٍ وقتلٍ، تُقترف، ثم- وبكلّ صفاقة- تُنسب إلى عالم الجنّ الأبرياء! أ وليست المؤسَّسة الدِّينيَّة تؤكِّد، ليلَ نهارَ، أن عالم الجِنِّ والشياطين قد أعلنها حربًا شعواء على منطقة الشرق الأوسط، وعلى المسلمين خاصَّة؟! إذن، هم سبب كلّ انحطاطنا الأخلاقي، ولا حول لنا ولا قُوَّة. بل ربما كان من الخير لنا عقد الصفقات معهم، لنأمن شرَّهم؛ فما لا يتمّ الواجب إلَّا به فهو واجب! ولذا بات من الضروري تدشين مؤتمرات الحوار مع سادتهم وكبرائهم، من أجل إبرام المعاهدات والاتفاقيَّات الدوليَّة بين العالم العربي والعالم الجِنِّي؛ إذ لا يفلّ السِّحر إلّا السِّحر، ولا يفلّ الجِنّ إلَّا الجِنّ! وإذا كانت الحرب خدعة، فلا بُدَّ- في الموازاة وعند العجز- أن نرضَى بالعقل في مقابل السلام!
واستطرادًا، فإن هذا كلَّه يأتي في عالمنا العربي في إطارٍ عامٍّ من ظاهرة التنصُّل من مسؤوليَّة الفساد، ومن إصلاح الفساد؛ لأن في الأمرين مشقَّة. والجِنّ ليسوا سِوَى إحدى الأدوات في ذلك الإطار. فَلَكَم سمعنا، مثلًا، من يستشهد عند كل مصيبةٍ، أو محنةٍ، بالآية الكريمة: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»، الدالة بجلاء على أن الفساد كَسْبٌ بشريٌّ، وأن إصلاحه في أيدي الناس؛ لأن الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، فإنْ لم يفعلوا، أذاقهم الله بَعْضَ الذي عملوا لعلَّهم يَرجعون إلى صوابهم فيُصلحوا شأنهم؛ فهم المسؤولون أولًا وأخيرًا؛ فإذا أنت بمن يأتي ليصرخ في وجهك، متأوِّلًا الآية، مُشدِّدًا على أن المصائب التي نعاني منها إنما هي بسبب ذنوب المواطنين وتقصيرهم في التلاوات والصلوات وسائر العبادات، ولو فَعَلوا أكثر ممَّا يفعلون، لاستقامت الشوارع، وصَلُح أمر القضاء، وشؤون التعليم، وتَصرَّفت المياه لوحدها دون تصريف، وبالجملة لصار كُلِّ أمرٍ في نصابه، تمامًا كما هي الحال في الدُّول المتقدِّمة من بلاد الكُفَّار، بل أفضل؛ لأننا عند الله أفضل! فعلى سبيل المثال، لا الحصر، إنْ حصلت كارثة في مدينةٍ ما، لا سمح الله؛ فلأن الله سبحانه إنما أراد إصابة أهل تلك المدينة بتلك الجائحة؛ لقِلَّة أدبهم، ولفظاعة الآثام والذنوب التي اقترفوها، والتقصيرات التي حاقت بهم، فاستوجبوا عليها جميعًا الغرق، كما استوجب قوم نوح! مع أن المصابين، عادة، هم أفقر الخلق، وربما من أتقَى الخلق. وبذا يُسهم هذا الفساد في لَيِّ أعناق النصوص- وعلى هذا النحو الدارج- لا في الإساءة إلى النصِّ، ولا في إساءة الظن بالله سبحانه، بترسيخ صورةٍ لا تليق أصلًا بصورته تعالى، الرؤوف الرحيم العادل، ليس ذلك فحسب، بل يُسهم أيضًا في تقديم التبريرات للفساد الاقتصاديّ أو الإداريّ في المجتمع، باسم الدِّين، وذلك بإلقاء التَّبِعَة على مسؤولٍ ما، مجهولٍ، أو غيبيٍ، لا تمكن مساءلته، عفريتٍ من الجانِّ تارةً، كما رأينا في الحالة الأولى، أو التذرع بإِثْمٍ عظيمٍ، يجب البحث عنه، أو تقصيرٍ مشينٍ في العبادات، أراد الله الانتقام بسببه من المنكوبين، فأنزل عليهم سخطه الماحق! ولا رادّ لأمر الله، وإرادته، وقضائه، وقَدَره، ولا اعتراض! فليسكت الناطقون، وليسلِّموا تسليمًا! أمّا أنْ يُعترف بأن الأمر بسبب سرقةٍ ما، أو لسوء تدبير، أو لغباءٍ فرديٍّ أو مؤسَّساتيٍّ، فلا؛ لأن الاعتراف هنا صعبٌ، وتبعاته أصعب؛ ولذلك سيظلّ الإنسان، الذي يعيش في واقعٍ فاسدِ الفكر كهذا، يذوق من صاب تلك الكأس، مِرارًا وتكرارًا، حتى يرجع، فيُعالج واقعه بواقعيَّة وبعقلانيَّة، بدلًا من الضحك على الذات والتدجيل على الآخرين.