قراءة في معجم الشعر الموريتاني الحديث

وليد سيف – كاتب مصري

لغة الشعر لغة ذات دلالات رامزة، تجعل من الشعر فناً مختلفاً عن غيره، كما أن الكلمة الشعرية وسيلة استنباط واكتشاف، وهي تيار تحولات يغمرنا بإيحاءاته وإيقاعه، وقد عرف الشعر الموريتاني نضجه منذ أواسط القرن الحادي عشر الهجري مما يؤكد وجود بدايات أو مراحل تكوين سابقة، وشكلت نزعة البيئة الجاهلية ملمحاً مهماً من ملامحه، ويرجع ذلك إلى خلفية الشاعر الموريتاني اللغوية التراثية، كما أن البيئة لها دورها في تنمية هذا الملمح البيئي الجاهلي في الشعر، فتشابه البيئة الموريتانية مع بيئة الشعر الجاهلي من حيث طابع البداوة والترحل والخصائص الاجتماعية التي هي أقرب ما تكون إلى العادات العربية الصميمة من نبل الأخلاق والشهامة والكرم وروح القبيلة، كل ذلك كان له أثره على ألفاظ الشعر الموريتاني.  

قسم النقاد الشعر الموريتاني إجرائياً إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل الاستقلال، ومرحلة ما بعد الاستقلال.

مرحلة ما قبل الاستقلال: وهي تمثل التراث الشعري لموريتانيا، ويمكن تصنيف أساليب الشعراء في هذه المرحلة إلى نموذجين: أسلوب يقوم على المعجم البيئي الجاهلي والتشبيه الحسي مع عدم الالتزام بموضوع واحد في النص الشعري، حيث تتداعى الأفكار تداعياً حراً، ويتجول الشاعر بين الأطلال والظعائن والصحراء والناقة والقبيلة.

وأسلوب آخر يقوم على المعجم العلمي الحديث مع وحدة موضوعية، حيث تتشكل القصيدة من مقدمة وعرض رئيس، ويستخدم هذا الأسلوب في الغالب في المدائح والقصائد الجدالية.

مرحلة ما بعد الاستقلال: أدى قيام الدولة الحديثة والانفتاح على العالم الخارجي إلى تأثر الشعراء بالقاموس المهجري ممثلاً في جبران خليل جبران، كما حاول الشعراء التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية متأثرين بالشعارات القومية والإسلامية واليسارية، غير أن المعجم الشعري ظل كلاسيكياً إلى حد كبير.

وقد مهد لظهور الشعر الجديد في موريتانيا قصائد تحتذي أشعار المهجريين وتقوم على الشكل الموشحي، كقصيدة "فانتوم" للخليل النحوي، كما ظهر ميل إلى البحور المجزوءة والقصيرة، كقصيدة "رسالة العجوز" لأحمد بن عبد القادر.

ومنذ السبعينيات من القرن الميلادي الماضي بدأت تظهر نصوص شعرية تحاول كسر حاجز العمود الشعري والبناء الخليلي الموسيقي وتجنح إلى الشعر الحر، ولكنها كانت مع ذلك أكثر مباشرة من الشعر العمودي نفسه، وفي الثمانينيات والتسعينيات ظهرت نزعات شعرية رمزية أسطورية في القصيدة الحرة – أو الجديدة- محاكاة لشعراء المشرق مثل: السياب ونازك الملائكة وغيرهما.

وفي هذه القراءة للمعجم الشعري الموريتاني الحديث نحاول الوقوف عند بعض الألفاظ التي كونت القصيدة الموريتانية الحديثة، فقد ظلت هذه القصيدة متأثرة بألفاظ القرآن الكريم واستدعت كثيراً من ألفاظه، بالإضافة إلى ألفاظ الشعر الجاهلي، وتقلبت القصائد في الأجواء الرومانسية فمجدت الطبيعة والغاب، واستبشرت بالفجر الجديد، وتضامنت مع القضايا الإنسانية، ووظفت ألفاظ الطبيعة في التعبير عن الذاتية الثقافية الموريتانية، واستدعى الشعراء الرموز التاريخية والأسطورية، وركزوا على الواقع السياسي والاجتماعي للبلد وانتقدوه وأنذروه، وسجلت القصيدة مختلف الآراء التي عرفتها الساحة السياسية والاجتماعية من ثورة على السلطة وتنديد بأساليب القمع والقهر والظلم.

الاقتباس

من الظواهر التي تستوقف القارئ للشعر الموريتاني الحديث استمداد بعض القصائد لكثير من ألفاظ القرآن الكريم، ومن تلك القصائد قصائد الشاعر ناجي محمد الإمام، حيث يقول في قصيدة بعنوان "مقاطع من أغنية لسنابك خيل شامت مرابطها":

غطش الليل إذا يغشى

ويركب موكبه الصافنات الجياد

ولوح تناغم فيه البيان

لمن عشق "النجم" أو "طارقا"

ويقول في قصيدة بعنوان "أبو الفلاشا":

وأذن في العير...أنكم

سارقون..

وأنكم أيها التائهون النيام..

تتيهون في الأرض عشرا..

وقوله في قصيدة السنبلة شابت:

فبسط ذراعيه بالوصيد..

وقوله في قصيدة قدم الملح:

إن الناس غاصوا في السراب

منهم، إليهم قادم

ودعوتهم ليلاً نهارا

واستكبروا..

ويستمد محمد بن عبدي ألفاظاً من القرآن الكريم بصورة ملفتة للنظر، كما أنه يوجد ارتباط واضح بين تراكيبه وبين الأسلوب القرآني، ومن ذلك قوله في قصيدة "السنبلة":

لا أقسم اليوم بالبلد

خمس سنابل

لعلك تأنس نارا

إن آيات شعري

وقوله في قصيدة الأرض السائبة:

فأرى سنابل باسقات الطلع تأكلها عجاف

ألهاكم الزور

من كل زوج واحد

ومن الاقتباس القرآني أيضاً قول الشاعر إبراهيم بن عبد الله في قصيدة بعنوان "التيه والبحر والذاكرة":

وعجل له جسد لم يمت

كذا السامري...

وقوله في قصيدة أخرى بعنوان "مصرع أوديبيس" :"أسرع أواري سوأة قومي"

الاقتباس من الشعر الجاهلي:

على الرغم من تخلي القصيدة الموريتانية الحديثة عن البناء الخليلي، إلا أنها مازالت أسيرة المعجم الجاهلي، ومن شواهد الاقتباس من الشعر الجاهلي اقتباس الشاعر ناجي محمد الإمام من معلقة امرئ القيس، حيث يقول في قصيدة بعنوان: "هم الأهل":

قفا نبك ..

.. حندج ..

... سقط اللوى ..

... ذا القروح ...

... عنيزة... والهودج، الخدر في وقيعته

ومن ذلك أيضاً قول الشاعر إبراهيم بن عبد الله في قصيدة بعنوان التيه والبحر والذاكرة:

وليل كموج...

وقوله أيضاً في نفس القصيدة "وضخم الدسيعة كالسنديان" متأثراً بقول الخنساء في رثاء أخيها:

ضخم الدسيعة مفتول عوارضه

وإن صخراً إذا نشتو لنحار

توظيف عناصر البيئة

يظهر لنا في القصيدة الموريتانية الحديثة استقاء الشاعر ألفاظاً من معجم الطبيعة، نوع في توظيفها للدلالة على معان مختلفة، فبعض القصائد تبرز الوجه الكالح للطبيعة تعبيراً عن الكفاح وتضحية الشعوب، والبعض الآخر يستخدم عناصر الطبيعة للتعبير عن الفرحة والابتهاج, وهناك من عبر بعناصر الطبيعة عن بيئته الخاصة التي يعتز بها.

وفي قصيدة "المجد للإنسان" للشاعر أحمد عبد القادر تم توظيف عناصر الطبيعة للتعبير عن كفاح الشعوب، كما استخدم الفجر والصباح تعبيراً عن الحرية وانتصار كفاح الشعوب ضد المستعمر، حيث يقول:

من بين أضرحة الجبال السود

يمضغها اللهيب

من أضلع الغابات يحرقها اللظى

حرقاً وينفثها هباء أسودا

ومن السهول الخضر تسلخ أرضها

نار الحروب

تشوي سنابلها القنابل والمدافع

طلعت على الدنيا من الشرق البعيد

شمس الصباح وغرة اليوم الجديد

وهاجة الأنوار تعبث بالجليد

وتذيب أنياب الحديد

وتحرك الآمال في أمم العبيد

طلعت من الفيتنام

رمز بطولة المستضعفين...

ومن ذلك أيضاً قول الشاعر محمد بن إشدو في قصيدته "لمن المستقبل":

رفيقتي لا تجزعي وتفاءلي وتشجعي

لا تخضعي تحت العذاب وحاذري أن تخدعي

قومي وغني للصباح خلف العواصف والرياح

قومي فأنت جناحنا، أيطير مقصوص الجناح؟

وقد يستخدم الشاعر ألفاظ الطبيعة (تصدح – الأكوان - الأطيار - الأغصان - الأطياف الأدغال - والوديان) للتعبير عن الفرحة والجمال كما في قصيدة "أنشودة الوفاء" للشاعر محمد الحافظ بن أحمد، حيث يقول:

تموز يا أغنية عجيبة

عظيمة قوية جميلة

تزوبعت في عالم الأنغام والألحان

تصدح في الأكوان

تعربد الأطيار في

أصدائها

عبر الصحارى النائيات

وتنتشي الأغصان والأطياف في

مجاهل الأدغال والوديان...

وقد استخدم الشاعر الموريتاني عناصر الطبيعة للتعريف بنفسه، وتحديد معالم شخصيته وذاتيته الثقافية التي تواجه كثيراً من التزييف، ووصف بلاده التي يعتز بها وبكل مكوناتها من رمال ورياح وأشجار، يقول أحمد بن عبد القادر في قصيدته "أمير الخالدين":

رحلت وعندي من الذكريات

لشنقيط باقات ود صميم

بيدي قبضة من تراب المحيط

وعرجون نخل قديم

لوته رياح السموم وزحف الرمال

وكنت أشذب منه اليراع

أشعشع بالماء فحم السيال

وصمغ القتاد

وحبات قرظ حناه الرعاة

فأسقي المحابر نور الحياة

يراعي تعلم سحر الوجود

وشعري وفى لعهد الجدود

استدعاء الرموز:

استدعى الشاعر الموريتاني بعض الشخصيات التي ارتبط ذكرها بلحظات تاريخية مشرقة تعويضاً للواقع الذي يتسم بالارتداد والضعف مقابل الماضي المجيد، واستحضرها أيضاً للتعبير عن واقع الأمة العربية وطموحاتها، وهو في ذلك يذكر أمجاد هؤلاء الرموز يستدعي معهم الفارس المخلّص من الواقع البغيض، ومن هؤلاء الرموز:

- الفاروق، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جاء ذكره في قصيدة بعنوان "جرح أبي لهب" للشاعر محمد عبد الله بن عمار، كما جاء ذكر عمر بن الخطاب أيضاً في قصيدة أخرى بعنوان: "ويكون لنا بعد الفجر ثم لنا لقاء" للشاعر محمد الحافظ بن أحمد، وذلك في قوله: والقدس يفتحها عمر.. فتزيد رقعة أرضنا"

- الذبيح، ويطلق على عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يطلق على سيدنا إسماعيل عليه السلام، وقد ورد في الحديث الشريف: "أنا ابن الذبيحين ولا فخر"، وقد جاء ذكر الذبيح في قصيدة "القلب الجريح" للشاعرة مباركة بنت البراء في قولها: "وذبح الذبيح".

- المعتصم، الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد، وقد اشتهر أنه فتح عمورية وهزم البيزنطيين بسبب فتاة مسلمة ضربها رومي فاستنجدت بالخليفة قائلة: "وامعتصماه"، وقد جاء ذكره في قصيدة بعنوان "هم الأهل" للشاعر ناجي محمد الإمام حيث يقول: "وأحلام فارس.. ترجل قبل فوات الأوان.... ومعتصم كلما ندبا".

- ذو الفقار، وهو سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد جاء ذكره في القصيدة السابقة في قول الشاعر: "ورسمت على الجدار ذا الفقار".

- معاوية، وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الصحابي المعروف ومؤسس الدولة الأموية، وقد جاء ذكره في مطلع قصيدة بعنوان "التيه والبحر والذاكرة" للشاعر إبراهيم بن عبد الله حيث يقول: "سألت معاوية: أين أنت ؟؟".

- سعد، وهو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه صحابي جليل، وفاتح العراق والمدائن وقائد القادسية، وقد ذكرته الشاعرة مباركة بنت البراء في قصيدة بعنوان "تحية بغداد" في قولها: "وأرى أن سعداً يحث الأدهم المكابر".

- بلال، وهو بلال بن رباح رضي الله عنه مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي جليل توفى في خلافة معاوية، وقد جاء ذكره في القصيدة نفسها في قول الشاعرة: "وأيقظ الناس بلال بالأذان".

- البويصري، وهو شرف الدين محمد بن سعيد البويصري، وهو شاعر عربي ولد في بويصير وعرف بمديحه للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذكره في قصيدة "السفين" للشاعر أحمد بن عبد القادر حيث يقول: "رأيت عجائز.. طالت أظفارهن.. يرتلن شعر البوصيري.. شوقًا إلى الحج".

الرمز الأسطوري:

يلاحظ عند قراءة قصائد الثمانينيات مدى اتكالها على الرموز الأسطورية، ويظهر ذلك في عناوين القصائد في هذه الفترة مثل: مصرع أودينيس – أبو الفلاشا، كما تعكسه بعض الألفاظ التي تضمنتها تلك القصائد، ومن الألفاظ الأسطورية:

- السندباد، أحد أبطال قصص ألف ليلة وليلة، عرف بمغامراته البحرية الأسطورية، وقد ورد ذكره في قصيدة بعنوان "السفين" للشاعر أحمد بن عبد القادر، حيث يقول: تروى لهم عجائب.. لم يروها قبلنا.. تميم ولا السندباد".

- شهرزاد، بطلة حكاية في قصص ألف ليلة وليلة سلمت بحيلتها من عقاب الملك وقد ورد ذكرها في قصيدة تحية بغداد للشاعرة مباركة بنت البراء، حيث تقول:

أحلم بالفرات بالنخيل بالقمر

أهفو لمجلس السمر

أحفظ كل كلمة تقولها شهرزاد

- أودينيس، رمز الخصب حسب الأسطورة الفينيقية، وقد ذكر في قصيدة بعنوان "مصرع أودينيس" للشاعر إبراهيم بن عبد الله في قوله : "سل أودينيس في مغازلته".

توظيف القاموس السياسي

امتلأت بعض القصائد بالألفاظ السياسية الثورية التي تعبر عن الاحتجاج على القهر والفساد، وتحث على الثورة ضد الظلم، ومن هذه القصائد قصيدة "نشيد العمال" للشاعر أحمد بن عبد القادر، حيث يقول:

ضحايا الشقا يا ضحايا الفساد

يعم الفساد جميع البلاد

نهوضاً لنكسر قيد اللصوص

نهوضاً لنمحو حكم الفساد

ونقضي على البغي والعابثين

فماذا نقول وماذا نريد

نريد الحياة بلا ظالمين

تعبنا سئمنا صرعنا الرمال

نبشنا المعادن عبر الجبال

عملنا الكثير صنعنا المحال

وكل الجهود وكل الثمار

تعود مكاسب للمترفين

وفي قصيدة بعنوان "يا سيدي الهمام" يقول فاضل ولد داده:

يا سيدي الهمام

إنا هنا مواطنون

وهذه بلادنا

من ألف قرن قبلكم وألف عام

كنا هنا

حياتنا ملك لنا

وأرضنا ملك لنا

ومن الملاحظ أن هذه القصائد ارتبطت ارتباطاً واضحاً بالقضية السياسية، وتظل القصيدة في هذه المرحلة تراقب الأحداث اليومية، تستشعرها وتنقلها بلغة سهلة مألوفة لدى المتلقي، ولا يخرج فيها الشاعر عن لغة الصحافة أو الخطاب الثوري المحرض، وتستمد هذه القصائد معجمها من حقلين أساسيين هما حقل الخطاب السياسي الثوري وحقل الخطاب الصحفي.

المراجع

1- ملخص علي عشري: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي، بيروت 1982.

غالي شكري، شعرنا الحديث إلى أين؟ القاهرة: دار المعارف، 1968؟

مباركة بنت البراء، الشعر الموريتاني الحديث من 1970 إلى 1995، من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998.

يمنى العيد، في معرفة النص، بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدة 1983.