هنريك إبسن يتجدد ويتجسد

حسن توفيق

صدر عن مكتبة جزيرة الورد في القاهرة،

سيرة ذاتية للكاتب العالمي هنريك ابسن.

ترجمة الكاتبة زكية خيرهم، تقديم الشاعر الكبير حسن توفيق.

في هذا الكتاب الذي بين أيدينا يتجدد هنريك إبسن ويتجسد، وكأنه قد هرب من زمانه الذي عاش فيه، لكي يتنقل ويتجول بين أبناء هذا الزمان، فقد استطاع المؤلف النرويجي ستاين إريك لوند أن يرسم بقلمه لوحات متناسقة ومتكاملة، تمتزج فيها حياة رائد المسرح العظيم إبسن مع أعماله المسرحية المتنوعة التي أبدعها خلال ما قدر له أن يحيا من سنوات، وأنا لا أعرف الكثير عن المؤلف النرويجي، لكني أعرف أنه قد ولد في العاصمة أوسلو، وحصل على الماجستير من جامعة أوسلو، وهو يعمل أستاذا منذ سنة 1980وقد نشر ستة عشر كتابا،أغلبها للاطفال وللشباب، وله كتابات أدبية متنوعة، حيث كتب مسرحية، ومجموعة من كلمات الأغاني وعدة قصص قصيرة،هذا إلى جانب مجموعة من القصائد، وهذا ما أهل ستاين إريك لوند لأن يحصد عددا من الجوائز،منها جائزة براغ سنة 1988وجائزة من وزارة الثقافة النرويجية في مجال أدب الأطفال سنة 1999 وفي سنة 2004حصل على جائزة فيستفولد للأدب النرويجي، كما حصل على جائزة من وزارة الثقافة لأدب الأطفال سنة2009.

 

أما زكية خيرهم الشنقيطي - مترجمة هذا الكتاب، فإني أعترف بأني – في بداية الأمر - لم أكن أعرف عنها سوى أنها كاتبة مغربية، هجرت وطنها طواعية واختيارا، أو هاجرت منه اضطرارا، وفي الحالتين فإنها أصبحت إنسانة مغتربة في الغرب، وبالتحديد في النرويج، وهكذا قدر لها أو شاءت لنفسها أن تبتعد عن الشمس الدافئة المدفئة، لكي تواجه ثلوج القطب الشمالي !

فيما بعد، سألت نفسي : كيف استطاعت زكية خيرهم أن تتأقلم مع مجتمع غريب تماما عليها ؟ كيف تمكنت من أن تندمج مع أناس لا يتكلمون لغتها العربية، وليست لديهم صورة واضحة الملامح عن الإسلام الذي تعتنقه هذه الكاتبة المغربية ؟ أي جهد جهيد قد بذلته إلى أن استطاعت أن تتعلم اللغة النرويجية ؟ وأي شعور بالثقة قد غمرها حين بدأت تترجم العديد من المقالات والكتب الأدبية من النرويجية التي تعلمتها إلى لغتها العربية، من خلال أسلوب عربي فصيح ومبين ؟

تذكرت مقولة سقراط الشهيرة والجميلة : تكلم حتى أراك، وقد بادرت زكية خيرهم بالكلام فاستطعت أن أراها، بعد أن تلقيت منها بعض إبداعاتها الأدبية، متمثلة في مجموعة قصصية بعنوان الأجانب في بلاد الفايكنج، ورواية طويلة جريئة بعنوان نهاية سري الخطير، ومن البديهي أو المنطقي أن تكتب الكاتبة عمليها الأدبيين في أوسلو عاصمة النرويج، لكن صدورهما لابد أن يكون عن طريق إحدى دور النشر العربية، وهذا ما كان وما تحقق !

.

وبطبيعة الحال، فإن هنريك إبسن ليس غريبا على الساحة الثقافية والأدبية العربية، فقد ترجمت مسرحياته الرائعة، كما عرضت فوق خشبة المسرح في العديد من الدول العربية، وفي سنة 2006 على وجه التحديد قام المجلس الأعلى للثقافة في مصر بالتعاون مع السفارة الملكية النرويجية في إصدار مختارات من إبسن التي صدرت في ثلاثة مجلدات فاخرة، وذلك في أجواء الاحتقالات بمئوية هذا الكاتب المسرحي العظيم،وعلى الغلاف الأخير من كل مجلد نقرأ فقرة دالة ومهمة تقول : لإبسن مكان كبير في تاريخ المسرح، إذ إنه من أساتذة الصنعة المسرحية، ومعلم من معالم تطور المفهوم المسرحي، كان المسرح قبله بعيدا عن مشاكل المجتمع الحقيقية، خاضعا في بنائه لمواصفات "أرسطو" المعلم الأول، وكانت المسرحيات تتراوح بين الإتقان المحكم والفتور البارد مثل مسرحيات "سكريب" و"ساردو" الكاتبين الفرنسيين اللذين راجت مسرحياتهما، وطوفت عبر القارة الأوروبية في ذلك الزمان، حتى كتب "إبسن" مسرحياته، فعبر عن مفهوم جديد للمسرح، وربطه بالحياة الدائرة، واختار شخصياته من غمار الناس، وناقش قيم المجتمع وأهدافه.

وقد تأثر بإبسن عدد كبير من كتاب المسرح الذين وفدوا بعده، وخاصة الكاتب المسرحي العظيم وأحد موجهي هذا العصر "جورج برنارد شو". كانت حماسة برنارد شو لإبسن لا تقل عن حماسته لجميع الأفكار الجديدة التي عاش حياته من أجلها، ومنه عرف شو أن سر المسرح الجيد هو أن يختار الكاتب المسرحي نماذجه من غمار الناس، وأن يكون عينا يقظة تتتبع ملامح عصره، وعقلا نافذا يلقي فيها الرأي والتوجيه.

 كما أقامت مكتبة الإسكندرية – خلال مئوية إبسن - عدة ندوات فكرية ونقدية تتعلق بما أبدعه هنريك إبسن، ومما قاله الكاتب الفنان المصري سعد هجرس وقتها : إن هنريك إبسن ليس مجرد كاتب مسرحى نرويجى مهم .فقد أصبحت أعماله الأدبية إرثاً مشتركاً للبشرية بأسرها، ولذلك ليس غريبا أن تشارك مصر فى الاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على رحيل هذا الكاتب العبقرى.

وقد جاءت هذه المشاركة المصرية رصينة، أمتزج فيها إعادة عرض بعض مسرحياته بالندوات وحلقات النقاش التى حاولت إلقاء أضواء مجددة على القضايا الجوهرية التى عبر عنها مسرح إبسن، فضلاً عن إعادة "أكتشاف" شخصية "إبسن" ومراحل حياته وعلاقته بمصر.

وفى الحفل الموسيقى الذى نظمته مكتبة الاسكندرية – بمناسبة مئوية إبسن – فاجأنا المايسترو المتألق شريف محيى الدين بتقديم ثلاث قصائد للشاعر المصرى الكبير أمل دنقل ، أختارها بعناية من مراحل مختلفة من حياة أمل دنقل، وقام بتلحينها، وقامت ثلاث زهرات من المواهب التى ترعاها مكتبة الاسكندرية بغنائها باللغة العربية، بينما تمت ترجمة كلمات القصائد الثلاث إلى اللغة الانجليزية، ترجمة جميلة أعتقد أنها وصلت إلى الضيوف النرويجيين ومست شفاف قلوبهم، مثلما أثرت فينا أعمال هنريك إبسن.

وقد أعجبنى كذلك أن النرويجيين يبدون اهتماماً حميماً بأديبهم الكبير، ولا يكتفون بكلمات التمجيد لهنريك إبسن، بل يترجمون ذلك إلى أنشطة إبداعية، منها على سبيل المثال فكرة جميلة حيث قام أحد كبار النحاتين النرويجيين بتجسيد شخصيات مسرحيات إبسن إلى أعمال نحتية وتماثيل برونزية. وهى فكرة جديرة بأن نستلهمها، كما أن السيدة أنا ستينهامر نائبة وزير الخارجية التى رأست الوفد النرويجى الذى شارك فى احتفالية مكتبة الاسكندرية لم تكتف بكلمات بروتوكولية فى هذه المناسبة، بل أن كلمتها التى ألقتها فى حفل العشاء تضمنت إضاءات مهمة لرحلة إبسن الابداعية، ومعلومات طريفة غير معروفة منها مثلاً أن نهاية مسرحية "بيت الدمية" كانت محل جدل كبير، وان هذا الجدل وصل إلى منزل إبسن نفسه، ووصل إلى حد تهديد زوجته سوزانا له بأنه إذا لم يجعل بطلة مسرحيته "نورا" ترحل من بيت الدمية (فى المسرحية) فإنها ستترك له بيت الزوجية وترحل هى الآخرى!