نظرة في سورة الهُمَزةِ
نظرة في سورة الهُمَزةِ
د.عثمان قدري مكانسي
قال العلماء : الويل وادٍ في النار يسيل من صديد أهلها وقيحهم ، وهو – بمعنى عام – العذاب الشديد – نعوذ بالله تعالى منه أياً كان ولا أحِبُّ أن أتصوره فليس لنا به طاقة. فهو العذاب بعينه وقد قيل إن حجارته تتعوّذ منه. نسأل الله العفو والعافية .
ولكنْ لِمَنْ أُعِدّ هذا الوادي أو هذا العذاب ؟ يقول تعالى : إنه أُعِدّ للهمّاز اللمّاز ( ويل لكل هُمَزة لُمَزة . اختلف المفسّسرون في تعريف الهُمزة اللمَزة ‘ فقال بعضهم :
الهُمَزة : من يأكل لحوم الناس بالغِيبة والنميمة ومن يطعنهم باليد وباللسان .
اللُّمزة : من يحرك عينه مشيراً بتهكم أو يطعن أنسابهم بلسانه .
وأظنّ الهُمَزة واللمَزة يتعاوران ما ذكرَ المفسرون من إيذاء باللسان والعين فقط ، بينما أخواتهما من ( الوكز واللكز والنكز ..) إيذاء باليد والعصا وغيرهما ، يضاف إليها (اللكم واللطم واللخم..).
من صفات الهُمَزة اللُمَزة الذميمة التي أدت إلى الويل والعذاب جمعُ المال بكل الوجوه حلالِها وحرامِها ، سلبِها ونهبها ، بيعها وشرائها ، أتاواتها ومكوسِها. فالمُهمُّ عند صاحبها الجمعُ كيفما كان وحيثما اتفق.
يضاف إلى ذلك البخلُ والشح ، ومَن جمَعَ المالَ بكل الطرق لا ينوي صرفه فيما يريد الله تعالى بل يتلذذ بِعدّهِ والاحتفاظ به ، لهذا قال تعالى ( الذي جمع مالاً وعدّده ) وهذا يذكرنا بقوله سبحانه ( جمع فأوعى) والمعنى هنا وهناك مؤداه واحد، من تكديس الأموال والتمتع باحتوائها وتكثيرها. ويحضُرنا قوله صلى الله عليه وسلم في النعي على أمثال هؤلاء :" ما من يوم طلعت شمسه إلا وبجنبيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غيرَ الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إنّ ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت الشمس إلا وكان بجنبيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلقُ الله كلهم غيرَ الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا ". رواه المنذري في الترغيب والترهيب.
ومن صفات الهُمَزة اللُّمَزة أنه ينشغل بجمع المال عن الموت والدار الآخرة ، فيحسب أنه خالد في الدنيا ، فيعمل لها غافلاً عن النهاية التي تسرع إليه كما غَيَّبتْ أسلافه وستغيِّب أخلافه.لكنه الحرصُ على الدنيا والانشغالُ بها يَعمي القلوب ويَذهب بالأبصار.
ثم تأتي كلمة ( كلا) التي تقرع الأسماع وتتهز القلوب خوفاً وفزعاً لتنبه بقوة وإلحاح إلى الحقيقة التي يتناساها الغالبية البشرية عماية وجهلاً ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ، إنّ إلى ربك الرجعى) .فماذا بعد ( كلا)؟ إنها الجملة التي تعصف بالالباب( ليُنْبَذنّ في الحُطمة ) .
إن ( النبذ) إلقاءُ المرء محتقراً منبوذاً في مجاهل النار المحرقة التي تَحْطِم الضلوع وتأكل العيون والآذان والأيدي والرؤوس ، وتذيب الصخر والجماد. وما سميت ( الحُطَمة ) إلا لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشّمه . فما هذه النهاية المخيفة التي يتناساها الناس ويغفلون عنها ؟! إنها والله لَنهاية بئيسة مرعبة ومفزعة.
وتزداد وتيرة الخوف والهلع بصيغة الاستفهام ( وما أدراك ما الحُطمة؟ ) وهذا الأسلوب الاستفهامي يتكرر في كثير من سور القرآن لبيان فداحة الأمر وشدة كربه ( وما أدراك ما الحاقة) ( وما أدراك ما يوم الدين) .. ويجيب القرآن بأسلوب مَهُولٍ تقشعر له الأبدان وتهتز له النفوس : ( نار الله الموقدة ) لم يوقدها بشر ولا ملَك ولا مخلوق مهما جل شانه وعظُمت مكانته ،ولا تنتسب إلى ناقص وضعيف إنها نار الله الموقدة . وقد تخف النار وتضعف إلا نارَ الله تعالى التي تأكل الأجساد وتصل إلى القلوب فلا تأكلها بل تعود الأجساد كما كانت ليبدأ العذاب من جديد . أتدرون السبب ؟ إن القلب إذا أكلته النار مات صاحبه وارتاح من العذاب ، والكفرة أصحاب النار خالدون فيها لا يُفَتّر عنهم العذاب .
ولا مهرب من جهنم ولا خلاص لأعداء الله منها . وأين الهروب ؟ ( إنها عليهم مؤصدة) وإيصاد الباب دون فروج ولا منافذ . لا هواء بارداً يخفف عنهم حرها مغلقةٌ إغلاقاً محكماً يزيد في الكمد والحزن المتنامي .. قد سُدّ عليهم كلُّ أمل في النجاة ( مؤصدةٌ في عَمَد ممددةٍ) .
[ يذكر القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية، فيقول: : في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ثم إن الله يبعث إليهم ملائكة بأطباق من نار , ومسامير من نار وعمد من نار , فتطبق عليهم بتلك الأطباق , وتشد عليهم بتلك المسامير , وتمد بتلك العمد , فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح , ولا يخرج منه غم , وينساهم الرحمن على عرشه , ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم , ولا يستغيثون بعدها أبدا , وينقطع الكلام , فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا ; فذلك قوله تعالى : " إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة " .
وقال قتادة : " عمد " يعذبون بها . واختاره الطبري . وقال ابن عباس : إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم . وقيل : قيود في أرجلهم ; قاله أبو صالح . وقال القشيري : والمعظم على أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار . وتشد تلك الأطباق بالأوتاد , حتى يرجع عليهم غمها وحرها , فلا يدخل عليهم روح .
وقيل : أبواب النار مطبقة عليهم وهم في عمد ; أي في سلاسل وأغلال مطولة , وهي أحكم وأرسخ من القصيرة . وقيل : هم في عمد ممددة ; أي في عذابها وآلامها يضربون بها . وقيل : المعنى في دهر ممدود ; أي لا انقطاع له .]
فهل من مُدّكر؟