الأدب المهموس بين محمد مندور وسيد قطب

سيد قطب رحمه الله

محمد سيد بركة

[email protected]

محمد مندور وسيد قطب علمان من أعلام النقد العربي المعاصر أثريا الأدب بكثير من الرؤى والأفكار مع اختلاف فكريهما .وفي هذا المقال نلقي الضوء على معركة الأدب المهموس والتي تعد من أشهر معاركهما الأدبية والنقدية .

في البدء كان الشعر المهموس:

 كتب الدكتور محمد مندور في 11 أغسطس سنة 1942 في مجلة الثقافة مقالا بعنوان : في الميزان الجديد : الشعر المهموس

كان الأول في سلسلة من المقالات دارت حول ما سماه بالأدب المهموس بدأها بقوله :

"أظن أنه قد حان الحين لنوضح ما نبغي من تلك الألفاظ العامة التي كررناها غير مرة طالبين إلى شعرائنا وكتابنا أن يأخذوا بها إذا أرادوا أن يمسوا نفوسنا نريد أدبا مهموسا أليفا إنسانيا ...

الهمس في الشعر ليس معناه الضعف فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجا من أعماق نفسه في نغمات حارة ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا  فتفسده ، إذ تبعد به عن النفس ،عن الصدق، عن الدنو من القلوب .

الهمس ليس معناه الارتجال فيتغنى الطبع في غير جهد ولا إحكام صناعة ،وإنما هو إحساس بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد وهذا في الغالب لا يكون من الشاعر عن وعي بما يفعل وإنما هي غريزته المستنيرة  ما تزال به حتى يقع على ما يريد .

الهمس ليس معناه قصر الدب أوالشعر على المشاعر ، فالأديب الإنساني يحدثك عن أي شيء يهمس به فيثير فؤادك ولو كان موضوع حديثه ملابسات لاتمت إليك بسب ." (1)

بهذه العاطفة المشبوبة بدا مندور مقالاته وكأنه يضع علامة فاصلة بين عهد مضى وآخر يرسم له قواعده وخطوطه مما فتح بابا واسعا من الدعوة إلى إخراج الأدب العربي من ذاتية الأمة العربية بالتفضيل لهذا اللون من الأدب .

دعا مندور في مقالاته إلى أدب مهموس يألفه الإنسان وقد سماه   مهموسا ليعبر عما يثيره في التعبير الفرنسي ami voix الذي ترجمه حرفيا ب "نصف الملفوظ"وهو يقصد ذلك الأدب الذي سلم من روح الخطابية التي غلبت على شعرنا التقليدي منذ المتنبي وتلك روح  إن لم تواتها القوة التي امتلكها كبار أصحاب تلك النزعة كالمتنبي وهيجو ثم تلك الموسيقى الرنانة التي تنزل بالنفس الدوار فيأخذنا ما يشبه الثمل فتطرب دون أن نتمهل في إدراك معنى أو تحقيق صورة . إن تلك النزعة إذا خلت من هاتين الخاصتين : قوة النفس وموسيقى اللفظ أفسدت الشعر هذا من الناحية السلبية فالشعر المهموس لا خطابية فيه .

وأما من الناحية الإيجابية فهو أدب يصاغ من الحياة وكأنه قطع منها فيه ما في الحياة من تفاهة ونبل فيه ما فيهامن عظمة وحقارة . فيه ما فيه من ضوء وظلام .

أدب حياة والحياة شيء أليف شيء قريب من الجميع نلقاها فنتعرف إليها للحظتها ونستمع إلى سرها فنصدقه لأن القلوب قد أحست في غموض بذلك السر وجاء الشاعر يهمس إلينا فيبصرنا بمكانه لهذا تهتز مشاعرنا .

نماذج مهموسة

 قدم مندور نموذجا لدعوته  من قصيدة "أخي "للشاعر المهاجر ميخائيل نعيمة كتبها زمن الحرب العالمية الأولى (1914 -  1918) يقول نعيمة في قصيدته :

أخي ! إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا ولاتشمت بمن دانا

بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام

لنبكي حظ موتانا

يقول مندور :"نفس مرسل ، وموسيقى متصلة ،فالمقطوعة وحدة تمهد لخاتمتها ، وفي هذا ما يشبع النفس .ألا ترى كيف يعدك للصورة التي يدعوك إلى مشاركته فيها .

إذا ضج الغربي بأعماله وقدس موتاه وعظم أبطاله فلا تهزج للمنتصر ولا تشمت بالمنهزم لأنه لا فضل لك في هذا ولا ذاك ، وما أنت بشيء، وأنت أحق بأن تحزن ، وأجدر بأن يخشع قلبك فتركع صامتا لتبكي موتاك ، أية ألفة في الجو وأية قوة في إعداده؟.  " (2)

ثم يمضي مندور في تحليله الإنساني الرائع للقصيدة ثم يختم مقاله قائلا :" أليس هذا هو الشعر المهموس الذي ندعو إليه ؟

أليس هذا هو الشعر الإنساني الذي نهتز لنغماته؟

إن بينه وبين الكثير من شعراء مصر قرونا وإنه لمن الظلم أن يرتفع بعد ذلك صوت يحاول أن ينكر على هؤلاء الشعراء –نعيمة وإخوانه بالمهجر –أنهم الآن شعراء اللغة العربية وأن شعرهم هو الذي سيصيب الخلود . " (3)

.وفي العدد التالي (4) من مجلة الثقافة كتب مندور المقال الثاني في سلسلته واستمر في البحث والكشف عن العناصر الإنسانية في قصيدة نعيمة السابقة فدافع عن عربية شعراء المهاجر الذين اتهموا وقتها بضعف لغتهم ، وعرض للأفكار الفلسفية والإيقاع في شعر نعيمة وكذلك ما فيه من صور واستقصاء للعاطفة واختتمه بقوله :

"وهكذا تأتي الصور الجميلة الدالة ينتزعها الشاعر من معطيات حواسه المباشرة فتكسو الفكرة بأغشية الشعر وتنشر أمامنا مناظر يدركها الخيال بل تهتز لها النفس ." (5)    

ثم كتب مندور مقاله الثالث (6) فتوقف عند قصيدة "يا نفس " للشاعر المهاجر نسيب عريضة والقصيدة حديث يخاطب به الشاعر نفسه :

 يا نفس مالك والأنين ؟         تتألمين وتؤلمين ؟!!

عذبت قلبي  بالحنين              وكتمته ما تقصدين

يقوم مندور بتحليل القصيدة ويشير إلى ما فيها من بساطة في الصور ورد تميز شعراء المهاجر إلى مجيئهم من بلاد تحرك مناظرها الجبلية من الخيال ما لا تحركه السهول،ومن جنس (الفينيقيون) يشهد له التاريخ بالنزوع إلى المغامرة والتوثب ثم إن غربتهم بأمريكا وكفاحهم من أجل الحياة قد أرهف حسهم وقوى من نفوسهم.

وأيضا  - وهذا هو السبب المهم كما يقول مندور – لأنهم قوم مثقفون أمعنوا النظر في الثقافات الغربية التي لا غنى لنا اليوم عنها وعرفوا كيف يستفيدون منها بعد أن هضموها في لغاتها الأصلية فهم إذن ليسوا كأولئك الذين يسرفون في الغرور عن جهل وكسل ظانين أن الأدب في متناول كل إنسان وأن كل كلام منظوم هو شعر.  الثقافة هي التي تشع في ألفاظ هؤلاء الشعراء وإنك لتقرأ الجملة لهم – كما يقول أيضا – فتحس أن خلفها ثروة من التفكير والإحساس .(7)

الهمس في النثر

 بعد عدة شهور من كتابة مندور مقاله الأول وفي 13 أبريل 1943 كتب مندور سلسلة أخرى عن الهمس في النثر واختار نماذجه أيضا مما كتبه المهاجرون إلى الأمريكتين وكان مما قاله أن ثمة شعرا صادقا جميلا ونثرا صادقا جميلا أيضا فيه معنى الهمس ، أي أنه يخلو من الروح الخطابية التي غلبت على شعرنا التقليدي –كما يقول منذ عصر المتنبي – أو بمعنى آخر إنه يقوم على الإحساس أكثر مما يقوم على التقرير ويحتفل بالموسيقى الرنانة ويلتصق بالحياة والنفس الإنسانية .ومن ثمة يعرف الصدق والجمال .(8)

الأدب الحنين (بكسر الحاء وتشديد النون )

قبل أن يتم مندور نشر مقالاته هذه كان قد أثار بها بعض الكتاب الشباب بصفة خاصة . فقد كتب عبد القادر القط مقالا بعنوان "حول الشعر المهموس "(9)

و رأى أن النماذج التي استعان بها مندور لا تنتمي للشعر المهموس فيقول :

وشتان بين همس مبعثه الشجى وآخر مصدره الضعف وفرق بين آهة الحزين وأنات المحتضر . فالقط يعتقد –ومعه حق كما يرى علي شلش –(10) أ، من اشعر ما يصدر عن جيشان عاطفي قوي يقتضي حدة إيقاع وقوة عبارة .

ولكن القط في تعبيه عن رأيه كان هادئا رفيقا على العكس من سيد قطب الذي انبرى لمندور في مجلة الرسالة وكتب ثلاث مقالات تحت عنوان :

على هامش النقد : الأدب المهموس والأدب الصادق (11) وكان مما قاله :

 أثبت الدكتور مندور أن أدباء المهاجر هم شعراء العربية  وأن بين شعرهم وشعر الكثير من شعراء مصر قرونا والواقع أن النماذج التي جاء بها والدعوة التي يدعو بها إلى هذه النماذج هو توجيه مؤذ في فهم الأدب وفهم الحياة .

وأنا أفهم أن يحب مندور أو سواه لونا من ألوان الأدب فتلك مسألة مزاج ولكن أن يصبح هذا اللون الواحد دون سواه هو الأدب الصحيح وما عداه سخيفا فذلك ضيق في الإحساس يجوز أن يقنع به قارئ يتذوق ويلذ له لون واحد من الغذاء الروحي ولكنه لا يصلح لمن يتصدى النقد والتوجيه . ثم يمضي قائلا :

أستطيع أن أسمي هذا اللون باللون الحنين –بكسر الحاء وتشديد النون – حسب تعبير أولاد البلد من القاهريين الذي تحس فيه بالحنية أو بالهمس أو بالوداعة الأليفة حسب تعبيره هو وهذا الأدب الحنين قد يكون فيه الصادق السليم وقد يكون فيه الكاذب المريض .

فإذا نحن جعلنا همنا أن نهمس فقط وأن نكون وديعين أليفين وأن تكون الحنية هي طابعنا فقط فأين نذهب بالأنماط التي لا تعد من حالات الشعور وحالات النفوس  وحالات الأمزجة .

ومندور يسمي شعر المتنبي شعرا خطابيا ويعني أن المتنبي لا يهمس فإذا قال ميخائيل نعيمة من الشعر المهموس :

أخي !إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه

وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه

...الخ

فإن مندور يقف معجبا أمام صورة هذا الجندي المنهوك الذي يلقي بجسمه في أحضان خلانه أي خطأ ينتظرنا حين نطالب المتنبي العارم الطبع الصائل الرجولة بأن يحدثنا في وداعة كوداعة ميخائيل نعيمة .

فالصدق هو الذي يجب أن تنظر إليه والمتنبي الصادق أجمل الصدق وهو يجلجل ويصلصل في شعوره وفي أدائه لأنه هو هكذا من الداخل .

ثم يرى قطب أن  جميع النماذج التي استعرضها مندور هي من اللون الذي يشع فيه الأسى المتهالك المنهوك وذلك توجيه مؤذ يكاد الدافع إليه أن  يكون دافعا مرضيا وهو ما يدعو للحذر الشديد .

ويؤكد قطب على أن الناقد يجب ألا يحكم مزاجه الخاص الذي قد لا يكون أصدق الأمزجة بل الذي قد يكون ثمرة عقدة نفسية أو حادثة عرضية .

وأعلن قطب أنه لا يعادي الأدب المهموس كما عادى مندور ألوان الأدب الأخرى ولا يفاضل بينه وبينها ولكنه يخشى أن يقود المزاج الشخصي الناقد فيفرضه على الناس ويوجههم بلا دافع موضوعي . ثم ساق قطب نموذجا يمثل رثاء نثريا كتبه أديب شاب لأمه (كان سيد قطب صاحبه وإن لم يذكر له صاحبا ) وحاول أن يدلل على أن النموذج يفي بما يتطلبه الأدب المهموس .

أما قطب في مقاله الثاني فقد مضى يفند حجج مندور فيما يتعلق بالقضية وحاول أن يرد حماسة مندور لمذهبه النقدي لمزاجه الشخصي الذي رده بدوره إلى عقد نفسية قائلا :

هناك عقدتان نفسيتان لعلهما تلتقيان عند عقد واحدة فالأستاذ (أي مندور )كما لمحت في أحاديثي القصيرة معه –حاد المزاج سريع التأثر شديد الحنين والألفة وهي صفات إنسانية تحب ولكنها لا تصلح للناقد ولا يستقيم معها النقد .بل إن سيد قطب خشي أن تكون حادثة ما أو حوادث كامنة في ماضي مندور هي التي تتحكم في نفسه دون شعور .  

نتائج المعركة

 وفي مقاله الثالث مضى قطب في تتبع القضية وبالرغم من أنه انتهى إلى قبول الهمس في الشعر والنثر إلا أنه رفض النماذج التي ساقها مندور من شعر المهاجرين ونثرهم فهو يعتقد أن الأدب المصري لم يخل من صور ذلك اللون المحبب لمندور وهي صور منوعة وأكثر سلامة من النماذج التي استهوته هناك وأن هذا اللون ليس الوحيد الذي يستحق الإعجاب وأن النماذج  البشرية الحبيبة إلى مندور لها علاقة في مزاجه بحكاية الأدب المهموس من بعض النواحي .

ولقد انتهى قطب في مقاله الثالث هذا إلى بعض النتائج الموضوعية وهي أن الهمس ليس أجمل ولا أعمق ولا أصدق الحالات ولكنه حالة من حالات بل حالة لا تلجأ إليها الطبيعة والحياة إلا في فترات الراحة من عناء الضجيج وأن الحياة تتسع للجميع وتحفل بالجميع ولا تتطلب منهم –من أنماط النفوس –إلا التعبير الجميل عن الشعور الصادق .

ولم ينس في ختام مقاله أن يشير في الهامش  إلى سابق اكتشاف أحد القراء في مجلة الثقافة لخطأ وقع فيه مندور حين نسب قصيدة ترنيمة سرير إلى نسيب عريضة وصحتها أنها لزميله إلياس فرحات .

هذه النتائج الموضوعية لا تنفي أن قطب كان ينطلق في بعض الأحيان من زوايا شخصية كشف عنها رده لذوق مندور في اختيار النماذج إلى عقد نفسية وإقحامه نصا نثريا لنفسه ثم إقحامه شعر العقاد وشعره هو نفسه دون أن يكشف عن اسم العقاد أو عن اسمه مع ما في ذلك من شبهة التحيز والذاتية فقد كانت صلته بالعقاد –الذي خاصم مندور –وطيدة .

مندور في الرسالة

 وفي العدد نفسه من مجلة الرسالة (12 ) كتب مندور مقالا بعنوان الشعر الخطابي حاول أن يدافع عن وجهة نظره فقد أبدى فخره بأنه سليم معافى لم يمرض يوما . وقال إن الهمس في الشعر ليس الحنية ولا هو خاص بنوع من الإحساس وإنما هو مذهب في الفن كما أبدى اعتراضه الشديد  على  تحذير سيد قطب القراء من آرائه وعلى أنه يريد إملاء ذوقه على أحد وأوضح أنه يميز الشعر المهموس بالشعر الخطابي وضرب مثلا لذلك من قصيدة حصاد القمر لمحمود حسن إسماعيل التي عدها من النوع الخطابي فضلا عما تكشف عنه عاطفية مسرفة أو "مطرطشة " على حد تعبيره واضطراب  في الرؤية الشعرية ومن ثمة فهو شاعر (محمود حسن إسماعيل ) ليس له عالم شعري على الإطلاق لأنه لا يرى الأشياء رؤية واضحة أو متجانسة ويلتمس الصور من ذاكرته على الأرجح لا مما يراه ببصره أو يدركه بحسه . وع ذلك اعترف مندور لمحمود حسن إسماعيل بهبتين لا شك فيهما :

روح الشعر والقدرة على الانفعال . وهما هبتان يتيحان له أن يكون شاعرا كبيرا . وانتقل مندور إلى الحديث عن النموذج الذي ساقه سيد قطب من نثره فعده متهافتا بالقياس إلى النموذج الذي سبق أن اختاره هو لأمين مشرق .

أدباء آخرون في المعركة

 في هذه المعركة الشرسة التي دارت رحاها بين ناقدين كبيرين تدخل أدباء آخرون فكتب حسين الظريفي من العراق مقالا بعنوان :في الشعر المهموس (13 )  عاب فيه على المتحاورين إغفال المصدر الذي انبعثت عنه الظاهرة وأضاف بأن لشعر المهجر طابعا خاصا يعرف به لا من حيث مبانيه ومعانيه فحسب ولكن من حيث الإيقاع الذي يقرع به الأسماع أو مدى ذبذبته على حد التعبير العلمي كما قال .

ومن ثمة فقد استصوب الظريفي تسمية هذا الشعر بالمهموس وتخطئة نعته بالحنين .ثم عمم القضية على الآداب العربية فقال إن نزعة الهمس موجودة في الشعر السوري ونثره وغنائه ولغة التخاطب بسب تأثير الطبيعة والبيئة على عكس ما في العراق من شعر ونثر يعتمدان في إيصال الشعور على قوة اللهجة وبين هذا وذاك يقف أدب مصر فلا هو بالضعيف ولا هو بالعنيف واختتم مقاله بقوله :

إن الهمس أو الجهر في الشعر أو في غير الشعر لا يمكن اعتباره مظهر تطور أو تأخر لأنه لا يدل إلا على مقدار الطاقة التي بذلها صاحب الفن في سبيل التأثير في الآخرين .

وتستفز المعركة دريني خشبة فيكتب مقالا بعنوان :" على هامش الخصومات   الأدبية : أيها الأدباء.. أعصابكم "(14 )    وفي هذا المقال ألقى خشبة بالمسؤولية عن شجار الأدباء على الحكومة التي لم تدبر لهم مصيفا جميلا أو حمامات للسباحة لتعينهم على حر القاهرة القائظ.

فالحكومة لم تصنع شيئا من هذا بل هي  تؤثر نفسها بكل مناعم الدولة من دون الأدباء وهي تتركهم لقيظ يوليو وأغسطس يشوي وجوههم ويذيب أعصابهم ... الحكومة تنظر إلى الأدباء ساهية لاهية لا ترى أن تشغلهم بشيء من جد الحياة أو من لهوها والأدباء مسلطون على أنفسهم تشغلهم السفاسف وتنتهب فراغهم الهنات الهينات وكأن هدير المدافع وقصف الطرابيد وأزيز الطائرات لا يصل إلى أسماعهم وكأن الدنيا التي تجد في أوربا وفي المحيط الهادي تهزل في مصر وكأننا فرغنا من علاج مشكلاتنا فلم يبق إلا أن نهدم أنفسنا .

وأشار خشبة في مقاله إلى المعركة أو الملحمة التي دارت عن  قضية الأدب المهموس وهي قضية لم يفهمها على وجهها ولكنه أخذ على المتحاورين عنفهم وعد الذي سب أخاه في كمال رجولته أظلم ولعله هو الذي انحرف أولا  فسبب انحراف صاحبه ثم زاد الطين بلة فسخر من كفايات زميله وهو ما لا يوافقه أحد عليه وهو أيضا ما نرجو أن نتعالى في جميع منا قشاتنا عنه .

كما طالب رؤساء تحرير المجلات في ختام مقاله بألا يسمحوا بنشر الفقرات الحارة الساخنة  التي ترد في سياق المناظرات واتي تهبط إلى مستوى الشتائم وتخرج عن دائرة الأدب .

أما زكريا إبراهيم فقد كتب معلقا بكلمة تحت عنوان :"قضية تخسر " (15 ) معلقا على مقالات سيد قطب وقال إن القضية ليست خاسرة ولكنها خسرت على يدي قطب مع الأسف فيقول : وليس من عجب أن يجد الدكتور مندور منفذا للطعن في رد الأستاذ سيد قطب فإن الواقع أن هذا الرد لم يكن غرض صاحبه أن يدافع أدباء مصر  بقدر ما كان غرضه أن يعلن عن نفسه والحق أنني ما قرأت ككلام الأستاذ قطب حتى استوقفتني فيه هذه الظاهرة إذ قد فاته أن يوجه كل همه لنصرة قضيته وإنما راح يحشد أقواله وأقوال الأستاذ العقاد كأنما ليس في مصر غيرهما وليست هذه المرة الأولى التي يسلك فيها الأستاذ قطب هذا المسلك وضرب لذلك مثلا بديوان الشاطئ المجهول الذي أصدره قطب وكتب مقدمته وراح يثني على نفسه بكلمات يعجب لها المرء عجبا يستنفد كل عجب على حد قوله .

نهاية المعركة

وهكذا انتهت معركة الأدب المهموس بالقليل من الحق والموضوعية والكثير من الباطل والذاتية وانحرفت عن القضية الأساس قضية معالجة داء الخطابة في معظم ما يكتب من الشعر فلا شك أن مندور كان يعني بالأدب المهموس –ولا سيما في الشعر  -  ذلك المعادل الإنساني البدهي للصراخ والخطابية فيما لا يدعو إلى الصراخ أوالخطابية وكان في دعوته إلى الهمس في الأدب بالألفة والصور الإنسانية النبيلة مضطرا فيما يبدو إلى التعميم والمبالغة شأنه في ذلك شأن أصحاب الدعوات الجديدة بوجه عام .

وكان يكفي بدل الزج بالمستوى الشخصي أن تناقش القضية بحيث لا ينصرف الهمس فيها إلى  كل ألوان الإبداع الأدبي مما ألمح إليه مندور نفسه في زحام التعميم والمبالغة .

                

الهوامش

1-مجلة الثقافة –العدد –189 –ص15 :18 -11 أغسطس1942 ،كتاب الدكتور محمد مندور في الميزان الجديد ص65 .

2- المصدرين السابقين

3- المصدرين السابقين

4- مجلة  الثقافة –العدد –190 –ص14 :17 -18 أغسطس1942

5- المصدر السابق .

6- مجلة  الثقافة –العدد –191 –ص21 :25 -25 أغسطس1942

7- المصدر السابق

8- مجلة  الثقافة –العدد –224–13 أبريل 1943 والأعداد التالية ،كتاب في الميزان الجديد .

9- مجلة  الثقافة –العدد –194 –ص15 :17-15 سبتمبر 1942

10- د/علي شلش: اتجاهات الأدب ومعاركه في المجلات الأدبية في مصر (1939 -1952 )- ص 178 –مصر – 1991.

11 –مجلة الرسالة –العدد -515 –ص 390:392 –مايو 1943 ،العدد 518 ص 451 : 453 –يونيو 1943 ، العدد 520 –ص489:491 يونيو 1943 .

12- مجلة الرسالة –العدد 520 –ص 491: 494 –يونيو 1943.

13- مجلة الرسالة –العدد 524 –ص 613: 614 –يوليو 1943.

14- مجلة الرسالة –العدد 528 –ص 648: 651 –أغسطس  1943

15- المصدر السابق - ص 659 .