في انتظار المطر

تجربة ذاتية تعكس رؤيا جماعية

هل النثر الفني (الأدبي) في أزمة؟

محمد الحسناوي رحمه الله

لقد كان حظ النثر في عصرنا غير حظ الشعر، فقد ازدهر النثر بأنواعه الأدبية والعلمية، بل كان حظ أنواع منه أكثر ازدهاراً من أنواع أخرى، فالنثر العلمي والإعلامي نشط نشاطاً ملحوظاً لا يكاد يتوقف، ومثل ذلك النثر الدرامي، من قصة ومسرحية. والقصة فيها الرواية والأقصوصة وما بينهما وغيرهما. ويمكن أن ترسم خطاً بيانياً يوجز درجات الازدهار لكل نوع من هذه الأنواع، فكلما كان النص أقرب إلى الأسلوب العلمي كان ازدهاره أكبر، وبالعكس كلما كان أقرب إلى الأسلوب الشعري كان ازدهاره أقل، وهكذا.

خاطرة حافلة

هذا المشهد الثقافي له أسبابه ودلالاته، لكننا لن نبسط القول فيها، وسنكتفي بالإشارة إلى أن التعبير عن الأحاسيس والمشاعر في هذا العصر ليس على ما يرام، بل يعبر ذلك عن أزمة روحية في ضجيج الآلة. وحمى المختبرات، والقفزات العلمية، والتنافس على ذلك وفيه، ضيّق مساحة العاطفة والأحساسيس والمشاعر.

فن المقالة نوع أو لون من ألوان الكتابة النثرية، ينطبق عليه ما ينطبق على بقية الأنواع الأدبية، فمن أنواع المقالة نجد المقالة الأدبية لاسيما الخاطرة تضاءلت مساحتها، إذا قورنت بالمساحات التي تحتلها المقالة الاجتماعية أو السياسية أو الإعلامية فضلاً عن المقالة العلمية، لأن الخاطرة أكثر الألوان تعبيراً عن الأحاسيس والمشاعر.

هذه ظاهرة وظاهرة أهرى في الخاطرة، أنها أفرزت لوناً من الكتابة الأدبية أطلق عليه بعضهم اسم "قصيدة النثر" وعلى الرغم من الاحتفاء بهذا اللون الذي لم يكن جديداً كل الجدّة. فقد سبق إليه أعلام النثر الحديث كالرافعي ومي زيادة، فإنه لا يخرج عن دائرة الأحكام المصيرية التي آل إليها في الكتابة في عصرنا.

"في انتظار المطر" أول إنتاج للكاتبة السيدة "وفاء أحمد المهندس" يعد مؤشراً في حقل المقالة الأدبية لاسيما الخاطرة بالذات.

ثنتان وعشرون خاطرة قصيرة لكنها حافلة بالموضوعات والأغراض الاجتماعية والنسوية والذاتية. كتبت كلها بضمير المتكلم. الخواطر الذاتية المحصنة لا تتعدى اثنتين. حتى الخواطر النسوية التي بلغت النصف (إحدى عشرة) كانت موزعة على موضوعات تربوية: (5 مقالات). واجتماعية. (4 مقالات). وعامة أو متراوحة بين الاجتماعية والتربوية (اثنتان).

على أن السرد بضمير المتكلم لم يكن نوعاً من الاستهواء أو السادية أو النجاوى السائبة. بل لا تكاد تحس بهذا الظل الشخصي إلا في ختام المقالة (الخاطرة أحياناً) انظر خاتمة مقالتين متتابعتين بعنوان (امرأة اليوم موجودة أم موؤدة؟) تقول: (فهذا السبيل قد أنير بهن. فمتى يكون عبورنا؟ ومتى يكون إليهن المسيرة؟ ومتى تؤذن عن الحاضر المستكين بالعودة الراشدة والرأي المستبين؟ فلعل ذلك يكون قريباً وحتى لا نترك صفحات تاريخنا. مهجورة الشذى والعبير) لعلك لاحظت معي استخدام ضمير المتكلم بصيغة الجمع. وهذا أخف وطأة من ضمير الفرد. وهو أقرب إلى الموضوعية من الذاتية.

براعة العنوان

ومن الملاحظات الإضافية براعة العنوان الذي جاء غير تقريري نهائي بل فيه سؤال موح محرض مشوق، دعك من الجناس الرشيق. حتى هذا الختام لم يخل من رشاقة التوقيع الموسيقي والإيحاء التصويري، والرد التحريضي المحبب. فاستخدام صيغة السؤال الإنشائية بذاتها وبتكرارها: تحضيض وتحريض، واستخدام النور لدور أعلام النساء في الطريق، وتصوير المسافة بيننا وبينهن بجسر يعبر، وتخييل الحاضر بإنسان أو مخلوق يستكين، وإضفاء الرشد على العودة نفسها. مثل ذلك الرأي المستبين، ثم إضفاء العبير والشذى على صفحات التاريخ... كل ذلك صور جميلة لطيفة بتلاؤمها. لا تكاد تلحظ الفرق بين الحقيقة والمجاز أحياناً. ثم تجد السجع وشبه السجع في ختام الجمل المناسبة الطول بين (المسير – المستكين – المستبين – العبير). هي لم تقصد أو تتعمد تقارب سجعتي (المستكين – المستبين) لقربهما من بعض. ولا تعانق السجعتين. (المسير – العبير) على تباعدهما نسبياً. إنها الصنعة المطبوعة الناشئة عن تمكن في الكتابة وعلى حس فني رفيع صقيل هذا غير الترادف وحسن اختيار الألفاظ المناسبة معنى ولفظاً هل يذكرك ذلك بمدرسة الجاحظ ومصطفى صادق الرافعي وأبي حيان التوحيدي؟

إن مطالعة هذه المقالات أو الخواطر لتقول بصراحة إن البلاغة العربية لا تجافي أي موضوع اجتماعي أو نسوي أو علمي تتعامل معه. بل كلما ارتفعت قدم المبدع في ميدان البلاغة العربية ازدادت قدرته على العطاء والانجسام مع موضوعه وقرائه وزمانه. هذا سر من أسرار العربية، يعرفه من يعرفه. ويجهله من يجهله.

إن المجال لا يتيح للاستشهاد بأكثر من مقطع أو عيّنة، وهذه دعوة لمطالعة النصوص في مواضعها، لأن لكل نص شخصيته الكاملة المتكاملة، من بدء وعرض وختام، أو انطلاق من الجزء الشخصي إلى (الكل) العام. في مقالة (وقفة ونظرات) نظرت الكاتبة في المرآة الصقيلة فرأت ما تريد، فتمنت أن يأتي يوم ما فتريها المرآة ما لا تريد من عيوب النفس، ومواطن القبح كما تبصرها بمواطن الجمال. وفي مقالة (الأمومة المجزوءة) أحست الكاتبة بالحاسة السادسة (وهي اسم للحس بالمسؤولية هنا) أن ابنها الرضيع على وشك السقوط من سريره فوصلت إليه في الوقت المناسب، فزال أرقها، واستطاعت الخلود إلى النوم، فانتقلت إلى وصف تبلد الإحساس العام بأنات المحرومين، وزفرات المشردين. (وعشنا نقنن الآلام والعواطف إلا لما يخص كلا منا بذاته) هكذا يجيء ضمير المتكلم للنقد لا للفخر والتبجح لا أذيع سراً إذا قلت: إن الكاتبة تعمل في ميدان الخدمة الاجتماعية النسوية بمبادرة شخصية.

من التجربة الشخصية إلى المسألة الجماعية

إن بنية المقالة على الانطلاق من التجربة الشخصية (الجزئية) إلى المسألة الجماعية (الكلية) ليست نقلة فكرية ساذجة. ولا تعميماً مسطحاً. بل هي تجزئة حيوية ناضجة من ذات خبيرة متمرسة. ثم هي طريقة في التربية والكتابة تلفت النظر، وتسهل العرض وتمتن الأداء مثلاً تأخرت زميلتها عن موعد لها ساعتين من الزمن، ولم تتصل أو تعتذر إلا بعد مضي خمس ساعات فاعتذرت لها الكاتبة عن قبول تحديد أي موعد آخر معها، اليوم تأخرت في السوق وغداً عند الخياطة. والله يحميك عندما تتأخرين في أمر جاد لازم، فرتبت على الحادثة فهماً لمشكلة عامة. قالت: "وقديماً قالوا: الوعد كالرعد، والوفاء كالمطر... فما لها أمسكت السماء عنا ترى البوارق تلتمع ضياء. وتسمع الرعود تزمحر واعدة. ثم تجدب أرضنا... وتتجمد قطيرات المطر".

إن الترادف في الألفاظ والتوازن في الحمل، وطلب التوقيع الموسيقي بالسمع، أو توضيح الفكرة بتقليب النظر والعبارات أمور تغري الكاتب بالإطالة والإسهاب على الرغم من ذلك كله تراوح طول المقالة الخاطرة بين صفحتين وخمس صفحات من القطع الصغيرة، مما يدل على قدرة الكاتبة وامتلاكها لناصية التعبير من جهة، وعلى نضج تحريتها في التفكير والتعبير على حد سواء من جهة ثانية زد على ذلك إدراكها لطبيعة القراءة في عصرنا، عصر الانشغال عن القراءة بالتلفزيون والأقنية الفضائية والإنترنت، والميل إلى أدب "الساندويتش" إن كان ثمة ميل من براعة النحات أو يجعل الحجر الصلب يتكلم، والرسام يجعل الألوان تغرد، والأديب أو الشاعر يتجاوز القيود قيود الزمن والذوق والتحديات بأنواعها، تجاوز العالم بها الخبير بأدواته في التعامل معها إلى إبداع ينسينا تلك القيود والضرورات.. هكذا جاءت استجابة الكاتبة للاقتصاد في طول الخاطرة.

سر القدوة

من أسرار الإصلاح الاجتماعي أو التربوي الإقناع، ومن أسرار الإقناع القدوة أو البدء بالذات، ذات الفرد، أو ذات الجماعة التي نحن منها أو ننتمي إليها، سبق أن أشرنا إلى مقالة ذاتية، نظرت فيها الكاتبة إلى المرآة الصقيلة مقالتها الذاتية الثانية بعنوان "بحث عن الذات" هكذا بصراحة هي آخر مقالة في الكتاب كالتوقيع على ختام الرسالة، فإذا هي مقالة في النقد الذاتي أولاً تقول: "ووجدتني أخيراً في محطات الجواب. ها أنا الذرة من مجموع منثور قد أثبت في لحظات أن جيشنا قد استرخى طويلاً وراء أسوار صنعتها أنفاسه".

هل نحن نشهد اليوم ظهور جيل من الكاتبات تقول غير التي كانت تقول "أعلنت عليك الحب".

نحن "في انتظار المطر"[1].

[1]  في انتظار المطر – رفاه أحمد المهندس – دار ابن حزم – بيروت 1420هـ، 1999م – طبعة ثانية.