شِعريّة البناء الموسيقيّ 2
شِعريّة البناء الموسيقيّ
(مراجعاتٌ نقديّةٌ في خطابنا الشِّعريّ الحديث-2)
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
-1-
حينما يتطرّق الناقد لقضيّةٍ لها أبعادها العاطفيّة في جمهرةٍ من المتلقّين، فلا بُدّ أن يُوَطِّن نفسَه على احتمال ردّات الفعل الهوجاء، فتلك ضريبةٌ لا مَنْجَى منها. وعلى قدر الألم يرتفع الصراخ! كما أنه على مستوى الذهنيّة غير المتحضّرة يكون الرفض للاختلاف. وفي واقعنا العربيّ البائس ستجد هذه الثآليلَ النفسيّةَ والعقليّةَ نافرةً فاضحة. إنّ أحدهم، ومهما علا منزلةً اعتباريّةً، أكاديميًّا أو أدبيًّا، لا يختلف عن الغوغاء حينما يَشْتَمُّ أنّ في طرحٍ ما يَمَسّ وُجهةً هو مولِّيها؛ فإذا هو ينقلب شَنْفَرى، "ولا كُلّ الشنافر"! بل إن الصعاليك العرب كانوا ذوي قِيَمٍ أخلاقيّة، ثائرين على الظُّلم والزَّيف والنفاق الطَّبَقيّ.
إن المثقّف العربيّ (الدِّيكَ)، في حاراتنا وأزقّتنا الأماميّة والخلفيّة، ما زال حالةً شائهةً في وجهنا، يفضحها الإعلامُ اليوم، والتقنيةُ الحديثة. وما يزال المرء يُصدم فيه، وهو يَلبس لَبوسَ النبلاء العارفين، وينسَى أنْ لا قيمة للمعرفة بلا حضارةٍ ولا أخلاق. نعم، لقد أَخْتَلِف مع فلانٍ من الناس حدّ التضادّ، لكنّ ذلك ينبغي أن لا يوصلني حَدَّ احتقاره، أو تنقُّصه، أو شخصنة موقفي منه. غير أن حالة هذا الفصام الوجوديّ الحضاريّ قد تجعل أحدهم ينقلب عليك 180 درجةً، من رأيه الإيجابيّ إلى السلبيّ, لا لشيء إلّا لأن وُجهة نظركَ لم تُطابق وُجهة نظره، وهو أبدًا مندفعٌ للدفاع عن نفسه، كأيّ طفلٍ نَزِق. وفَرْطُ الاندفاع هذا في الدِّفاع هو أكبر مؤشّرٍ على اتّضاع الثقة بالمنجَز. لأن المنجَز الصالح، الصحيح، لا يحتاج إلى دفاعٍ مستميت؛ بل هو ما يدافع عن نفسه.
لذا، يستوقفك في ساحاتنا الثقافيّة، المتشحِّطة عادةً في تشنُّجها، مَن يودّ لو استطاع أن يَحْظُر عليك الحديثَ عن شأنٍ ثقافيّ معيّن، أو سؤالٍ أدبيٍّ، أو مقاربة توجّهٍ ما، أو اتّخاذ موقف منه؛ من حيث يستشعر أنّ ذلك يمسّه شخصيًّا- وإنْ لم يُلقِ له أحدٌ بالًا أصلًا- وأنه ينكأ في صميمه جُرحًا، معرفيًّا أو ثقافيًّا! فهو لهذا ما يفتأ يتحسّس التراب على رأسه! وأمثال هؤلاء لا يُعَرُّون إلّا أنفسهم، ولا يُسيؤون إلّا إليها. ذاك أن ثقافة الاصطفاف، مع أو ضدّ، ليست في السياسة فحسب، بل هي أصلًا نعرةٌ ثقافيّة، عروبيّةٌ بامتياز. وهذا جانب ممّا عنيتُه في عنونة مساقٍ سابقٍ بـ"نزوعات ما قبل حداثيّة". لأن حداثيّينا- على سبيل النموذج- هم، في معظمهم، لا يعرفون من الحداثة سوى اسمها، فيما هم في صعلكتهم يَعمهون، تَنْبُت وجوهُهم الكالحةُ بالجُبن، ما تعلّق الأمر بحِماهم، وحمايةِ الذِّمار. يُنَظِّرون علينا، وما مِن تطبيق، تمامًا كديمقراطيّينا الأدعياء، الذين ينقلبون على أنفسهم حينما لا تُحافلهم صناديقُ الاقتراع.
والحقّ أنها قد تُوْغِل حداثتُنا في "ما قبليّتها" تلك لتعود إلى "ما قبل حضاريّة"، من صحرائيّاتها وجاهليّاتها. إذ ما أسهل أن يتظاهر المرء بالحداثة والاستنارة، ولكنْ ناقشْه لتختبره! إنك إنْ ناقشته أو حاورته، ارتكسَ، غالبًا، على رأسه، وانفلتَ عليك من عقاله فاتكًا من فُتّاك العرب الأوائل، يَصدُر عن خطابٍ بدائيٍّ، قَبَليٍّ، ينفر من التعدّد والتنوّع، ويضيق بالعقل والعِلم، ولا يملك لسانه ولا قلمه ولا نفسه لدى الانفعال. فإذا هو يسعَى لقمع أشكال الاختلاف عنه كافّة، بيدٍ من حديد، وتدّعي التجديد! فأنت أمام خيارين، لا ثالث لهما: إمّا أن توافقه الرأيَ والهوى، والتوجّهَ والانتماء، وإلّا "طِحْتَ مِن عينه"، وجرّدك عن كلّ الفضائل.. وإنْ لم يجاهرك بذلك، بيّت لك المكائد. وإعلاميًّا، يظلّ هؤلاء كشعراء العرب الجاهليّين، إنْ رضيَ أحدُهم مَدَحَكَ، وأسرف في المديح، وإنْ لم يرض، هجاكَ، وشنّها حربًا ضروسًا!
واقعٌ ثقافيٌّ يثير الشفقة والسخرية حقًّا. تُديره ذهنيّتُنا التربويّة الثقافيّة السائدة، التي هي بيت الداء وأُسّ الدواء، قبل أيّ حديثٍ في حداثةٍ، أو أصالةٍ، أو حرّيّةٍ، أو ديمقراطيّة. وهي في مجال الأدب نامّةٌ على فساد الخُلُق إلى فساد الطبع. فلقد يكون الإنسان فاسد الطبع، لا يميز الجميلَ من القبيح، ولا الغثَّ من السمين، ولا يُدرك أسرار البلاغة، ولا تتحرّك نفسُه لخاصيّةٍ من خصائص الأدب. بل لا يكترث حين تحدِّثه، مثلًا، عن شِعريّة البناء الموسيقيّ في الشِّعر، وعن قيمتها التعبيريّة، (التي ما جُنَّ العربُ ليتّخذوها نبراسَ بيانٍ لألفَي عام)؛ لأن طبعَ صاحبنا سقيم، واللغة بينك وبينه سَدِيْم. على أن هذا أمره هيِّنٌ؛ فكُلٌّ ميسّرٌ لما خُلِق له. وليس كُلّ الناس مفترضًا فيهم أن يكونوا أدباء، ولا كُلّ الناس يتذوّقون الأدب. وما ذاك بعيبٍ، فضروب الإبداع متعدِّدةٌ، وما نَقَص المرء في وجهٍ، إلّا عوّضه الله عنه كمالًا في وجوه. غير أن فساد الخُلُق إذا زاوج فسادَ الطَّبع، وكان المبتلَى بذلك المزدوجِ يسترفد فسادَ خُلُقه احتجاجًا لفساد طبعه، فقد وقعتْ الواقعةُ في الحِراك الأدبيّ، وأمسَى الذوقُ والعِلْمُ نهبًا في أيدي من ليسوا من أرباب هذا ولا ذاك. وعن نحو هذا المعترك العتيق تحدّث (عبدالقاهر الجرجاني)(1)- وإن كان حديثه عن الطبع خاصّة- حيث قال: "واعلم أنه لا يُصادِف القولُ في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يَجِدُ لديه قبولًا، حتى يكون من أهل الذَّوق والمعرفة، وحتى يكون ممّن تُحدِّثه نفسُه بأنّ لِما يُوْمَأُ(2) إليه من الحُسن واللُّطف أصلًا، وحتى يختلف الحالُ عليه عند تأمُّل الكلام، فيجد الأريحيّةَ تارةً، ويعرَى منها أخرى. وحتى إذا عَجَّبْتَه عَجِبَ، وإذ نَبَّهْتَه لموضع المَزيَّة انتبه. فأمّا مَن كانت الحالان والوجهان عنده أبدًا على سواء، وكان لا يَفْقَهُ مِن أمر (النَّظْم) إلّا الصِّحَّة المطلَقة، وإلّا إعرابًا ظاهرًا، فما أقلّ ما يُجدي الكلامُ معه! فليكُن مَن هذه صِفته عندك بمنزلة مَن عَدِمَ الإحساسَ بوزن الشِّعر، والذَّوْقِ الذي يُقيمه به، والطَّبْعِ الذي يُمَيِّز صحيحَه مِن مكسوره، ومزاحَفَه مِن سالمه، وما خَرَجَ مِن البَحر ممّا لم يخرج منه، في أنك لا تتصدَّى له، ولا تتكلَّف تعريفَه؛ لعِلْمك أنه قد عَدِمَ الأداةَ التي معها يَعرف، والحاسَّة التي بها يَجِد. فليكن قَدْحُك في زندٍ وارٍ، والحَكُّ في عُودٍ أنت تطمع منه في نار! واعلم أنّ هؤلاء، وإنْ كانوا هم الآفة العُظمى في هذا الباب، فإن مِن الآفة أيضًا مَن زَعَمَ أنه لا سبيل إلى معرفة العِلَّة في قليلِ ما تُعرف المزيّةُ فيه وكثيره... فأمّا أنْ تَعْلَمَ لِمَ كان كذلك؟ وما السببُ؟ فـ"ممّا لا سبيل إليه، ولا مطمع في الاطّلاع عليه"؛ فهو بتوانيه، والكَسَل فيه، في حُكم مَن قال ذلك. واعلم أنه ليس، إذا لم تُمكن معرفةُ الكُلّ، وَجَبَ تَرْكُ النظرِ في الكُلّ. وأنْ تَعرفَ العِلَّةَ والسببَ فيما يُمكنك معرفةُ ذلك فيه، وإنْ قَلَّ، فتجعله شاهدًا فيما لم تَعرف، أحرَى مِن أنْ تَسُدَّ باب المعرفة على نفسك، وتأخذها عن الفهم والتَّفَهُّم، وتُعَوِّدها الكَسَلَ والهُوينا. قال الجاحظ: وكلامٌ كثيرٌ قد جرَى على ألسنة الناس، وله مَضَرَّةٌ شديدةٌ وثمرةٌ مُرّةٌ. فمِن أَضَرِّ ذلك قولُهم: "لم يَدِعِ الأَوَّلُ للآخِرِ شيئًا". قال: فلو أنّ علماء كُلِّ عَصْرٍ، مُذ جَرَتْ هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباط، لِما لم يَنْتَهِ إليهم عمَّن قَبلهم، لرأيتَ العِلْم مختلًّا(3)." إن هذا التشخيصَ (الجرجانيَّ)، لمرضنا الثقافيّ والأدبيّ والنقديّ، هو لحالةٍ ما انفكّت ترتع فينا، وتنمو، وتستتشري، وتُقَرِّن. فهناك مَن لا يَعرف، ولا يريد أن يَعرف. وهناك مَن لا يُراجع، ولا يريد أن يُناقَش ما مضَى عليه حينٌ من التواطؤ. وهناك مَن لا يملك الطَّبْعَ، ولا الصَّنعةَ، ولا المعرفةَ، ولا خُلُقَ العِلْم. وهذا النوع الأخير هو "الآفة العظمى"، حسب تعبير عبدالقاهر.
-2-
من أعجب ما قرأتُ، تعليقًا على المساق السابق، ما كتبتْه الأخت هاجر شرواني، قائلةً: "أكثر من رائع هذا المقال وجدتُ فيه روحًا عربية أصيلة، وتجلّيًا للأسلوب الراقي، برغم أني من كاتبات الشِّعر الذي تبّت يداه بأحرفك، إلا أني أُلقي هنا تحيّة إعجابٍ بحرفٍ أصيل.. استعلى بقوّة سلطة جمال اللغة..". وأقول "أعجب" عن معرفةٍ أن هذه الروح الجميلة، القابلة للاختلاف، نادرةٌ اليوم، إنْ وُجدت. ولكن أودّ التأكيد، لغير المتابع، أن قصيدة النثر، من حيث هي كتابة، ما تَبَّتْ يداها، ولم أُتَبِّبها قط. بل لقد كتبتُ عن نماذج متميّزة منها، ووجدتُ في بعضها تجاوزًا لقصيدة النثر إلى ما أسميته (قصيدة النثريلة). كما لستُ ممّن يرى قصيدة النثر- بصفتها نثرًا- واردَ الغربِ بإطلاق. ولقد ذكرتُ في أكثر من مقام: أن خلافي مع بعض كتبة قصيدة النثر هو خلافٌ اصطلاحيٌّ؛ لأني أرى أمام نصوصهم آفاقًا فوق الشِّعر، لو كانوا يطمحون، وفوق الجنس المهووسين به، لو كانوا يُحسنون التجويد الأدبيّ، وليسوا مع أوّل ناعقٍ يُهرعون. لكن بعضهم يأخذ الأمر سُبّةً، وبحساسيّة مفرطة، لا ثقافيّة ولاحضاريّة. فالناقد إمّا أن يجاري أحدهم، ويكذب عليه جهارًا نهارًا، ويتقبَّل منه كُلّ ما كتب وكذب، ويصفِّق لكُلّ ما هَذْرَمَ وهَذَى، ويوافق على ما يرى ويعتقد، وإلّا فهو ضدّه، ضربةَ لازب! إنها ثقافة الإيمان المطلق، أو الكُفر المطلق، في شؤونٍ اجتهاديّة نسبيّة، للمرء أن يأخذ منها ويردّ! وبذلك يكشف هذا النموذج المؤدلَج، من شُداة الحداثة أو حتى شيوخهم، عن عورة الحداثة المدّعاة، وعورة الوعي الأدبيّ والثقافيّ، في آن!
وفي المساق الآتي نواصل الحديث حول ذلك التغيير الجذريّ في الذائقة العربيّة، وفي الشخصيّة الشِّعريّة العربيّة، الذي غُرس غرسًا في العصر الحديث؛ لكي نتماثل قسرًا مع الشخصيّة الشِّعريّة الغربيّة. تلك الشخصيّة التي نجد ملامحها هنالك منذ القِدَم؛ ومِن ثَمَّ فإنها لا تُعدّ في السياق الغربيّ تحوّلاً حديثًا أو تطوّرًا، بل هي مكوِّنٌ مختلِفُ الهويّة، أرادت القصيدةُ العربيّةُ في القرن العشرين ومنظّروها أن يتجرّعها العربُ وهم لا يكادون يُسيغون.
[وللحديث بقية].
(1) (1984)، دلائل الإعجاز، XE "دلائل الإعجاز" قرأه وعلّق عليه: أبو فهر محمود محمّد شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 291- 292.
(2) في "الدلائل": "ما يُومِئُ". ولعل الصواب "ما يُوْمَأُ".
(3) ليت شِعري، أهي: "مُختَلًّا"، أم "مَحْلًا"، ووَقَعَ فيها التصحيف؟ أكاد أجزم أن الجاحظ قال: "مَحْلًا"، لا "مُختَلًّا".