الشعر.. والشعر الآخر
بداية أنوه إلى أن المقصود في هذه القراءة هما فئتان. الأولى أولئك الذين أغرقوا الشعر العربي في بحر من الطلاسم، واعتقلوه في أقبية الغموض ودهاليزه، وجردوه من تقنياته "بحوره وأوزانه وقوافيه"، فأصبح مطية سهلة الإمتطاء، بعدما كان ذلك الجواد العربي الأصيل. أما الثانية أولئك الذين أخرجوا الإبداع الشعري من دائرة الصراع مع العدو، بحجة إدخاله إلى آفاق الحداثة والتحديث والعصرنة والأنسنة والعولمة.
لا يمكن الخوض في الشعر العربي المعاصر بكل أبعاده واتجاهاته في منأى عن التيارات الثقافية والطروحات التغييرية لشتى مناحي الحياة العربية التي يتعرض لها العالم العربي، وبخاصة تلك التي تهب عليه من خارج حدوده الجغرافية.
إلا أن الشعر العربي يظل بصورتيه التاريخية الأصالية المتوارثة، وتلك التي طرأت عليها المتغيرات الحداثية بكل ألوان طيفها، يظل الميدان الثقافي الأكثر ولوجا، والساحة الإبداعية الأشد احتداما وعراكا ونزالا، كونه توأما للوجدان العربي، ومستودعا لإفرازات كافة أشكال استجابات هذا الوجدان لتحديات الوسط الطبيعي السياسي الإجتماعي العقائدي الذي يدور في مداره.
الشعر العربي– والحال هذه – كان ولا يزال إلى حد كبير روح الأمة، ومحرك عواطفها ونبض وجودها علاوة على كونه ديوانها، وسجل مساحة مرموقة من أحداث تاريخها.
في ظل هذه المعطيات والحقائق يصعب تصور الحياة العربية قديمها وحديثها ومعاصرها خارج إطار الشعر الذي منح الجسد العربي روحا خاصة به، وطاقة إحساس ذات قدرة عالية على التأثر والتأثير، وإننا نظلم الشعر إذا لم نعترف له أنه رسم للإبداع الثقافي العربي منظومة من الفرادة والتميز والخصوصية.
حقيقة إن الشعر ليس مقصورا على الإبداع الثقافي العربي، وعلى الأرجح أنه جزء لا يتجزأ من التكوين الإبداعي الثقافي لكثير من الحضارات الإنسانية، إلا أن الشعر العربي امتاز عليها جميعا بتلك المكانة الجليلة التي حظي بها بين قومه وأهليه وتلقيه، فكان ديوانهم على مدى عصور طوال، ناهيك عما تأسس عليه من تقنيات فريدة تمثلت في بحوره الكثيرة التي منحت شعراءه مساحات شاسعة من حرية الإختيار وتعددية التعبير ومواءمة الأغراض، والتناغم القائم على ارتحال في موج فريد من الموسيقى تتصاعد من كل بحر من بحوره، وإذا ما حللت هذه البحور إلى تفعيلاتها وأضيف إليها فضاء من القوافي، تجلت أجواء ساحرة من الإيقاع اللفظي لا تعزفه إلا أوتار الشعر العربي الأصيل.
إن الحديث عن الشعر العربي ذو شجون. إن المقدمة التي استهللنا بها هذه العجالة عنه لا تفيه حقه بأي شكل من الأشكال، وهو ذلك التاريخ الضاربة جذوره في أعماق الزمن، وذلك المحراب الذي توالت عليه أجيال الشعراء جيلا فجيلا، بل هو ذلك المهد المبارك الذي ولدوا جميعا في أحضانه، ورضعوا من ثدييه المدرارين شهد الكلام وأحلاه.
هذا هو الشعر العربي تفوح منه رائحة الأصالة، فهو ما كان في يوم من الأيام إلا نسيج وحده. لم يتطفل على موائد الآخرين، وهو الخير المعطاء لا ينضب له معين، ولم يرتم على أحضان الغرباء وهو المنتمى العريق، لم يخلع ثوبه وهو رداء فخار وكبرياء، لم يترجل عن جواده وهو الفارس الصنديد الأبي الوفي العصي الذوبان في بواتق هؤلاء الآخرين، لم يخن لغته وهو العربي الفصيح البليغ يأبى لسانه الإعوجاج، وهو المسافر في فضاءات الإيمان، والضاربة جذوره في الوطن، والمتجلي في صبوات الهوى والحب، والمتدفق في جوارح الإنسان، والمحلق في أفلاك الجمال ومداراته، يعطي فيجزل العطاء ويحسنه، ويبدع أيما إبداع.
أما "الشعر الآخر " فهو ينطلق من إفرازات ما يسمى بمصطلح "الحداثة" الذي حملته إلى عالمنا العربي رياح الغزو الثقافي. وبداية فليس ثمة اعتراض على الحداثة من حيث المبدأ، ومن حيث كونها إحدى خصائص الثقافة الإبداعية التي لا تتقاطع مع الجمود أو التقولب المتحجر، أو التقوقع و الوقوف عند أطلال الماضي أو حتى صروحه.
إن الحياة العربية بكل مناحيها بعامة، وثقافتها الإبداعية بخاصة ومنها الشعر العربي كانت قد أصابها الصدأ، ونخرها التآكل على مدى ثمانية قرون من الزمان أو يزيد. لقد كانت والحال هذه أحوج ما تكون إلى التحديث والتعويض عن الفراغ السحيق الذي تردت في مهاويه.
في ظل غياب منظور إبداعي ثقافي وطني قومي يمكن الرجوع إليه والإجماع عليه، أخذت شريحة من "المثقفين العرب" المتأثرة بالفكر الغربي لسبب أو لآخر على عاتقها ملء الفراغ باستيراد قوالب ثقافية غربية في عملية تسويق أطلقت عليها مسمى "الحداثة"، وأتبعتها لاحقا بمصطلح مسماه "ما بعد الحداثة" نصبتها ميزانا ومعيارا ومرجعية، وجعلت منها جهاز قياس وتقويم وتقييم حديثا أخضعت له الإبداعات العربية قديمها وحديثها ومعاصرها ومنها الشعر بطبيعة الحال، فكانت المحصلة أنها وبجرة قلم حكمت على هذا التراث العربي "بالقدامة " والتحجر والجمود والإنتماء إلى عصور أصبحت من الماضي، وأنه بناء على كل ذلك لم يعد له مكانة.
الحديث هنا لا يحتمل الخوض في مصطلحي "الحداثة وما بعد الحداثة" إلا بقدر ما يمكن أن يكون لهما علاقة مباشرة بموضوعنا الذي نحن بصدده. بناء على هذا فإننا نختصر الحديث ونقصره حول نقاط أهمها:
* لا اعتراض على الحداثة في حد ذاتها، وإنما الإعتراض على استيرادها وتسويقها دون تبصر.
* إنه بالإمكان، بل من الضروري قبول هذه الحداثة شريطة أن تكون ذات هوية انتماء وطنية قومية، وهذا لا يعني البتة الإنغلاق على الذات والتراث.
* هنا ينبغي التأكيد على أن الإنفتاح على الثقافات الأخرى سمة من سمات المعاصرة العقلانية القائمة أساسا على المشاركة الإنسانية، لكنها يفترض بها الإلتزام وأخذها بعين الإعتبار أسس التوازن الدقيق، بحيث لا يسمح لهذا الوارد الثقافي أو الحداثي أن يجتاح جذور الأصالتين الوطنية والقومية أو أن يقتلعهما، وإلا كان الأمر بمثابة زرع "مستوطنات ثقافية" هدفها تغيير الخارطة الثقافية الوطنية والقومية، وطمس كل خطوطها وألوانها تحت ظلال غزو ثقافي قائم على الإنفرادية، وضارب عرض الحائط بالتعددية، والمحصلة تكريس التبعية المبطنة بالدونية وحالات جلد الذات والخروج من الجلد.
في ضوء هذه العجالة عن الحداثة المستوردة تحت ظلال الغزو الثقافي نعود إلى "الشعر الآخر" الذي هو رأس جسرها الهجومي صوب الأصالة المتمثلة بالشعر العربي. إن هذا "الشعر الآخر" لا يمت إلى الشعر العربي شكلا ومضمونا ولغة وانتماء بصلة. هو في الحقيقة وافد غريب الوجه واليد واللسان، ليس له شخصية وطنية أو قومية، لا يلائمه مناخ الوطن العربي الثقافي، وهو وإن لوحظ عليه بعض النمو الأفقي، إلا أن نموه الرأسي ظل ضعيفا جدا كونه قائما على بنية تحتية من التناقضات تقود المتلقي إلى الضياع في اللاإتجاه.
إنه وأيا كانت الصور التي يُقدم بها، والأجواء التي يصطنعها "فرسانه ومسوقوه" بإعطائه مسحة من التعالي والفوقية والهيبة "الكاريزما والبرستيج"، فإنه يظل يفتقر إلى الأسس الأولية للشعر، ولا يمنح الشعور بالراحة والتجلي، عدا عن كونه أصلا لا يلتصق بالذاكرة، ويعجز عن تكوين اتجاهات إيجابية، عدا عن اتجاه واحد صوب النفور منه والرفض له.
لكي يمنحه هؤلاء "الحداثيون" الشرعية في وجوده استصدروا له شهادة ميلاد تحمل اسم " قصيدة النثر" التي تقاطر عليها كل من هب ودب، واستمرأ الغرق في حالات من التهويم والأسطرة والطلسمة والخرافة، وتآمر على اغتيال كل المعاني التي عبق بها الشعر العربي الأصيل على مدى عصوره، ومنذ ولادة أول قصيدة من رحم الإبداع العربي ومن صلب انتمائها إلى العروبة إحساسا ولغة، جسدا وروحا.
بطبيعة الحال فإن الحديث عن هذا "الشعر الآخر" لا يقف عند هذه الحدود دون التطرق إلى "شعرائه" الذين وصفوا أنفسهم بأنهم "شعراء الحداثة" . بداية فإن هذه الزوبعة الشعرية الهوجاء متهمة بأن "شعراءها" قد نأوا بأنفسهم وبأقلامهم عن كل ما يمت إلى القضايا العربية الأساسية بصلة، عدا عن كون معظم رصيد ما قالوه هو مجرد لغة خارجة من حدود منطق اللغة القائمة أساسا على الفهم والإفهام.
إن هؤلاء "الشعراء"، ولدى الحديث عن المضمون لا تعنيهم الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والأمنية والإنسانية المتردية في أوطانهم. إنها لا تشكل لحمة "قصائدهم" التي التفت على إفرازات التفاوت الطبقي في مجتمعاتهم الغارقة في الإستبداد، والمفتقرة إلى أبسط أشكال الحريات الأساسية والديموقراطية وحقوق الإنسان.
على ما يبدو فإن هؤلاء "الشعراء" يخجلون ، أو أنهم يرفضون أن يكون للصراع العربي الإسرائيلي وكل إفرازاته النضالية مساحة فيما يكتبون. إن القدس – مثالا لا حصرا- بكل مقدساتها وتاريخها العقائدي لم تعد تشكل هما بالنسبة لهم، ولا محركا لأقلامهم، وإذا ما صدف وتحدث أحدهم عنها عرضا، فليس عن أقصاها أو صخرتها أو أي معلم من قداستها، أو أي فصل من تاريخها وأمجادها، أو النضال الدامي عليها، وإنما عن أرصفتها ومشربيات جدران منازلها وأبوابها ودكاكينها.
إن هؤلاء "الشعراء الحداثيين" يفتقرون حتى إلى رابطة فيما بينهم. ليس ثمة إطار حقيقي، ولا تقنيات ينطلقون منها، ولا مسارات يتجهون منها أو إليها أو حدود يقفون عندها ويظل السؤال الكبير يطرح نفسه بإلحاح: لمن يكتب هؤلاء؟، أغلب الظن إنهم يكتبون لأنفسهم، ذلك أنه ليس ثمة من جسور بينهم وبين المتلقين، أو بصحيح العبارة ليس لهم أدنى قاعدة من هؤلاء المتلقين كونهم خرجوا على اللغة والشعر العربي أوزانه وبحوره وقوافيه وموسيقاه وجمالاته ومعانيه، وأطفأوا في مخيلاتهم وحدهم ذلك السنا الوهاج في فضاءاته.
يظل الشعر هو الشعر. وأما هذا "الشعر الآخر" فهو كالفقاقيع في الهواء سرعان ما تتلاشى وتتهاوى رذاذا تبتلعه رمال الأرض العربية. إنه إلى كونه خارجا عن كل ما يختص به الشعر الحقيقي "الوزن، والبحر، والقافية، والصدر والعجز، والروي"، وهي تشكل المعايير والضوابط التي تفرق بينه وبين النثر، فإن هذا المسمى شعرا:
لا يلتصق بالذاكرة، ولا يسكنها.
مبهم ليس له معنى لغوي.
تراكيبه مصطنعة متكلفة، لا تمت إلى البلاغة العربية بأية صلة.
لا يتناول أية قضايا ذات شأن واعتبار بالنسبة للمتلقين، أو قضايا الوطن والأمة.
يفرض أجواء من الكآبة والسوداوية على عالم المتلقي.
أخيرا ليس آخرا إنه ليس شعرا، إن الشعر الحقيقي بريء منه.