عزيز أباظة بين الأصالة والامتداد

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 لا يستطيع منصف أن ينكر ريادة شوقي وزعامته للشعر التمثيلي في العصر الحديث .

 ولعل شدة إعجاب الناس بشوقي ، والرنين الضخم الذي ملأ به أمير الشعراء الأسماع والقلوب والأبصار ... أقول لعل كل أولئك مما دفع بعض النقاد – دون دراسة واعية منصفة – إلى غمط عزيز أباظة حقه وأصالته ، ونظروا إليه على أساس أنه غصن طبيعي نما في ( الشجرة الشوقية ) ، وتغذى منها وعليها ، فلها الفضل كل الفضل في بقائه وارتفاعه ونموه . بل منهم من حكم على عزيز بأنه في بعض مسرحياته كان ( نسخة مهزوزة لأصل رائع معجز هو شوقي ) ، وهو – بلا شك – حكم ينطوي على ظلم صارخ ، صحيح أن ( عزيز ) كان معجبًا بشوقي .. قرأ له وتعمقه وأعجب بشعره ، وصحيح أن ( شوقي ) هو رائد الفن الشعري المسرحي . وصحيح أن بصمات شوقي واضحة على بعض جوانب روايات عزيز ، ولكن كل أولئك لا يسلب ( عزيز أباظة ) ملامحه الفارقة وشخصيته القوية وحضوره الفني اللافت في مسرحياته على اختلاف موضوعاتها .

ولعل الذي دفع البعض إلى ظلم عزيز ما لاحظوه من بعض المشابه بين مسرحياته ومسرحيات شوقي ، ويتلخص أهمها فيما يأتي :

 1- المنابع والمصادر : فكلا الشاعرين اتخذ من التاريخ – بصفة عامة والعربي بصفة خاصة – منبعًا رئيسيًا يستقي منه موضوعاته المسرحية .

**********

 2- النوع الفني : فكلاهما كانت أغلب مسرحياته تراجيديات جادة إذا استثنينا ملهاة شوقي الوحيدة ( الست الهدى ) .

**********

 3- الدوافع والحوافز : فالدوافع إلى النظم المسرحي تكاد تكون واحدة عند الشاعرين وأهمها : حرص كل منهما على إبراز كثير من القيم الإنسانية والعربية ، وإثبات قدرة اللغة العربية على استيعاب هذا الفن الوافد . وقد كتب العقاد في تقديمه لمسرحية عزيز ( قيس ولبنى ) إن الحقيقة التي جلتها هذه الرواية هي " صلاح العربية الفصحة للمسرح الحديث ، واستطاعة النظارة من جميع الطرقات أن يفقهوا معناها ويشربوا مزاجها ، وينتقلوا إلى جوها ويستجيبوا لعباراتها في مواقف الجد أو الدعابة وفي وفي معارض اللهو أو الأسى وعلى متن الأخلاق والعادات التي باعدت بين عصرنا وعصرها .

هذا عدا ما بين حياة الشاعرين من وجوه شبه : فكلاهما من بيئة مترفة ، وكلاهما بدأ حياته شاعرًا غنائيًا .

**********

 ولكن ( عزيز أباظة ) – على الرغم من اعتزازه بشوقي وتأثره به – لم يمتصه ولم يذب فيه ، يشهد بذلك وجوه اختلاف كثيرة بين الشاعرين من أهمها :

 1- انفرد عزيز أباظة بلون تمثيلي لم يضرب فيه شوقي بسهم وهو ( المسرحية الأسطورية ) فنظم من هذا اللون مسرحية ( شهريار ) التي يقول في مقدمتها : " ها نحن أولاء نقدم اليوم للمسرح العربي قصة ألف ليلة ، محاولين أن نعرض أسطورة الحياة الإنسانية في مراحلها الدنيا والعليا ، انتهجنا في عرضها ، نهجًا رمزيًا واقعيًا فشخوصها ترتدي أثوابًا نألفها ، وتتحدث بأنماط من الحديث ليست غريبة عن سمعنا ، حتى لأصبح من الميسور على القارئ أو المشاهد أن يطلق عليهم أسماء أناس عرفناهم ، أو بلغنا عنهم ، ولكننا إذا خسرنا النقاب ، وأزلنا ذلك اللحاء الظاهري ، فليس من المستبعد عندئذ أن نجد آدم في صراعه الأبدي من أجل حقيقة الحياة التي يحياها .

 وقد بلغ عزيز القمة في هذا اللون الأسطوري ، وأعتقد أنه لو استرسل فيه لأتى بالمزيد من المعجب المعجز .

**********

 2- كان عزيز أباظة أكثر من شوقي التزامًا بالواقع التاريخي ، فلم يخرج على خطوطه المرسومة ، كما فعل شوقي في بعض مسرحياته وخاصة ( مصرع كليوبترة ) التي حرف فيها شخصية الملكة تحريفًا كاملاً . فعلى عكس شوقي نجح عزيز أباظة في التوفيق بين الواقع التاريخي والمنطق الروائي الجمالي ، بل إنه يحرص في كثير من الأحيان على ذكر مراجعه التاريخية التي استقى منها مادة رواياته ، وإن أخذ عليه بعض النقاد إمعانه في حشد التفصيلات .. وإسقاطه بعض الروايات التاريخية المشهورة .

 وقد نوافق عهلى المأخذ الأول ونرفض المأخذ الثاني لأن من حق الفنان أن ينتقي من المادة التاريخية – ما دام يطمئن إلى صحتها – أو ضرورتها – ما يرى أنه يخدم فنه ويتفق مع متطلبات عمله القصصي .

**********

 3- غلبت على شوقي في أغلب مسرحياته طبيعته كشاعر غنائي ، فاقتحمت عليه هذه الغنائية عالمه المسرحي ، وفرضت عليه نفسها فرضًا ، فشوقي على سبيل المثال يجري على لسان شخصية مثل كليوباترة مقطوعات من عشرات الأبيات تصلح كل منها أن تمثل قصيدة مستقلة مفردة ، وهذا ما لا نكاد نجده في مسرحيات عزيز أباظة الذي وجه غايته الكبرى ، وبحاسة فنية قادرة إلى تصوير الموقف والأحداث وابتداع الشخصيات وتحديد ملامحها وتعميق الصراع الداخلي ورسم الحوار البارع الموحي .

**********

 4- أسلوب شوقي في كل مسرحياته أو في أغلبها – على الأقل – يكاد يطرد على نسق واحد . نرى فيه " الشاعر شوقي " أوضح وأقوى حضورًا من " المسرحي شوقي " .

 فلا نكاد نعيش " اسلوب عصر المسرحية " من ناحية الأداء اللفظي والنسق التعبيري . أما عزيز أباظة – على الرغم من استخدامه بعض الألفاظ المعجمية أحيانًا – فقد تبنى في مسرحياته ما يعرفه النقاد بالواقعية الفنية في اللغة ، حتى يخيل إليك أن كل مسرحية من مسرحياته نظمت في عصر أحداثها : فسمات الشعر الأموي واضحة كل الوضوح في ( قيس وليلى ) ، بينما نجد أسلوب ( العباسة ) أشبه ما يكون بشعر العصر العباسي .

 وهي إضافة فنية تسجل بالفخر ولا شك لعزيز أباظة . ولنقرأ هذه الأبيات التي ساقها عزيز صدقي في مسرحية " العباسة " على لسان أحد القواد في حرب الشام . وهي تذكرنا بجزالة بشار ، وقحولة المتنبي في حماسياته :

ولـما  تلظت ثورة الشام iiواغتلت
لـنـا قـوة مـن حقنا لم تلن iiلها
وكـنـا  اعـز الناس جندًا وقائدًا
وكنا أشد الناس صبرًا على الوغى
غـزا لهم بخوفٍ شعه في iiنفوسهم
وسـاروهـم  بالسيف اقطع iiباترًا
وخـيـرهم  بين  السلامة والندى






فـصلنا  إليها في الحديد iiالمجمُهِرِ
صـفاة  وأخرى من زعامة iiجعفر
سَـعَوُا  للمعالي في الحديد iiالمذكر
ومن  يدرع بالصبر للنصر iiينصر
ومـن يلق بالخوف المعارك يُدحَر
وثـنَّـى  بـرأيِ قاطع غير iiأبترِ
وبـيـن ركوب الموكب iiالمتوعر

 ويقول الأستاذ عمر الدسوقي في تقديمه لمسرحية عزيز أباظة ( أوراق الخريف ) شارحًا مفهوم الواقعية الفنية اللغوية : ( إن المراد بواقعية اللغة هو اتفاقها مع طبيعة الشخصيات المسرحية ... فهي واقعية نفسية وعاطفية تتطلب من المؤلف أن يتحلى بثقافة واسعة ونظرات ثاقبة في حالة المجتمع ، وفي نفسية الفرد ، وتفهمها تمام الفهم حتى لا يخلط وينسب إلى إنسان ما ، أو مجتمع ما ما لا يصح أن ينسبه إليه ، فلا يتحدث أمي بأفكار الفلاسفة مثلاً ، ولا يصدر من الشجاع ما يدل على أنه جبان " .

 وامتدادًا لهذه المقولة نرى أن عزيز أباظة كان أقدر من شوقي في خلق الحوار المعبر القادر على رسم أعماق الشخصية ، وجوانيتها ، مع براعة في اختيار الكلمات المصورة . انظر إلى كلماته على لسان شهريار في حالة هياجه وثورته :

غـدًا  أنـصب iiميزاني
أمـد  الـبطش بالبطش
أنـا  الـرافـع والـخا
أنـا الآخـذ iiبـالـذنب



فـإنـي  حاشر iiحشري
وأقـفـو  الذعر iiبالذعر
فض والفيصل في الدهر
ولا  عـذر لـذي iiعذر

**********

 5- وأخيرًا كان إنتاج عزيز أباظة المسرحي أغزر من إنتاج شوقي ، ونَفَسُهُ في كل مسرحية أطول من نفس شوقي بكثير . وكل مسرحياته تنطق بأنه أفاد أكثر من صاحبه من الشعر الروائي العالمي . وبذلك استطاع – إلى حد كبير – أن يتفادى العيوب التي وقع فيها شوقي من ناحية الأسلوب ، ومن ناحية التقنية الفنية .

 وهو يعترف صراحة بعمق تأثره بالغربيين في هذا المجال ، وأبرز هذه الحقيقة في تقديمه لمسرحية " قيصر " ، فذكر أنه متأثر – إلى أبعد حد – لشكسبير ، وبلوتارك وفولتير ، وكذلك بشاعر فرنسي معاصر متأثر بشكسبير هو " جبريل بواسي " .