جذور الصفصافه تمتد إلى مكة!
زغلول عبد الحليم
يقول الشاعر الكبير على أحمد باكثير ( 1934 – 1969 )
" استوحى في مسرحياتي تاريخ وطني الأكبر لا كتب عن هذا الحشد العريض من البشرية الذين يقال لهم : العرب ، فأنفذ إليهم من خلال السياسية والتاريخ لأنني أعتبر أن تاريخنا أكبر التواريخ جميعا وأشدهم امتلاء بالروح الانسانية "
وامتداداً لهذا المفهوم قدم الدكتور / صلاح عدس أعماله للقارئ فتعرفنا على انتاجه الشعري الذي يؤكد أنه على القمة، بما يملكه من قدرة عالية على استخدام مفردات اللغة الشاعرة بطريقة توقظ في القارئ كل الإحساس بالحدث وتحيله جزأ منه لا يكاد ينفك عنه بسهولة إلا إذا انتهي من قراءة العمل كله يمكنه ساعتها أن يعود إلى حالته الأولي ولكن بصعوبة ايضا لقد انشغل شاعرنا بالحشد العريض من البشر الذي يقال لهم العرب كما انشغل على احمد باكثير بهم من قبل وكانت جل أعماله تعبر عن تاريخ الأمة ومجدها وضياع ذلكم المجد بعد انشغالها بالترف المرذول الذي انهك قواها وجعلها فريسه لاطماع الأمم الأخري.
وللدكتور صلاح عدس إلى جانب المسرح الشعري اهتمامات اخري لا تقل في الجمال والروعة عما قدمه في مجال المسرح الشعري ويهمنا هنا ان نتحدث عن التصور الذي من خلاله يعبر صلاح عدس عن رؤيته لواقع أمته ومستقبلها وأذكر في هذا المقام أنني كتبت عام 1976 إلى الدكتور عبد السلام العجيلي رسالة طويلة أسأله فيها عن أهمية أن يكون للكاتب رسالة فرد برسالة أطول منها أكد فيها ضرورة أن تكون إلى جوار المتعة الأدبية رسالة مفيدة . والمتتبع للأعمال الأدبية بشكل عام يستطيع أن يقول أنها تكاد تخلو من الرسالة المفيدة ، أنها فقط تعبرعن الرغبات ليس إلا مع أن الوظيفة الأساسية للأدب هي أن يرتفع بالجماعة لا أن يهبط بها وهو قول حفظناه للدكتور طه حسين.
ونستطيع أن نستخلص من أي عمل فني التصور الذي يقدمه عن (الكون والحياة والإنسان)
وعليه يمكن الحكم على العمل بأنه يحمل رسالة من عدمه وهل هي رسالة مفيدة للمجتمع
أم لا؟
وقد تسببت اسطورة واحدة من الاساطير اليونانية في تشكيل مسرح عالمي ممتع ، الا وهي اسطورة ( سارق النار المقدسة) وهو كائن اسطوري كان الاله زيوس يستخدمه في خلق الناس من الماء والطين وقد احس بالعطف نحو البشر، فسرق لهم النار المقدسة واعطاها لهم . فعاقبه زيوس على ذلك بان قيدة بالسلاسل في جبال القوقاز حيث وكل به نسر يرعى كبده طول اليوم وتتجدد الكبد في اثناء الليل ليتجدد عذابه في النهار ولكي ينتقم زيوس من وجود النار المقدسة بين ايدي البشر ارسل إليهم ( باندروا ) أول كائن أنثي علي وجه الأرض ومعها صندوق يشتمل على كافة أنواع الشرور ليدمر الجنس البشري فلما تزوجها أخو سارق النار المقدسة وتقبل منها هدية ( الإله !) فتح الصندوق فانتشرت الشرور وملأت وجهه الأرض هذه الأسطورة تحكم كل الاعمال الأدبية وكذا الافكار والتصرفات في الغرب لا استثناء لأحد اسطورة تسيطر على كافة الأفهام .
ولكن امتنا لها ما يحكمها من تصور عن (الكون والحياة والإنسان) يختلف جذريا عما ذكرناه قبل قليل – فمن منا لم يتمتع بمسرح هنريك ابسن ، جان أنوي ، شكسبير ، اليوت ، تنسي وليامز الخ من كتاب أوربا كتابات ممتعه فنياً للغاية تبهر القارئ ولكنها تقتل فيه إنسانيته وجمال روحه وقد ابدع الدكتور عماد الدين خليل في تناوله هذا الموضوع في كتابه
( فوضي العالم في المسرح الغربي).
نحن إذن امام مشكلة عويصه إلا وهي كيف نتعامل مع الفكر أولاً الذي هو أساس الاعمال الادبية كما يقول استاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيري:
(لا بد من قاعدة فكرية لأي عمل أدبي) هم في أوربه لهم قاعدة فكرية ذكرناها ونحن هنا أيضا لنا قاعدة فكرية نعلمها على التحديد ويجب أن تكون هي أساس أعمالنا الأدبية والا تصبح الاخيرة أعمالاً بلا قيمة كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري.
فالكاتب حر يكتب ما يشاء ولكنه لا يستطيع أن ينسب عمله إلا لقاعدة فكرية وقد استطاع الناقد الكبير الدكتور حلمي القاعود أن يجيب ببراعة على السؤال الكبير وهو : هل كتب نجيب محفوظ الرواية العربية ؟
فقال : أنه كتب الراوية بالمفهوم الغربي !! أي أنه اتخذ قاعدة الفكر في الغرب اساسا لتصوره نعود لموضوعنا ونسأل عن القاعدة الفكرية التي حكمت أعمال الدكتور صلاح عدس ؟ هل هي التي حكمت أعمال صلاح عبد الصبور، والسياب، مثلا أم هي التي حكمت اعمال باكثير ، وأعمال عزيز أباظة وبالأخص على أحمد باكثير ، لقد استلهم عبد الصبور التاريخ ، واستلهم الشرقاوي التاريخ فهل قدما ما يؤهل كل منهما إلى ما وصلا إليه من مكانه في عصرهما ؟ لم يفلح كتاب الستينيات من كتاب المسرح إلا في تقديم الرؤية المخالفة للقواعد الفكرية التي من المفروض أن تحكم الفرد في مجتمعه.
يقترب الدكتور صلاح عدس من الاستاذ على أحمد باكثير وقد تلاحظ لنا هذا الأمر ونحن نقرأ ما كتبه الأديب ( يحي حقي ) عن باكثير:
" كان برهان طبعه تدخينه الغليون فهو يعينه على إطباق الفم ، على الصبر والعكوف على النفس والاستغراق في عالمه الخاص .. كان يحب السكون لا اللهوجة والتؤده لا التسرع ، والصوت الخفيض لا الجهير ، تواضعه الحجم يخفي انفه شديدة وعزه نفس مصونة من الانحناء من الدنايا "
صفات قريبة جدا من طبيعة الدكتور صلاح عدس الذي يقول ل
ما زال على البعد شراع
فسفينة نوح تمضي من غير وداع
حملت كل الأخيار
لم يبق على الأرض سوى الفجار
يا نوح ..
كادت تبلعنا الأمطار والإعصار
يسقط كل الجدران
ويكاد يشيب الولدان
واسودت كل الأفاق
خذنا معك من الناجين
أترى يلمحنا البحاره
فيعودون
اترى ينحسر الطوفان ( الطريق إلى مكة ص 27)
أي قلب أنت أيها الشاعر الملهم ؟ وإلى أي عصر تنتمي ؟ والطريق إلى مكة قصة رواها الكاتب النمساوي محمد اسد ( ليوبولد فايس سابقا ) والطريق إلى مكة أيضا رواها فلسفة وتأملاً ( مراد هوفمان ) متعه الله بالعمر والعمل الصالح وأخيرا طبقاً لما توفر من معلومات فالطريق إلى مكة رواها شعرا الشاعر الملهم صلاح عدس يقول صلاح عدس:س:
ولد الإسلام غريباً * ويعود كما بدأ غريباً
لا يجد حبيباً
عزباء
عزباء نحن كما قلت ويعصرك الهم
يا بن القيم ( الطريق إلى مكة ) ص 62
مشغول شاعرنا بقضايا الأمة فلا تشغله حكايات تخاصم الجسد كما شغلت نزار قباني رغم
عقبريته الشعرية فلا رساله له كما الخيام ولأن صلاح عدس صاحب رؤية واضحة عن
( الكون والحياه والانسان ) مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وهما
معاً مصدرا الفكر فأصيبت أعماله بما أصيبت به أعمال باكثير واكاد اجزم أن الدكتور
صلاح عدس مر بنفس التجربة المريره للكاتب العظيم على أحمد باكثير. وتكاد تنطق اعمال
صلاح عدس بالمنهج الذي ارتضاه لنفسه وبالقاعدة الفكرية التي ترتكز عليها كل أعماله
وهي الإيمان بالثنائية التي تميز مجتمعنا عن غيره من المجتمعات إنها الحداثه
البديل التي تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الابعاد الروحية لهذا الوجود إلا نتعرض
لما أطلق عليه الدكتور عماد الدين خليل كفوضى العالم والذي انتهي اليه الدكتور عبد
الوهاب المسيري من رفضه للانموذج المادي كذلك انتهي إليه روجيه جارودي ومراد
هوفمان ومحمد اسد وروجيه دي باسكويه من أصحاب الفكر المادي الذين انتهي بهم البحث
إلى
الإيمان بثنائية الوجود ورفض الاحادية وهي القاعدة التي ترتكز عليها الأعمال الفنية
والأدبية في مجتمعاتنا ولا يصلح أن يكون هناك قواعد غيرها تقوم مقامها وتعبر عنها
وأن محاولات فصل مجتمعاتنا عن خصائصها هي محاولات فاشلة وأن اصابت بعض النجاح بفعل
الدعاية السوداء ، وتغير الوعي الحقيقي بالخصائص الحضارية للأمة .
وقد جاءت الأعمال الشعرية للدكتور صلاح عدس معبره عن خصائص أمته فعلا نراها تعمل في بوضوح في ( البعث ) وهي مسرحية شعرية عن اسطورة القديسه (دميانه) التي واجهت وثنية رومه ونراها تعمل ايضا في مسرحية ( مأساة المعتمد بن عباد ) ونهاية دولة الطوائف وانهيار الاندلس وسقوطها بفعل الإحتلال والحروب الداخلية ونراها تعمل كذلك في مسرحية ( أبو زيد الهلالي سلامة) البطل الذي اسقط دولته !! ثم يأتي ديوان ( الطريق إلى مكه ) ليقول لنا قصة الصفصافه الممتدة جذورها إلى (مكه المكرمة) تحت الكعبة !! نعم أن الصفصافه في قرية صلاح عدس وكل قرية من قرانا – تصل جذورها إلى الكعبة هذا حق ولولا هذا الامتداد العظيم ما كان لنا خارطه وكنا لا نزال في جاهليتنا الأولي وجذور الصفصافه الممتدة إلى أحب بقاع الأرض إلى الله ورسوله وإلى نفوسنا وعقولنا هي كل عقيدتنا ولا يمكن أن يكون لنا خارطه إلا بهذا الامتداد الذي يحاول أعداء الأمة أن يقطعوه ! الامتداد في كل الجهات . مكة هي المرتكز الحقيقي مهبط الوحي الذي لولاه لكنا عميانا كما قال الدكتور مراد هوفمان.ن.
لقد كتب كثيراً مولانا الشيخ محمد الغزالي عن محاولات العدو قطع الصلة بالامتداد الاسيوي أي الامتداد إلى مكه ! والأمه بدون هذا الامتداد كما أوضحنا قبل قليل لا قيمة لها مطلقا إن حرم مكة المكرمة مساحة (550 ك م2) جعلها الله داخل هذه الدائرة مثابة للناس وأمنا وقال عز من قائل عنه ﭽ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ الحج (25)
إذن القضية قضية إعتقاد وتصور كامل عن الكون والحياة والانسان.
أنها قضية منهج فلا مقابله بين سرقة النار المقدسة وانتقام كبير الالهة زيوس والأنثي بانادورا والصندوق الملئ بالشرور وعقيدة ربانية المصدر تشكل القاعدة التي ترتكز عليها كل النشاطات الإنسانية لا مقابلة مطلقاً رغم ما في الأدب اليوناني من روعة الأداء وقوة الايحاء فقد جاءت تصوراته غاية الغرابة والإنحراف . إن الصراع يحدث في الأرض ولكنه ليس صراعاً مع القدر! ليس هناك ما يوجب الصراع مع القدر . إنما يكون الصراع مع الشر الكائن في الأرض يصارع الانسان قوي المجتمع وقوي الطبيعة .. إذا طغت عن حدها وحادت إلى الظلم ولكنه لم يصارعها وفي حسه أنها ( القدر ) ! ولا أنها البديل عن الله . ! وإنما يصارعها وهو مرتبط بالله، مترقب لقدر الله مطمئن إلى حماه .. ولا يستعجل نتيجة الصراع ، لأنه قد يستغرق الحياة الدنيا كلها.. ولا يكتمل إلا في الآخره يوم الجزاء.
لقد استطاع الدكتور " صلاح عدس " أن يقدم للقارئ المتعة الأدبية إلى جانب الرسالة المفيدة التي تحقق تكامل قيم الوجود الانساني وتداخلها وتوازنها لأن الإنسان لا يقوم وحده فهو مشدود إلى مجموعة من القيم وهو بناء على ذلك (ملتزم) والانسان ( اللاملتزم ) غير موجود . الإنسان لا يقوم وحده لأنه ليس خالق نفسه فهو مشدود إلى خالقه وإلى النواميس الكبرى التي فطر الله الكون والخلائق والاشياء عليها.
يقول الدكتور عماد الدين خليل في كتابه ( فوضي العالم في المسرح الغربي ) :
" .. فبقدر ما كان هذا المسرح ( المسرح الغربي المعاصر ) صادقاً وعميقاً ورائعاً لدي حركته في مدي الإنسان وعالمه بقدر ما كان كاذبا وتلفيقيا وبشعا لدي تخبطه في أمداء الكون والعلاقة بين الله والإنسان . ص 134
ويمكن القول – بصفة عامة أن المسرح الغربي يعكس لنا بوضوح نوعين من (الأزمات) ) أولالهما أزمه عصر والاخرى أزمة فكر وليس من المنطق ولا من الواقع أنه نفضل بين هاتين الازمتين لأن أحداهما انعكاس للآخرى وقد سيطر التقليد الأعمي لكتاب الغرب على قطاع عريض من كتاب الأدب بمختلف اجناسه واجتاح الغموض والعبث معظم أشكال الأدب تحت اسم الحداثه !! إنه الانبهار كما يقول الدكتور " عبد العزيز حمود " بقي نقطة أخيرة عن الذين رفضوا التقليد من كتاب الأمة وتمسكوا بالمنهج القائم على التصور الحقيقي للعلاقة بين ( الكون والحياة والانسان ) يقول الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط رحمه الله.
( يمثل النص الأدبي صورة فنية للحياة بقضاياها ومتناقضتها ونماذجها وبقدرتها على إثاره الاهتمام أو المتعة او الدهشة "
مجله الادب الاسلامي (عدد45) ص 19
ولا شك أن الدكتور صلاح عدس قد لنا صورة فنية راقية لقضايا حياتنا ومتناقضاتها من خلال نماذج تاريخيه هامة فأثار اهتمامنا وامتعنا من خلال المنهج الذي ارتضاه وهو ما توضح قبل قليل القائم على التصور الحقيقي للعلاقة بين (الكون والحياة والانسان ) يقول الدكتور صلاح عدس في ( الطريق إلى مكة) ص 26 عند الساقية المهجورة
وسط الأرض الجرداء المحزونة
ابصرت هنالك
أغصان الصفصافة تخضر ر
وستورق وستزهر