عفيف سالم في روايته "الخمس العجاف السمان"

عفيف سالم في روايته

"الخمس العجاف السمان"

نبيل عودة

كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة

[email protected]

الكتاب: الخمس العجاف السمان (لوحات من حياة مدينة الناصرة)

الكاتب: عفيف سالم

إصدار: مطبعة فينوس (1999)

الكاتب عفيف سالم، بالنسبة لي، أكثر من مجرد زميل أو كاتب آخر، إذ تكونت رؤيتنا الثقافية والسياسية الشاملة بترابط وموازاة، منذ جيلنا المبكر، وعبر  سنوات عديدة ممتدة وفاصلة في تكوين نظرة الإنسان لعالمه، بجوانبه المختلفة والمتشعبة. وأظن أن قدرتنا الإنشائية وعشقنا للأدب العربي، برزت في الصفوف الابتدائية، لنجد عبر ذلك ما يشدنا إلى هدف أدبي مشترك، وشاءت ضرورات الحياة وتكون وعينا الثقافي، أن نلتقي أيضاً تحت مظلة الفكر الماركسي، ولتتحول السياسة إلى النصف الآخر من تكويننا الشخصي، وليس الأدبي فقط.

السنوات، التي مرت منذ بداياتنا السياسية والأدبية، أكسبتني ميزة، بأني حين أقرأ نصاً لعفيف، أكاد أعيش تفاصيل أكثر مما استطاع عفيف أن ينقله، بالحبر الأسود... للقارئ العادي، وهنا لا بد من ملاحظة اعتراضية، بأني أعني النصوص النثرية، وليس نصوصه الشعرية التي لي معها ومعه مشكلة أخرى، قد أعود إليها في مناسبة لاحقة.

هذه العلاقة الخاصة مع النص وصانعه جعلتني أتردد كثيراً في تناول عمله الأدبي الأخير (رواية "الخمس العجاف السمان")، وذلك خوفاً من الحماسة التي ستقودني للمبالغة، وهو أمر أرفضه كما لا شك لدي أن عفيف يرفضه أكثر مني، أو العكس الذهاب لاتجاه لم يرده عفيف، وتكون النتيجة نفس النتيجة رغم اختلاف الحال.

الكتابة عن أو "نقد" عمل لأديب لا أعرفه و لا تربطني به أواصر صداقة ووحدة فكر رغم وجهات النظر المختلفة (أحياناً) أسهل كثيراً، وتتيح لي الحرية المطلقة في التعبير عن رأيي، حتى بتسرع. أما الوقوف والتأمل ومحاولة فذلكة موقف، للتحايل على ترددي في تثبيت رأيي، فهو حالة سمجة لا تتلاءم مع طبيعتي المندفعة في أغلب الأحيان، وتكمن الصعوبة أيضاً بكون تجربة عفيف الأدبية، وخاصة ذاكرته الأدبية، تشكل بالنسبة لي نوسطالجيا، فهل أستطيع أن أتجرد من كل ما ذكرته لأكتب بموضوعية؟! لأكتب بطريقة لا يشتم منها أني "آكل العنب وأقاتل الناطور"؟! إذا أعجبني العمل سيقول البعض: "لا أحد يقول عن زيته عكر" ، وإذا لم يعجبني فقد "تورطت" ليس مع صديقي الكاتب فحسب، وإنما مع بعض المتربصين، مع أن أمرهم لا يعنيني كثيراً.

هذه هي أجوائي وأنا أقرأ روايته الأولى " الخمس العجاف السمان" ، وهذه التسمية، حتى لو لم يكن اسم عفيف كدلالة عليها، كنت نسبتها بشكل من الأشكال لأجواء عفيف.

ما حسم أمري للكتابة أمران، أولاً غياب النقد أو صمته أمام هذا العمل، وأعمال كثيرة أخرى.. مما يطرح إشكاليات غير نقدية وغير مهنية.

 لكل الحق أن يقيم "الخمس العجاف السمان" حسب فهمة، وعلى رأسها سؤال (ربما هو استفزازي) عن المعايير الذاتية، وغير الأدبية إطلاقا... في المعالجة النقدية لنص ما، وثانياً منذ ولجت هذا الباب لم أعد أستطيع التراجع، ولم يعد هناك أي منطق في الكتابة عن نصوص لأدباء لا أعرفهم، وتجاهل نصوص لأدباء تربطني بهم علاقات صداقة خاصة وأحياناً مميزة.

وهكذا أوكلت أمري للقلم.

رواية عفيف سالم "الخمس العجاف السمان"، لم تنتظم في ذهني في باب الرواية.هذه الملاحظة لا علاقة لها بالنص، وقدرة النص على إيصال الدلالات التي يبتغيها الكاتب.

 وقفت حائراً أمام تصنيفها، ومتردداً في طرح وجهة نظري، وكما أقول دائماً، أنا لا أصدر حكماً نقدياً، إنما موقفاً ذاتياً، انطباعاً ذاتياً.

عفيف في روايته/ نصه يستعرض، عبر خمس لوحات، جانباً من تاريخ الناصرة وأجوائها المميزة، بتآلفها الاجتماعي والوطني، وشخصياتها الشعبية  الفولكلورية إذا صح هذا التعبير.... وقد نجح بشدي إلى هذه الأجواء التي كادت تختفي من ذاكرتي، تحت ضغط الأحداث المخجلة التي شهدناها في السنوات الأخيرة. في نصه " الخمس العجاف..."  أعادني عفيف ما يقارب خمسة عقود إلى الوراء. أعادني إلى "سدر هريسة أبي حافظ،" و "ترمس فول" أبي الياس وغيرهما من الذين ذكرهم ومن الذين لم يذكرهم. وكنت أسمع مجدداً النداء الأوبرالي "ترمس فول" لأبي الياس، الذي يشد لبسطته الزبائن أكثر من ترمسه وفوله المميزين حقا. وأعادني لأجواء الفران القديم في السوق، وعماله وناسه وتآلفهم وأجواء أعيادهم. وعلاقاتهم وطرائفهم، من هنا نجح بجعلي أغرق مع نصه، وأغضب مع نهاية كل فصل، أو لوحة.... راغباً بالمزيد. المزيد من إحياء الذاكرة، من إحياء شوقي لأيام شبابنا  الباكر، وقد بحثت عن نفسي داخل النص، فوجدتني في مواقع كثيرة، أحياناً مع الحدث، وأحياناً مع مسجل الحدث. كثيرة هي الأحداث التي كنا مساهمين في جعلها محطة تاريخية مميزة في سجل أيام الناصرة وأيامنا. دورنا يوم كنا طلابا ثانويين في تنظيم وقيادة مظاهرة الطلاب الجبارة التي بدأناها من مدرستنا، الثانوية البلدية (قرب العين وقتها) وصولاً لمدارس مفتان والأمريكان ثم التيراسانطة، متوجهين لمدرسة المطران الرابضة على قمة جبل من جبال الناصرة، محررين الطلاب من صفوفهم، بإضراب ومظاهرة طلابية صاخبة ضد مقتل الشباب العرب الخمسة، ثلاثة من حيفا واثنين من عرابة وسخنين، وليس خمسة من حيفا كما جاء في النص، وهذا يظهر أن الجريمة مخططة وليست وليدة الصدفة، ولا زالت صورهم المشوهة تزعجني حتى اليوم، وتصعب عليّ تصديق المستوى الحيواني للقتلة ولمخططي برامج القتل والتهجير ومصادرة الأرض والحكم العسكري، ولا زالت قصيدة محمود درويش في رثاء الشباب العرب الخمسة تهز مشاعري حتى اليوم، وكنت آمل لو أن عفيف ثبت أحد مقاطعها في نصه:

"يحكون في بلادي

يحكون في شجن

عن صاحبي الذي مضى

وعاد في كفن".

وكيف أنسى سحجة العذراء مريم (عيد البشارة الذي يعتبر عيدا لمدينة الناصرة حيث بشرالملاك جبرائيل العذراء مريم بأنها ستحمل وتضع ولدا هم المسيح ) تلك السحجة التي كانت تتحول الى عرس نصراوي، حيث تبدأ السحجة من كنيسة الروم، مع السيافين وزجاجات  العرق، التي تدور على صفوف السحيجة من كل الطوائف، متجهة الى دير المطران (كنيسة القلاية) ويدب الحماس بصفوف السحيجة، وتتفجر أحاسيسهم، ويتفجر غضبهم على السلطة العنصرية، وحكمها العسكري وتصاريحها التي تتحكم بلقمة خبز الشعب، وسياسة التمييز والاضطهاد بأبشع صورها وأكثرها حدة وسفالة، وبمصادرة الأرض، وحرمان الآلاف من العودة لقراهم على مرمى حجر أحياناً من لجوئهم، فتنطلق الشعارات والهتافات الوطنية، المناسبة للاحتفال بعيد البشارة ، مثل " يا عدرا يا أم المسيح، ارفعي عنا التصاريح". حقاً صلاة من نوع جديد، صلاة غاضبة متفجرة لشعب يرفض الذل والاستسلام والضياع، ويرفض أن يسمح لظالميه أن يقسموه بين مسلم ومسيحي، فها هم  جمعت بينهم المأساة والهم الواحة من الواقع الجديد،يسحجون سوية ويهتفون بمطالبهم سوية، ويواجهون البطش السلطوي سوية، جمعت  بينهم وحدة الحال والمصير وقنينة العرق والسحجة  والنضال الوطني والسجن بعد كل احتفال شعبي وطني لا يبقى من إيماءاته الدينية، إلا رموز نصراوية عامة ومشتركة، وموحدة.

ويواصل عفيف جولته في الذاكرة الثرية لشعبنا، وصولاً للحرب اللصوصية الاستعمارية ضد العراق، ولمشكلة أرض مدرسة ما يعرف ب"شهاب الدين" وكم يبدو مثيرو الفتنة والقلاقل "أقزام" أمام هذا الدفق المتجلي من تاريخنا، من سجل أيامنا، من تاريخ الناصرة الموحدة المتماسكة بالاحترام المتبادل والمحبة ووحدة الحال، بل وحدة الأعياد.. والكثيرون من أبناء الناصرة من طوائفها المختلفة رضعوا من نفس الصدر، من نفس الحليب، فكم هم تافهون أولئك المتشاطرون والمشغولون على تقسيمنا وعلى اثبات أن الناصرة صفتها الدينية كذا وليس كذا، متناسبين أن الناصرة مدينة عربية قبل أن تكون لها أي صبغة دينية أو لوثة طائفية.

هذا هو المحور الأساسي للرواية... وهو محور غني بعشرات الأفكار القصصية. عفيف اختار شخصيتين رمزيتين ولا أعني برمزيتين إنهما من نسيج الخيال فقط... وهما "أبو عماد" (المختار) وصديق عمره اللاجئ الطبراني " أبو كمو" الذي فقد صلته بعائلته بعد عاصفة مأساة التشريد، وهو رمز واضح لفقدان الشعب الفلسطيني لوطنه وتشتته .

أبو عماد استقبل " أبو كمو" ووجد له غرفة ملائمة، وتطورت العلاقة بينهما رغم فارق الجيل، الرمز هنا لقدرة شعبنا على عبور المأساة وبناء ذاته من جديد. وعبر هذه التيمة الهامة يتم استعراض التفاصيل والأحداث والأخبار والحكايات وما يجري في كواليس النظام وحكمه العسكري.

واضح أن عفيف لا يكتب لأبناء جيلي فقط، أو لمن عاصر الناصرة منذ الخمسينات من القرن الحادي والعشرين، أو حتى قبل ذلك، ومن هنا لا أستطيع أن أقدر رد فعل من عاصر الناصرة منذ الخمسينات أو حتى قبلها، ومن هنا لا أستطيع أن أقدر رد فعل من لم يعاصر هذه الأحداث، هل نجح عفيف بإثارة دهشتهم؟

النص كرواية يفتقد لعنصر الدهشة الروائية، رغم أن الحدث التاريخي ثري بتفاصيله وأبعاده. عفيف يحاول أن يبني عنصر الدهشة على مرض "أبو كمو" الذي حير الأطباء في علاجه... وانتظار "أبو عماد" بجانب سرير صديقه، حتى يعود إلى وعيه والى الحياة، وتكون تلك مناسبة لسرد ذكريات ما جرى وما كان... وعلّ ذلك أيضاً يساعد "أبو كمو" على الشفاء.

الشخصيتان، رغم كونهما مركزيتين وأساسيتين بقيتا شخصيتين تعبران عن أفكار عفيف وآرائه وانطباعاته، دون أن ينجح عفيف بإبعادهما عن ذاته، وإطلاقهما كشخصيتين لهما كيانهما المستقل وأفكارهما الخاصة، وتعابيرهما الخاصة.

أعتقد من جهة أخرى، أن النص أقرب للسيرة الذاتية، أو للمذكرات الشخصية، وهذا الأمر لا ينتقص من قيمة النص، وليس بالضرورة أن يكون النص الرزوائي أفضل من نصوص السير الذاتية أو المذكرات.

لغة عفيف تنساب بليونة ودون مبالغة بالوصف، ورغم كل شيء نجح عفيف بتوثيق فترة هامة من حياة الناصرة وأجوائها.

اللوحة الخامسة والأخيرة، يبدو أنها تحتاج إلى إعادة "طبخ" على نار هادئة، إذ شعرت أنها كتبت باستعجال وتسرع، وكأن عفيف أنجز مهمته الأساسية ويريد أن يقفل الموضوع ليتفرغ لأمر أخر.

هناك ميل واضح للوعظ، ولكن عفيف كان حذراً بأن يوقف الوعظ قبل أن يصبح عائقاً فنياً.

"الخمس العجاف السمان" هي تجربة اولى وجديدة في مسيرة عفيف الإبداعية وهي إضافة هامة لمكتبة الأدب المحلي، ولمن يريد أن يعرف جذور الناصرة، التي لا بد أن تطلق من جديد.