مدارجُ أم معارجُ أم كلتاهما معاً

محاولة استنطاق غير نقديةٍ لقصة

( مدارج العودة ) للكاتبة هيام الفرشيشي

ياسر الوقاد

للقصِّ الذي يحتفظ بنكهته المقاومة للصدأ و الجفاف تقنياته الذكيَّة التي تمنحه البكارة بُنيويَّاً و النصاعة رؤيويَّاً، لا يعني ذلك انسياقه وراء شعاب الضبابية و لا قذفه في أرضٍ مجدبةٍ مكشوفاً للمتلقي؛ فتأكله عواملُ المـُناخ و لا يبقى طويلاً، إنما النص الخالد ذلك الذي يحمل عشبة خلوده في باطنه و لا يستدعيها من الخارج، و لعلَّ الذكاء يكمن أحياناً في مفارقة الخطاب السائد و توليد الفنيَّة من غير المتداول .قصة ( مدارج العودة ) للكاتبة و القاصة التونسية هيام الفرشيشي لا تبتعد عن نطاق هذا التوصيف؛ فهي تحمل إيقاعها الفني المتصاعد في باطنها من خلال تشكيلها غير النمطي و رؤيتها الحادَّة؛ إذ تجنح القصة عن سير القص التقليدي المحتفظ بأساسياته التمثالية كالشخصيات و الحبكة الدرامية و الحلبتين الزمانية و المكانية والجةً بالمتلقي إلى باطن الكاتبة و كاشفةً له رؤيتها الواعية و ما يسيل من عقلها الباطني من هواجسَ و انطباعات تسجلها بحبر شفَّاف على أرغفة المخيلة .لقصة ( مدارج العودة ) تشكيلها الذي يحمل استعارته المـُفارقة لخط النمو الشكلي، و الاستعارة هنا ممتدَّةٌ على طول النص؛ فللقصة خطَّان مشتبكان معاً : خطٌّ دراميٌّ متصاعدٌ يبدو واقعياً يمتدُّ من ( إدينبورج ) بأسكتلندا و مطارها إلى مطار ( جاتويك ) جنوب لندن و ينتهي بمطار ( قرطاج ) التونسي، يتخلل هذا الخيط كثيرٌ من الخيوط المتشعبة منه أو المشتبكة به نتيجة اعتماد الكاتبة على كاميرا عالمها الباطني و لجوئها المتتابع إلى ألبوم ذاكرتها، و ثمة خطٌّ ثانٍ تنقل فيه الكاتبة قارئها عبر هذه الكاميرا الباطنية إلى آبار وعيها الخاص و بحيرة فلسفتها اللبنيَّة التي تلطِّخ لغتها النقية طيور الدم التي تشتعل في سماء الأرض المقدسة بعدما ثقبتها قنابل الفوسفور الأبيض .إذن ثمة مسار شكليٌّ للقصة لا يبدو بالسطوع الذي يبدو عليه المسار الباطني، فما رحلة الكاتبة / بطلة القصة تلك التي تنقلها من أسكتلندا إلى تونس و لكنها هذه التي نقلتها من عبثية المعنى إلى اليقين الوجودي .كل ذلك يفسِّر ابتعاد القصة عن القولبة التقليدية و عن الهلامية الحداثية في نفس الآن، و ازدحامها بالصور الأليفة وجهاً و الصادمة للوعي فيما تحمله في خلفياتها من وهجٍ و قلقٍ إذا دقَّق المتلقي التأمل في طبيعة هذه الصور و كيفية التقاطها من غابة الذاكرة المشتعلة، حيث تتحول اللغة الدافئة التي تمنح المشهد شفافيته و حميميته إلى دبابيس أسئلة تثير عاطفة المتلقي و تؤلم ضمير العالم .ينقلنا ذلك إلى ما تقدِّمه الكاتبة من رؤية إنسانية تُدين ما يغطي عيني العالم : قذاهما أو نظارتيهما الدمويتين و ما يغطي وعيه : صمته أو نطقه المستبد، و إدانتها تأتي بشكل مقارنة جدلية بين مشهدين تحملهما في باطنها : مشهد الحياة الأسكتلندية عندما تطل من أدراج الذاكرة بكل ألوانها الطاووسية و مغناطيسيتها العاطفية الجذابة، و مشهد الدم الذي يلطخ حياة الفلسطيني يومياً، و لعل مذبحة السابع و العشرين من ديسمبر عام 2008م و ما تلاها من عدوانٍ على غزة هي التي أثارت الكاتبة و وقفت مقابلاً للمشهد الأسكتلندي الذي مثَّل عيِّنةً للمشهد الحضاري الغربي بأكمله في داخلها .تقف الكاتبة بوعيها و تأملها و تساؤلها و استنطاقها لما يقذفه لاوعيها من لمعان المعاني و رغوة الهواجس بؤرةً وسطيةً بين المشهدين، و كثيراً ما تُبدي جهةً من الجهتين و تخفي أخرى تاركةً للمتلقي استكشافها أو لأن الداعي لكشفها يسقط؛ فهي بيِّنةٌ للجميع، مثال ذلك التخفِّي يبدو عندما تصور المشاهد الأسكتلندية تصويراً نقليَّا لا يخلو من شذرات المجاز أحياناً فهي تبدأ من هذه الدراما المضيئة بكل نبض الحياة و وهج المتعة، و تتركنا نستدعي الوجه الآخر الذي يمثل حياة الفلسطيني الذي يفتقد كل ما وصفته لنا من مباهج الحياة الأسكتلندية :" يوم الاحتفال لم تمنع الأمطار الغزيرة الصغار صحبة عائلاتهم من الالتفاف بالشارع الرئيسي الذي مرت منه مئات السيارات و الشاحنات الزاخرة بشبان و أطفال يرتدون أزياء تقليدية و أخرى رسمية ، يرمون أكياس الحلوى والشكولاطة للأطفال ، كما عبرت جوقات موسيقية و فرق راقصة ، تؤدي عروضاً استعراضية ، يتجلى عبرها التراث الفني الاسكتلندي ."و كذلك تقول : " ترى البعض يسيرون مسافات طويلة أو يتسلقون الروابي والهضاب : عجوز و زوجها يسيران ببطء ، شبان و شابات يمارسون رياضة العدو ، كهل اختار مشاهدة بعض البناءات الأثرية التي شيدت على الروابي من مقعد على ضفاف بحيرة ، أطفال صغار رفقة آبائهم ، شخص يطالع كتابا قد ينسجم موضوعه مع إطار تأملي جمالي ... أما من اختار البقاء بالمنزل ، سيعود حتما إلى آلته الكهربائية لتشذيب أعشاب حديقة المنزل أو الأحواض التي تحيط به   "و هي بهذا الوصف الذي تسلط فيه الضوء على بعض سلوكيات المجتمع الأسكتلندي و بعض جمالياته تضع استفهامها البازغ من رؤيتها الإنسانية : لماذا يكون كل هذا في أسكتلندا و ما شابهها من بلدان و يُحرم منه الفلسطيني ؟! فالفلسطيني الذي لا يختلف في إنسانيته عن أي إنسانٍ آخر لا يجد متسعاً لملء حياته بما يشتهيه، فليس هناك شارعٌ للأمراء يؤمُّه السياحُ، و ليس ثمة إيقاعٌ غير إيقاع المدفعية و غارات القاذفات العمودية و النفَّاثة و ليس ثمة احتفالٌ غير طقوس الشهادة و لا بناياتٌ هندسيةٌ و لا محمياتٌ طبيعيةٌ و لا حدائقُ عامَّةٌ يتجسد فيها الجمال الحي؛ فكل شيء أمام الفلسطيني تشظَّى و تحوَّل إلى نقيضه .هكذا يكون التخفِّي، أما الكشف لذراعيْ المعادلة المتناقضتين فمثاله : " في الأثناء بدت الضحكات الساخرة جرعات للسخرية السوداء حين تتحول الضحكة إلى استعارة لليأس وغياب المعنى .. وحين تبتلع صديقتي الفلسطينية مرارة الحرقة إزاء الحرب التي شنها الطيران الإسرائيلي على غزة ... كانت تضحك وتبكي حين تحولت الضحكة إلى ضحية يمعن الجلاد في التنكيل بها "و أيضاً قولها : " اختفت عن ذاكرتي صور الأطفال الذين يلتقطون الحلوى والشكولاطة إلى أطفال يغير الطيران الحربي على مدارسهم ... و حل محل المزود الاسكتلندي صراخ الثكالى والأيتام في فلسطين "إنَّ هذه الثنائية التي تلحُّ عليها الكاتبة تبسط ظلها على النص كله و عند إتمام تلقي النص يدرك المتلقي أبعاده و ماهية ثنائيته التي تغدو ثلاثيةً إذا حيَّدنا الكاتبة و جعلناها بكاميرا باطنها عالماً منفصلاً يلقي رؤيته الموضوعية على زاويتي المشهد . غير ما تقدَّم ثمة انعطافةٌ حادَّةٌ في النص ، و لعلها التقاء انعطافتين : نصيةٍ بيِّنةٍ و نفسيةٍ باطنيةٍ ، تبدو عندما يمتلك بطلة القصة شبح الموت على متن الطائرة القادمة من لندن إلى تونس ، و هذه الحبكة الدرامية المؤلمة تكشف موقفاً أيدلوجياً مغلفاً بإنسانيةٍ شفافة .يأتي ذلك في سياق الثنائية التي سقناها من قبل : " المضيف يشرح للركاب كيفية التصرف في حالة تعرض الطائرة إلى حادث ، ولا أحد يستمع إلى ما يقول ، بعض الركاب نكسوا وجوههم في صفحات كتاب أو جريدة أو مجلة ، والبعض أداروا وجوههم للنوافذ البلورية ، والبعض ينظرون إلى حركات المضيف " لكن بطلة القصة عندما تواجه احتمال الموت تخالف انطباع بقية الركاب؛ فإنه يوقظ فيها معانيَ إنسانيةً و أسئلةً مصيريةً و قلقاً إيمانياً لا يوجد عند أغلبهم : " لم يبق لي غير قراءة القرآن والقيام بواجب الشهادة والرضى بالميتة التي قدرها الله لي . فهل أكون شهيدة كالفلسطينيين الذين يباغتهم الموت فجأة ؟ "إن هذا اليقين الباطني هو الذي منح بطلة القصة القوة لمقاومة شبح الموت : " فدبت الحركة بعيني وصارت تجذب الشريط الروحي فتتفصد الحركة في الجسد وتهرب الكائنات العزرائيلية الصفراء بعيداً "هذه الانعطافة القاسية تحمل استعارتها أيضاً بجلاءٍ و تخفٍ معاً فلم تكن سوى حلمٍ ثار بكل جهامته في باطن البطلة / الكاتبة و ما هو إلا صدى موحش لموتٍ أكثر بشاعةً : " كان هذا الحلم مرايا الموت المهزوم ... لقد توقف الطيران الإسرائيلي عن القصف بعدما رسم لوحته العبثية "نهاية النص تكشف وجْهَيْ الاستعارة و تبين قسوة الانزياح ؛ فالموت الذي باغت بطلة القصة على متن الطائرة القادمة من لندن موتٌ مجازيٌ لموتٍ آخر كانت القاذفات الإسرائيلية تصبُّه على كل مناحي الحياة في غزة ، و لعل قدوم الطائرة من لندن يحمل إشارة تاريخية و سياسية مؤلمة فلندن هي القمقم الذي وُلدَ منه مارد الموت على متن الطائرة و على أرض الواقع معاً؛ إذ لا يمكن إغفال المسؤولية التاريخية للبريطانيين في خلق الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين .هذه الومضة الدالة تُحمِّل النص أبعاداً جديدةً إضافةً إلى أبعاده السابقة التي تجعله ، مجتمعةً ، قابلاً لأن يكون خطاباً فكرياً و إنسانياً للآخر الذي يَغفل عن كثيرٍ من الحقائق و يقفُ مختبئاً وراء قناعٍ ثقافيٍّ و وميضٍ إعلاميٍّ يشوهان له الصورة و يقلبانها لتصبح متوافقةً مع رؤيته السياسية و الفكرية الموجودة سلفاً .قبل الختام يمكن العيش داخل النص و كأن المتلقي يعيش رحلةً قلقةً ممتدةً من فضاء التأمل و دفتر المذكرات الذي تطنُّ عليه نحلة السؤال إلى موانئ اليقين ، حيث تمتلئ النفسُ بهوائها المسلوب ، و يهتدي الوعي الضالُّ إلى منارة الحقيقة .لي أن أسألَ ، أخيراً ، كقارئٍ و مُعيدٍ للقراءة : هل هي مدارجُ للعودة أم معارجُ للترقي و كشف معادن الحياة و قسوة التناقضات الإنسانية ؟ و لعل الثانية تكون المعنى الخفي للأولى ؛ فهنا يُمثل مطار قرطاج نهاية الرحلة و نقطة الوصول إلى الأرضية الثابتة ، و هو أيضاً مُعادلٌ للصعود إلى أرضية اليقين التي يخطو عليها الشهداء في ظل عدالة السماء .