بين النحاس والألماس من وراء نوافذ حزامة حبايب 

بين النحاس والألماس

من وراء نوافذ حزامة حبايب 

حذام العربي

حزامة حبايب – من وراء النوافذ – قصص – منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية – دون مكان – الطبعة الاولى 2010 

كتاب من القطع المتوسط يقع في 126 صفحة. ويحوي ستة عشر نصا

جاء على غلافه الاخير قائمة بمؤلفات الكاتبة وتعريف مقتضب بها، وقائمة جوائز حازت عليها. وعلى غلافه الامامي لوحة تشبه نافذة يطل منها ما يقارب ثلاثة ارباع وجه امراة، يستطلع باستقراء متأمل وبنهم واستغراب، ما يجول وراء النافذة. ذقنها يتوسد باطن راحة يدها، وتظهر جليا عنايتها بالأصباغ والألوان، اذ صبغت شعرها القصير المدَبب والمُصفف بعناية فائقة، باللون الليلكي، وأظافرها بطلاء احمر. وزينت اصبعها الوسطى بخاتم أنيق، تتوسطه جوهرة مستطيلة، وكأنها شفافة، ينعكس في جزء منها، اللون الليلكي كالحا .

تصدَّر الكتاب صفحة 5 جاء فيها، ما يشبه "قانون ايمان" وزارة الثقافة التي أصدرت الكتاب

قدم الكتاب الاديب محمود شقير بعنوان "حزامة حبايب في قصصها .. تهميش الناس في واقع غاص بالتشوهات". 

بداية أشير الى ان هذه هي المرة الأولى التي اقرأ فيها من انتاج هذه الكاتبة.

اصطادني العنوان وشكل الغلاف، وأعترفُ انه دفعني بالارتباطات الذهنية، الى هواية انسانية، طالما حاولت، وبذلت الجهود المضنية، لانكارها وللترفع عنها. أو على الأقل الابقاء على وجودها سرا مفضوحا، وأحيانا عدم الاعتراف بوجودها. ألا وهي التلصص، إن كان نهارا أو ليلاً، من وراء النوافذ وثقوب المفاتيح، وشقوق الابواب وغير ذلك من المتاح. قد يكون التلصص من وراء النوافذ من الصفات السلوكية السلبية في معظم تجلياتها. ولكنها بمعايير مشابهة ومضامين مختلفة تصبح من اكثر الصفات ايجابية، ومن أعظم ما أوتي الانسان من صفات، انه حب الاستطلاع والاستكشاف، علما أن الفرق واضح والبون شاسع بين هذه وتلك، ويساعدنا على تحديد الفرق بينهما لسان العرب، فهذه صفة انسانية ملازمة للتقدم العلمي والنهوض الفكري وللتأمل في أسرار هذا الكون، وتلك ممجوجة في أقل تعديل

لا أرمي هنا الى الحكم القيمي على هذه الصفة أو تلك، انما الحاجة تستدعي التنوية بالأمر.

القراءة متعة وفائدة وغواية أيضا، أغواني المشهد، فولجت الى القراءة من وراء نوافذ حزامة حبايب متوقعة، الإطلال ولو من بعيد، على كواليس خفية، غرائبية وفضائحية وقد تكون من المحرمات. هل يجوز للقارئ أن يطل أو يتلصص فيما وراء السطور؟ أم أن للمفردات معان، ولا يجوز لنا في هذا السياق استعمال مفردة "التلصص"؟!

بداية، ودون الخوض عميقا في مسألة الجنس الادبي، بعض ما قرأته من نصوص في الكتاب، يشبه اللوحة او المشهد، ولا يتعداها، وإن جاء على لوحة الغلاف الأمامي، انها قصص. في عصر الفوضى الخلاقة في الأمن والاقتصاد، وفي والسياسة والابداع عموما والأدب بخاصة، هذا الذي نعيشه اليوم، من عولمة الأدب، وأدب العولمة، وباقي مستوردات، أخشى ما أخشاه، مناقشة ما يسمى مسألة الجنس الأدبي. هذه أتركها للمختصين من نقاد الأدب والابداع، فأنا بحمد الله قارئة من الإمعة.

بعد قراءة النص الخامس بعنوان "خيط ينقطع"، انقطع حبل الود بيني وبين هذه المجموعة

ما قرأته وصولا الى هذا النص، نجح في استنفاذ كل متعتي وغوايتي. ولكنني استمريت في القراءة حتى آخر سطر في آخر نص، انطلاقا من حفظ القيمة والواجب والتأدب في حضرة الادب. وذلك انني لا القي بكتاب بدأت بقراءته جانبا، أبدا، انها مسألة قيمة أخلاقية محسومة. فالكتاب ضيفي وله حق علي.

كافة النصوص، زخرت بأوصاف جزيئية وتفصيلية للوحات ومشاهد اجتماعية، لما يمكن تسميته الحياة اليومية للانسان المهمش والمستضعف، أو المتوسط والعادي من الناس. منها ما تطرق الى الظلم والاضطهاد الأسري الواقع على المرأة، والقمع المجتمعي للضعيف، وذل العوز المادي والاقتصادي. القهر الاجتماعي والكبت الجنسي بأبسط تجلياته. نصوص في مفردات انسيابية جميلة وسائغة للقارئ العادي، ولكنها لا تكشف عن الوجوه دائما. تتعكر احيانا، بتعكر الحدث، وترحل الى اماكن استثنائية، وتلجُ الى عوالم رمادية، يرتبط فيها المادي والجسدي بالنفسي والمعنوي والاجتماعي والاقتصادي احيانا. ولكن الغالب على النصوص وفيها، الجسد ومتعلقاته.

بإستثناء النص الاخير بعنوان "الإصبع"، لم يخل أي نص من وصف جزيئي وتفصيلي لفضلات الجسد، على اختلاف أشكالها وألوانها وروائحها. ولم تترك النصوص مدخلا أو مخرجا أو ثقبا في الجسد الانساني، بما في ذلك مسامات الجلد، إلا وتطرقت اليه. وجاء التطرق عبر محاولة اشراك القارئ بكل حواسه وأداوته الجسدية لتفعيل هذه الحواس، السمع والبصر واللمس والشم، والذوق ايضا. ورصدت بإسهاب يصل حد اثارة الملل، افرازات وسيلان فضلات الجسد، من مخارجه المتعددة، في مواقف مختلفة واحداث عادية جدا، في سياق علاقة الانسان العادي، بجسده في أكثر اللحظات خصوصية.

صحيح ان هناك حدود واضحة، بين الافلام الاباحية، أو ما يسمى بورنوغرافيا، وبين مقاطع أو مشاهد جنسية في سياق فيلم ما، تماما كما ان هناك حدودا واضحة بين انتاج أدبي روائي وبين تقرير صحفي، فالشيء أحيانا يعرف بضده، وصحيح ايضا ان الكثير من الانتاج الادبي قد يقع في الخانات الرمادية. لكن، إن إلتبس الأمر على القارئ الإمعة مثلي، تبقى بوصلته في "حاسة الذوق" كمعيار ودليل. ولمثلي من القراء، كانت وجبة القراءة والتأمل في "فضلات الجسد" هذه فائضة عن الحد، كما جاء التعاطي معها، فجا واقتحاميا

أدهشني السؤال لماذا هذا الكم الفائض عن المعيار، من فضلات الجسد، والمحشو حشوا في النصوص؟ حتى خلت ان المسألة تشكل هاجس ما، قد أكون ممن لم ينعم الله عليهم بالبصيرة الكافية والدراية اللازمة لفهم مكنونات هذا الهاجس، ولا أكتم القارئ سرا، فبعد قراءة النص الخامس، صرت أنا القارئ، اتشكك في نفسي وفي "حاسة الذوق" الأدبي عندي، وأحاسب نفسي لماذا لا أحب الاستمرار في قراءة هذا الكتاب؟!.

سألتني جدتي ذات يوم، وهي أميّة، ما الفرق بين النحاس والألماس؟ وبفصاحة طالبة في المدرسة الثانوية، تدرس الكيمياء، رحت أردد لها ما حفظته عن المعادن، إبتسمت وقالت، ان النحاس مهما نلمعه لا يستطيع أن يعكس وهج الشمس كما يفعل الألماس، هذا ببساطة عند جدتي كل الفرق، وهكذا ببساطة لم تستطع هذه النصوص أن تبهرني أو تدهشني أو حتى تشدني للاستمرار في القراءة، بين ألماس جدتي ونحاسها، وبعد أن انتهيت من قراءة هذا الكتاب لم يمكث في نفسي شيء مما شاهدت وقرأت من وراء النوافذ، سوى هذا الكم الفائض من فضلات.

تجدر الاشارة الى ما جاء في الصفحة الثانية، "صدر هذا الكتاب استمرارا للاحتفال بالقدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009 "، علما أن هناك قواعد مرعية ومعتمدة للنشر في كل أنحاء العالم، منها تسجيل اسم الناشر، مكان وزمان الاصدار، قرأت بعيون فلسطينية محزونة، وبضيق وانقباض، دلالات اهمال مكان صدور هذا الكتاب، وتلاطمت في ذهني أصداء لاسئلة عديدة، هل هو خطأ مطبعي عادي؟! هل سقط سهوا؟! هل تم اصدار هذا الكتاب على كوكب المريخ مثلا؟ أم انه تهميش حقيقة حياتية واقعة بموجبها رام الله، وليست القدس، هي عاصمة ومقر وزارة الثقافة الفلسطينية؟! أم أنه عجز الناشر عن الاعتراف بعجزه، وقصوره عن التنويه بمكان الاصدار؟