مستويات التلقي والتأويل في القصة المغربية المعاصرة

مستويات التلقي والتأويل

في القصة المغربية المعاصرة

محمد يوب

[email protected]

إن المتتبع للشأن الأدبي في المغرب يلاحظ بأن القصة بدأت تزاحم الشعر،بل تتعداه أحيانا، ولهذا يمكن أن نقول ونجزم بأن الزمن المغربي المعاصرهو زمن القصة بامتياز، نظرا لاهتمام النقاد و الأدباء بهذا الجنس الأدبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

والسبب في اهتمام القراء بالقصة(بكل أشكالها وأنواعها)هو ما تفرضه متطلبات الحياة الثقافية،التي تسير بوتيرة سريعة تفرضها سرعة وتيرة الحياة ومستجداتها،وبذلك تكون القصة هي الجنس الأدبي الممكن و المناسب، الذي يتابع عن قرب هذه المستجدات،وذلك بنقل الواقع وتقديمه في شكل أدبي بين أيدي القراء،كل واحد يقرؤه ويؤوله حسب الأزمنة و الأمكنة وأنواع القراءات.غير أنه ينبغي على القارئ احترام حدود القراءات وحدود التأويلات،لكي لا يسقط في عملية الهدم من أجل الهدم التي تقتل العمل الأدبي.

ونحن في هذه الدراسة المتواضعة سنتطرق إلى عملية التلقي و التأويل ليس على مستوى الدراسات النقدية،ولكن على مستوى الإبداع القصصي ،سنتتبع مستويات تلقي المبدع القاص للنصوص القصصية ابتداء من علاقته بالعالم الخارجي ومحاولة تأويل هذا العالم و نقله للقارئ المتلقي،الذي يتلقاه بطريقته ويحاول إعادة قراءته وتأويله انطلاقا من زاويته ورؤيته لهذا العالم.

وتتم عملية نقل الواقع ومتغيراته بين أطراف ثلاثة يشكلون ركائز هامة في عملية التلقي و التأويل ،وأقصد بهذه الأطراف الثلاثة: القاص/النص/ القارئ.

لأن كل فعل قرائي يدخل في إطار علائقي بين القاص و المتلقي،وتكون اللغة القصصية هي الوسيط في عملية التلقي والتأويل،لما تتميز به اللغة القصصية من إيحاءوتكثيف،وترميز،وتضمين. ولذلك فإن القارئ/المتلقي يكون مطالبا بالانتباه إلى طبيعة الرسالة التي يوجهها القاص،هذه الرسالة التي تتصف بطابع الخفاء و التجلي،بمعنى أنها تتضمن معنى مضمرا وآخر ظاهرا،وما على المتلقي إلا استيعاب الظاهروتأويل المتجلي.

ولتحقيق ذلك ينبغي على المتلقي أن يتعامل مع الرسالة(القصة)كبنية شمولية،فيفهم دلالاتها من سياق النص وليس عن طريق عملية الإسقاط على النص،لأن القراءة التأويلية أنواع منها:

1/ القراءة النصية : التي تتناول النص في ذاته ولاشئ غير النص،بحيث إن القارئ يتعامل مع القصة من حيث الظاهر فيكشف عن بنيتها الداخلية المتمثلة في البناء والبنية الفنية ،ثم بعد ذلك يحلق عاليا بمخيلته في تأويل لغة النص،متقصيا الدلالات و الحمولات الفكرية،التي توحي بها هذه القصة أو تلك.

ففي قصة (الجلاد إياه) للقاص عبد السلام جاعة، نقرأ النص على مستوى البنية الفنية التي تبين درجة التحول في لغة القصة التي انعكست إيجابا على تحول القصة على المستوى الدلالي و المفاهيمي، بحيث إن القاص يتتبع حالة رجل سلطة، اتصف بصفة الغلظة و الجلفو الفظاظة في فترة من فترات حياته،عندما كان في عنفوان شبابه وفي كامل صحته،وعندما أحيل على التقاعد غير من أفكاره "أحب مهنته ونبغ فيها ، ابتكر طرقا مذهلة في جلد المواطنين..... حين شاخ طالب برئاسة هيئات المقاومة "
لقد أصبح فيما بعد رمزا من رموز المقاومة،بعدما كان عاتيا متعنتا، وهذه ظاهرة واضحة في أي مجتمع ينتشر فيه الفساد السياسي و الإداري،ولهذا فإن القارئ لهذا النص لا يحتاج إلى مزيد عناء،من أجل تأويله بل يكتفي بقراءته وتأويله في ضوء الثقافة السائدة في مثل هذا النوع من المجتمعات،وفي هذه الحالة تكون تأويلات القراء متقاربة بل متشابهة،لأن القصة ذات حمولة فكرية يلتقي ويتقاطع في التقاطها وفهمها كل القراء..

2/القراءة التناصية: وهي القراءة التي تدخل في حوار مع المخزون القرائي و الموروث الثقافي،.فمثلا في قصة (قرابين ملوك)للقاص حميد الهجامي يشعر القارئ وكأن القصة تحكي واقع الأمة العربية،والصراع القائم بين الحضارات بل بين القوة الأمريكية والموقف العربي المتخاذل،تجاه أخيه العربي الضعيف،ويظهر هذا من خلال غيرةالبطل،ورغبته في الدفاع عن الطفل الضعيف،الذي يرمز إلى شخصية عربية حاكمة تعرضت للذل والمهانة من طرف العدوان الأمريكي،وهي شخصية صدام حسين"استوفزت وكان ذلك الجلف قد تمكن من إحكام قبضة يده اليسرى على عنق الطفل،وشرع يسدد صفعات متتالية براحة يده اليمنى حتى كاد يطوح بالصبي أرضا.لم أحتمل تلك الفظاظة ووحشية المبارزة اللا متكافئة،أيقظت بداخلي غريزة الشعور بالأخر،المستضعف المفترض في تلك اللحظة." وستظهر معالم هذه القراءة التناصية مع المخزون الثقافي عندما أشار إلى موقف الدول العربية التي عبرت عن موقفها الخجول"فانتهزت فرصة هدنة،كانا خلالها واحد إزاء الآخر،في وضعية مصارعين،يلهثان، فألبست شفتي بسمة جدية وتدخلت بشكل حازم مخفضا من نبرة صوتي عازما على وضع حد لهذا الاعتداء:

ـ حرام عليك يا أخي تتصرف بهذه القسوة مع طفل. ثم أضفت بانفعال لم أتحكم في انبجاسه...جسده لا يحتمل كلَ هذه الرعونة.

لم يقوَ على تحمل قسوة ألفاظي فصرخ في وجهي:

ـ و ما دخْلُك أنت ؟

وهناك إشارات لغوية أخرى توحي بمصداقية هذا التأويل وخاصة عندما وظف القاص لفظ الجلف الذي تكرر كثيرا في الحرب الإعلامية الخليجية "وبينما كان الصبي يلوح إلي بيديه الصغيرتين لمحت يد ذلك الجلف تسحبه بعنف من رقبته"

 وكذلك عندما شرع البطل في التجوال في دروب و أحياء الوحدة وهي إشارة إلى شعارات الدول العربية الجوفاء التي لا تتحول إلى أفعال"حين بلغنا حي الوحدة خففت من سرعة خطاي وكانت الفيلات خفيضة البناءات ذات واجهات مزدانة بالزهوروالنباتات،والصمت الذي كان يرخي بظلاله الكلسية على المكان كان يضفي لمسة حزن تبدت إثرها بلكونات تلك المنازل شاحبة ومخيفة. كان الجو كئيبا. ..."

والقصة تتناص من حيث الموروث الثقافي مع الميتولوجيا الفينيقية التي تؤمن بالإله ملوك إله الشر و النار،هذه الأسطورة التي وظفها القاص محمد الهجام لغرض إيحائي،عبر من خلالها عن قوى الشر الموجودة في كل عصر وفي كل مكان لكنها تتلون بألوان مختلفة،وكان توظيفه لها لتبيان جبروت وغطرسة هذه القوى،واحتقارها للضعفاء وتقسيم العالم إلى من معها ومن ضدها .

القراءة التداولية: إنها قراءة تخضع لتأثيرات المحيط الخارجي و المعلومات المكتسبة،ففي قصة (حجاج موسكو)للقاص أحمد السقال، يشعر القارئ وكأنه أمام موقف سياسي عميق، وأن القصة تتضمن حمولة فكرية وأيديولوجية بالغة الدقة،ففي ألفاظها شفرات تفهم في سياقها السياسي،وبالخصوص في مرحلة زمنية محددة،بالغة الدقة وشديدة الحساسية،في مرحلة كان فيها الاتحاد السوفيتي يتميز بالقوة العسكرية والموقف السياسي الصلب،الذي لا تؤثر فيه رياح الغرب التي تحكم العالم حاليا"أعطته موسكو لقمة عيش لأنها باردة وعادلة
لم تعطه موسكو وضعا اعتباريا ،لأنها باردة ولا تؤمن بهبوب الرياح الحارة التي لا تحترم منطق الفصول والأقاليم.."وفي هذه القصة تخضع الأحداث إلى تأويلات متعددة بتعدد الرؤى الفكرية و الأيديولوجية،لأنها تتضمن إحالات واضحة لمرجعيات فكرية لها ثقافة عالية في الفكر السياسي المعاصر،ولها إلمام شامل بمتغيرات وتطورالأحداث،فبالرغم من شعورنا برمزية وغموض هذه الأحداث إلا أنها تبدو فقط مبعثرة،فما على القارئ إلا إعادة تشكيلها ووضعها في إطارها ومرجعها السياسي والأيديولوجي .

إضافة إلى ذلك فإن القصة تشير إلى شخصية في التاريخ العربي الإسلامي،وهي شخصية الحجاج الذي اتصف بالصرامة واستقامة الموقف،وهنا إشارة كذلك إلى نجاعة المواقف الصارمة وضرورة التحلي بشئ من الدكتاتورية التي تحافظ على السير الطبيعي لأي حكم ونظام سياسي،وتوظيف هذه الشخصية راجع إلى عمق ثقافة القاص،وغوصه العميق في الموروث الثقافي العربي القديم.

كما أن القاص في هذا العمل الإبداعي،لم ينقل الواقع بشكل حرفي لكي لا يسقط في ميكانيكية أبحاث أخرى في العلوم الإنسانية ،بل تشعر وكأن القاص متفق مع القارئ فيما يقول وهو اتفاق ضمني يتداوله الطرفان الأساسيان في عملية التلقي و التأويل.

ولكي تكون عملية التأويل في القراءات الثلاث ناجحة وناجعة،ينبغي أن تمر بدورها بثلاث مراحل وهي:

1/مرحلة الإدراك: وهي المرحلة التي يشتغل فيها القارئ على فك رموز القصة و الغوص في تفاصيلها،من أجل الوصول إلى درجة عالية من الدقة و التركيز،وعملية الإدراك لاتتم دون تذوق النص والتناغم معه،وتمهيد الذهن للدخول في مرحلة الفهم.

2/مرحلة الفهم: فعند إدراك أحداث القصة وفك رموزها ينتقل القارئ إلى مرحلة الفهم،التي تساعد على إنتاج آليات وأدوات يستطيع من خلالها تفسير وتأويل النص القصصي.

3/مرحلة التخزين: وهي المرحلة التي يتمكن فيها القارئ من توظيف مكتسباته المعرفية ومخزونه الثقافي ومحصلته القرائية خلال فترات مختلفة من حياته.

فالقاص ينقل المحيط الخارجي بكل تجلياته بطريقة أدبية تنهض على مكونات العمل الأدبي،التي تميز النصوص الإبداعية عن باقي النصوص بمختلف أشكالها، وعند نقل القاص لهذا العالم بعد تأمله والتمعن فيه وتأويله بلغته الخاصة.فبعد أن كان هذا العالم عبارة عن علامات،ثم ألفاظا،فتراكيب ثم عبارات، وينتهي بالدلالات و الحمولة الفكرية التي يوحي بها.فإن القارئ/المتلقي بدوره يقوم بنفس العملية التي قام بها القاص لكن بشكل تفكيكي،حيث إنه ينطلق من الدلالة و الحمولة الفكرية ثم إلى العبارة فالتراكيب،ثم الألفاظ فالواقع أو العالم الخارجي،لكن عملية التفكيك هذه ينبغي أن تكون مزامنة لعملية البناء،لأن تفكيك النص يكون القصد منه الوصول إلى مقصدية القاص،و العامل الوسيط بين المرسل"القاص" و المتلقي"القارئ" يكون دائما هو اللغة.

يمكننا فهم هذه العملية من خلال الخطاطة التالية:

الواقع.....الألفاظ.....التراكيب.....التعابير....الدلالات ( خط سير القاص)

الدلالات.....التعابير...التراكيب...الألفاظ.....الواقع    (خط سير القارئ)

وهكذا يتمكن القارئ من إعادة إنتاج هذا العالم الخارجي من خلال قراءة و تأويل العمل القصصي،في ضوء رؤية إلى العالم ومن خلال الأيديولوجية التي يؤمن بها ،فيصبح القارئ قاصا من نوع آخر ،بمعنى يصبح مبدعا مفتقرا إلى اللغة،لأن اللغة القصصية هي التي تميز الإنسان القاص عن الإنسان القارئ.

و  يكون الفعل القرائي صحيحا إذا كان مبنيا على آليات منهجية،أما إذا كان التفكيك عشوائيا،فإن تأثيره يكون سلبيا على القاص و على العمل القصصي،لأن القارئ ينطلق من افتراضات مسبقة يسقطها على النص قد تلائم هذا النص أو تعارضه،لأن لكل نص قصصي لغته،ونظامه وتسلسله،كما أن للقارئ رؤاه وبنيته الذهنية وقدراته المعرفية التي تساعده على فهم النص،ولهذا ينبغي أن نعلم بأن لكل نص قارئه كما لكل قارئ نصه.

وغالبا ما ينطلق القارئ من عتبة العنوان وفهم المضمون العام للعمل القصصي من خلال وضع العين على الكلمة المفتاح،ويمكننا تتبع ذلك من خلال(سريرمن الهواء) لأحمد شكر،فهذا العنوان مغر ومثير للجدل لما يحتويه من دلالات وحمولات فكرية،كما أن شغف القارئ بالقصة يساهم في التعاطي معها على مستويات الإدراك و الفهم و التخزين.

فلإدراك مغزى العنوان لابد من فهم الكلمات المشكلة لهذا العنوان،وتشغيل المخزون الثقافي الذي تحتفظ به الذاكرة،فهذا النوع من الأسرة لايوجد في الواقع،وإنما يوجد في المتخيل الشعبي و الجماعي للذاكرة العربية والإنسانية،وفي ذلك إشارة تناصية ببساط الريح الذي تغنى به الشاعرالعربي قديما.

وعندما يتوغل القارئ في مضمون القصة،يلتقط الكلمة المفتاح التي هي الشخصية المحورية(عبد العالي)وفي ذلك إحالة إلى الإنسان(العبد)و العالي(الله)فعبد العالي رمز لكل إنسان معجب بنفسه وبنرجسيته،وكأنه مخلوق من طبيعة أخرى غير الطبيعة البشرية المرتبطة بالتراب،وبجاذبية الأرض وهموم أهلها .(العناصر)ص 42.

فالمتلقي بهذا المعنى يفكك ما تلتقطه عينه من متواليات لغوية،متناسقة،فيسقط عليها ما يحمله في ذهنه من حمولة ودلالة خاصة به،وهكذا دواليك تتعدد القراءات بتعدد المتلقين للنص الواحد.

والقراة في النهاية لا يمكن أن تزيغ عن ذات المتلقي ومزاجيته،سواء أكان هذا المتلقي قاصا أم قارئا، فالقاص يقرأ العالم الخارجي انطلاقا من مزاجية القاص،والمتلقي يقرأ القصة انطلاقا من مزاجية القارئ"مهما أحاول أن أكون موضوعيا،فلن أستطيع أن أستحسن القصيدة من شعر أبي نواس إلا إذا لاءمت نفسي ووافقت عاطفتي وهواي ولم تثقل على طبعي ولم ينفر منها مزاجي الخاص" طه حسين (في الأدب الجاهلي)

إذا يبقى عامل المزاج و لحظة القراءة عاملان أساسيات في إنتاج قراءة تجنح نسبيا إلى الصواب وتبتعد عن إصدار الأحكام الجاهزة التي تتأثر بالمحيط الخارجي وبالأحكام المسبقة التي تؤثر سلبا في قراءة الأعمال القصصية خاصة و الأعمال الإبداعية بشكل عام.