مسافر نحو الفجر للشاعر علي صالح الجاسم
حسن النيفي
ما يميز الحركة الشعرية المعاصرة ، هو نزوعها نحو التنوع والتباين إن على مستوى أشكال الكتابة ، وإن على مستوى المضامين الشعرية ، ولئن كان هذا الأمر يعدُّ مصدرَ ثراءٍ وخصوبة على المستوى الإبداعي ، فإنه من جهة أخرى ، يكشف تناقضاً حاداً ربما وصل في بعض الأحيان إلى حدّ التطرف ، وبخاصة فيما يتعلق بفهم آليات التفكير الحداثي في الأدب عامة وفي الشعر خاصة .
يقوم ديوان " مسافر نحو الفجر " من حيث الرؤية ، على موضوعتين محوريتين ، هما : الوطن والمرأة ، إضافة إلى بعض القصائد الوجدانية الأخرى ويمكن أن تكون قصيدة " رسالة إلى أبي فراس " تجسد لنا مدخلاً مناسباً وسهلاً للدخول إلى فضاء الرؤيا الشعرية للشاعر علي صالح الجاسم ، ولعل سعي الشاعر مخاطبة أبي فراس شعرياً ، يجعلنا نؤكد أن القصيدة تتجه نحو استحضار القوة الغائبة واستدعاء الأمجاد الغابرة في عصرٍ لا ينبئ إلا بالخور والوهن والخذلان . ولعل القصيدة هذه برمتها إنما تنهض على مفهوم " النيرفانا " ـ الحنين إلى الماضي ـ الذي غدا الملاذ الأمثل للذات القومية المفجوعة ، ولئن كان مما يؤخذ على الفكر القومي أنه ينطوي على نزعة رومانسية ، ربما وجدت في استدعاء الماضي المجيد تجلياتها السافرة ، فإن رومانسية الشاعر علي الجاسم تفصح بوضوح عن دواعيها ومبررات حضورها :
عـربٌ وإسـلامٌ وكـلُّ خمسون مرّت والسؤال هو السؤال بـمـتـى وأين وكيف لا وسؤالنا وإذا الـذي بـيني وبين خلاصنا وطنٌ من البحر الكبير إلى الخليج | سـلاحناخـطـبٌ مـنـمَّـقةٌ وحرفٌ وكـلُّ مـا نـسـطـيـع أنا نقنع فـي كـلِّ زاويـة يـروح ويرجع بـاغٍ يـثـلّـث مـوتـنـا ويربّعُ مـكـبَّـلٌ مـن كـل وغدٍ يصفعُ | طيّعُ
إن واقعاً عربياً بهذه القتامة ، وبهذه الدرجة من العجز والوهن ، هو ما يجعل الشاعر يتلفت فلا يجد في الواقع الراهن ما يسعف كبرياء الأمة الجريح سوى " المثال الغائب : شخصية أبي فراس الحمداني " التي توحي أو تحيل إلى مفهوم القوة والصلابة ، ولعل الشاعر يدرك تماماً على مستوى الوعي الفكري ـ أن الشرط التاريخي الراهن لا يمكن أن ينجب شخصية كأبي فراس الحمداني وأن ما يحلم به ويحن إليه أمر متعذرٌ بل مستحيل ، الأمر الذي جعل صياغته الشعرية تتصدر بحرف الشرط " لو " :
لو كان فينا من شموخك قبسةٌ = ما أرهبوا فينا النفوس وصدَّعوا
ولعل المعنى النحوي للأداة " لو " (امتناع النتيجة لامتناع السبب) يختزل دلالة القصيدة كاملة ، لو وُجد المثال الغائب لما كان الواقع الراهن ، ولما كان من طبيعة الرومانسيين التشبث بالحلم ، فإن شاعرنا علي الجاسم شاء ألا يغلق نافذة أحلامه ، فجعل نهاية القصيدة مشروعة على بصيص من التفاؤل :
إنا سنبعث لا يغرك صمتنا إن العواصف بعد صمتٍ تقلع
قد قالها التاريخ هذي أمة فصلٌ لهم ، ولها الفصول الأربع
ربما يعيد للنفس العربية شيئاً من اعتبارها ، أو يرمم كبرياءها المتصدع . يقول الشاعر في قصيدة " مسافر نحو الفجر " :
تلك التي كانت الدنيا تدين فلا ترى غير عدلٍ عمَّ ساحتها بـنو أمية ما بادوا وما رحلوا تـرى المآذن مروانية صدحت | لهابـعـدلـها وبرب واحدٍ ولا تشمّ سوى الرَيحان إن عبقا فهم على عهدهم ورداً ومغتبقا فـيها وحسبك تكبيرٌ إذا انبثقا | خلقا
ولعل القارئ المتمعن لمجمل القصائد الوطنية التي ضمها الديوان سيجد بلا شك ، أن الخطاب الشعري للشاعر إنما ينبعث عن الأيديولوجيا القومية المتواشجة مع الإسلام ـ الحاضن الأساسي للثقافة العربية ـ تلك الأيديولوجيا التي رفعت ـ عبر خطابها السياسي التقليدي منذ عقود ـ شعار النضال على جبهتين ، التحرر الاجتماعي الداخلي ـ ومقاومة الاستعمار ، ولكن توالي الإحباطات والنكبات الوطنية والقومية ، وتكريس القمع وإبادة مبادئ الديمقراطية والاستهتار بآدمية الفرد ، وكذلك استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين والجولان واحتلال العراق ، كل ذلك زعزع ثقة الجماهير بنبرة الخطاب القومي ، وما عاد هذا الخطاب قادراً على الإقناع كما كان في عقدي الخمسينات والستينات بل تعززت القناعة في نفوس الكثيرين من أبناء الأمة بأن الرموز التي تسلطت على رقاب الناس هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن البؤس الوطني والقومي ، وبالتالي هي الكابح الحقيقي لأية نهضة عربية محتملة .
أما الموضوعة الرئيسية الثانية في ديوان " مسافر نحو الفجر " فهي المرأة ، وما ينبغي توكيده في هذا السياق هو أن الحضور الأنثوي في الخطاب الشعري المعاصر إنما يتميز بانزياحه عن مساره التقليدي المعهود ، بل غالباً ما يمتد إلى مساحات واسعة وآفاق أخرى ، ربما تكون بعيدة بعض الشيء عن علاقة الرجل بالمرأة على المستوى العاطفي والبيولوجي معاً ، وغالباً ما جسدت القصائد التي تتخذ المرأة موضوعاً لها نزوعاً يتعلق بذات الشاعر وأزماتها وإخفاقاتها الحياتية والنفسية ، وبتعبير أدق أقول : لقد أصبحت المرأة ـ بالنسبة إلى الشاعر ملاذاً روحياً يأوي إليه بنفسه المثقلة بالمنغصات ، والمتورمة من الوجع ، الهاربة من مطارق الكبت ، وهكذا يعبر الشاعر في حديثه عن المرأة ـ بطريقة غير مباشرة ـ عن إحساس حادّ بالاغتراب ، ولعل القصيدة التي تحمل عنوان " وحدي " هي خير مثال على ما ذكرت ، يقول الشاعر علي الجاسم :
آتٍ أنا لست أدري كيف ذا جميلة أنت فوق الوصف سيدتي نفيت نفسي على أطراف ذاكرتي أنـا المُضيع لا ألوي على أحدٍ | أبداًفـالـلـيل حاصرني لكنني لاشـكّ أنـك وهـمٌ كالحكايات شـوقاً إليك وقد تاهت شراعاتي فـفي نشيدي حماقات الحماقات | آتِ
ولعلني أميل إلى الظن بأن المرأة التي يخاطبها الشاعر في أغلب قصائد الديوان هي المرأة " الحلم " هذا الحلم الذي من شأنه إعادة التوازن إلى ذات الشاعر المضطربة .
ولئن كان علي صالح الجاسم في شعره أميناً لتجليات الفكر القومي في طروحاته المعهودة ونزعته الرومانسية السافرة ، وكذلك إن كان حريصاً على تجسيد رؤية عروبية مشحونة ببعدٍ إسلامي جعلت نظرته إلى المرأة تتسم بالعفة والسمو ، فإن ما يعنينا في هذا السياق ـ ليس التجسيد الفكري لما ذكرت فحسب ، بل يعنينا أيضاً ، التجسيد الجمالي والفني لما أراد أن يقوله الشاعر ـ ومن هنا يمكننا العودة إلى ما بدأنا به الحديث فنقول : إن الشاعر علي صالح الجاسم ـ يطمح على المستوى الفني ـ أن يكون له صوته الخاص ، كما يطمح أن يكون مجدداً متفاعلاً مع الآخر ، غير منغلق على نفسه ولكن ضمن الأطر الكلاسيكية للشعر العربي ، فحافظ على رصانة اللغة ونقائها ، وحسن الديباجة ، وسلامة التعبير ، وكذلك على الوزن والقافية ، والنبرة الغنائية الصارخة ، الأمر الذي يخولنا الذهاب إلى أن شعره امتداد للشعر التراثي بقواعده وأعرافه المعهودة ، ولكن الشاعر آثر أن يكون مضمار التجديد لديه هو المضامين الشعرية ، وأساليب التعبير ، وبناء الصورة ، ولعل نهج الشاعر علي الجاسم في شعره جاء تجسيداً لمقولة غاندي المشهورة " إني لأفتح جميع نوافذي لكافة التيارات الثقافية ، ولكني لن أسمح لأي منها أن يقتلعني من جذوري " ، وإن القارئ لمعظم قصائده سوف يجد تداخلات نصية عديدة تثبت انفتاح نصوصه الشعرية على نصوص أخرى ولعل في طليعتها القرآن الكريم .
ومما هو واضح أن الشاعر استطاع أن يجسد في مخيلة القارئ صورة المجد العربي في عصره الذهبي ، فاستثمر مقولة الخليفة العباسي هارون الرشيد مخاطباً الغيمة : " أينما حللت سيأتيني خراجك " وذلك من خلال اعتماد الشاعر على فاعلية المجاز فكانت هذه الصورة البديعة " هارون من مقلتيها يعصر العنبا " التي تنسرب إلى وجدان القارئ بعذوبة وسلاسة ، لتعيد خلق المعنى من جديد ، أضف إلى ذلك أن نشاط الصورة في هذا السياق الاستعاري يأتي مشحوناً بالفكرة وكأنه يعيد صياغتها من جديد ، ولم يكن نشاطاً خيالياً مجانياً لا ينطوي إلا على التهويم والخواء .. وإذا تأملنا قوله :
إني تركت الأمس مجبولاً بجمرٍ من لهيب
صرخات قلبي خلّدت شوقي وأبقت من شحوبي
فلكم سمعنا صوتهم يعلو ولكن من بعيد
فسوف ندرك ـ بلا شك ـ أن هذه القدرة المتميزة على التعبير عن خلجات النفس وعمق المشاعر إنما تتم عبر تواشج الخيال مع العاطفة ، وهذا هو سرّ التأثير في القارئ أو المتلقي ، ولعلني على يقين من أن الصورة الفنية مهما كانت نادرة وبعيدة الغور ، لا يمكن أن تسهم في عملية الخلق الجمالي إن كانت مفرغة من بعدها الوجداني .
وثمة ظاهرة أخرى في ديوان " مسافر نحو الفجر " تجدر الإشارة إليها ، ألا وهي وجود نمطين شعريين في الديوان ، نمط يعتمد على التعبير المباشر الذي يقترب من لغة المنابر ، وبخاصة في القصائد ذات الهاجس السياسي ، كقوله على سبيل المثال :
يـا أمـتـي ونيوب البغي تنهشنا أخي أفق ، فكلانا في الهوى عربٌ خـذها أخي حكمةً واعمل بها أبداً | أيـن الـرجـال كأنا لم نعد ومـسـلمون ، ألا ما أعظم النسبا لا يقهر الظلم إلا السيف إن ضربا | عربا
وثمة من يبرر هذا الضرب من الشعر بالقول : إن الشاعر هنا يخاطب شريحة واسعة من الجماهير ويهدف إلى إلهاب المشاعر وإيقاظ الأحاسيس ، وبالتالي لا مندوحة له عن الخطابية أو المباشرة ، ولكن أودّ التأكيد على الخاصة النوعية للشعر ، ذلك أن خطاب الشاعر هو غير خطاب رجل السياسة أو رجل الدين . أما النمط الشعري الثاني فهو التعبير غير المباشر الذي يعتمد براعة التصوير حيناً ، والإيحاء والإيهام حيناً آخر ، ويشيع هذا الضرب في أغلب قصائد الشاعر الغزلية والوجدانية ، وربما بطريقة أكثر حضوراً في قصيدة " الشهيدة " التي لا تكشف فحواها للقارئ إلا في البيت الأخير . وهذه تذكرنا بتقنية عمر أبي ريشة التي تدخر المفاجأة للقارئ في البيت الأخير من القصيدة .
وبعد : هذه نظرة عجلى في ديوان " مسافر نحو الفجر " حاولت رسم بعض الملامح الأساسية في هذا الديوان وليست دراسة نقدية لكل نتاج الشاعر .
وبإيجاز سريع أستطيع القول : لا يمكن لتجربة شعرية أياً كان شأنها أن تحقق مبتغاها الفني ذلك أن الكمال الفني ليس بوسع شاعر ادعاؤه ، ولكن يمكن الاطمئنان إلى أن تجربة الشاعر علي جاسم الصالح تسير في الاتجاه الصحيح ، وتنم عن حيازة صاحبها موهبة خلاقة ، كما تفصح عن امتلاكه أدواته اللغوية والفنية باقتدار واضح ، إنها تجربة شعرية جديرة بالقراءة والتأمل ، تعد بالخير الكثير ، مما يجعلنا ننتظر منها المزيد والمزيد .